الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عناية بالتراث:
وقد بدأ القسم الأدبي نشاطه في إذاعة التراث ونشره من خلال مطبعة بولاق الكبرى، وكان من ذلك موسوعة «صبح الأعشى» للقلقشندي الذي ظهر في 14 مجلداً سنة 1920 م باسم دار الكتب المصرية، ثم أنشأت الدار مطبعة خاصة بها، جمعت لها كل أسباب الجودة والإتقان، فخرج الكتاب التراثي من هذه المطبعة في أبهى حلة وفي أنقى صورة، وتستطيع أن تقول في اطمئنان أنها أول مرة تحظى كتب التراث بتلك العناية الفائقة، وافَتحْ جزءاً من كتاب «الأغاني» أو «تفسير القرطبي» واعجَبْ ما شئتَ لهذا السخاء في جمال الحرف وتنسيق السطور واتساع حواشي الصفحات، ثم دقة التصحيح والمراجع، ولا يكاد يشبه مطبوعات الدار هذه إلَاّ مطبوعات لجنة التأليف والترجمة النشر، مثل:«سمط اللآلي» ، و «إمتاع الأسماع» للمقريزي، و «شرح الحماسة» للمرزوقي، ومطبوعات دار المعارف في أيامها الأولى.
ولعل أول كتاب صدر عن القسم الأدبي عن مطبعة الدار هو «نهاية الأرب» للنويري الذي بدأت طبعه محققاً سنة 1923 م، وقد كانت الصيحة المدوية لدار الكتب المصرية تبنَّيها لطبع كتاب «الأغاني» لأبي الفرج الأصبهاني، بعد طبعات سابقة في مصر وفي أوروبا، وقد تكفل بنفقات طبعه رجل من أعيان مصر هو «السيد على راتب» المتوفى سنة 1955 م. وصدر الجزء الأول منه سنة 1927 م، وحظي بعناية كاملة، في إعداد الأصول، ودقة التصحيح، وصنع الفهارس التحليلية، في نهاية كل جزء من أجزائه.
وفي مطبعة دار الكتب المصرية، وعلى منهجها القويم، خرجت هذه النفائس: تفسير القرطبي (عشرين جزءاً)، والنجوم الزاهرة في أخبار مصر والقاهرة لابن تغري بردي (12 جزءاً)، وكان صاحب الفضل في نشر هذا الكتاب، عبد الخالق ثروت باشا رئيس وزراء مصر، سنة 1922 م، فهو الذي أشار على الدار بطبع الكتاب، وكان لهذا الوزير عناية بالعلم ونشره، فقد كان عضواً في تلك الجمعية الخيرية التي قامت على نشر كتاب «المخصص» لابن سيده، سنة 1902 م.
ومن إصدارات دار الكتب في ذلك الزمان: شروح سقط الزند، لأبي العلاء المعري (خمسة أجزاء)، والتعريف بآثار أبي العلاء (مجلد ضخم)، وعيون الأخبار لابن قتيبة (أربعة أجزاء)، والطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز ليحيى بن حمزة العلوي (ثلاثة أجزاء)، وأساس البلاغة للزمخشري (جزءان) والفاضل للمبرد والمعرَّب للجواليقي، ومعجم ألفاظ القرآن الكريم للأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي، رحمه الله رحمة سابغة.
ومن دواوين الشعر: ديوان الهذليين (ثلاثة أجزاء)، ودواوين: مهيار الديلمي (أربعة أجزاء)، وزهير بن أبي سلمى، وابنه كعب، وحميد بن ثور، وسحيم عبد بني الحسحاس، وجِران العَوْد، ونابغة بني شيبان، وتميم بن المعز لدين الله الفاطمي. ومن الموسوعات التي بدأت الدار طبعها ولم تتمه: مسالك الأبصار لابن فضل الله العمري، والمنهل الصافي لابن تغري بردي.
وتدور الأيام، وتضعف العزائم بضعف الرجال، ويدعو الداعي إلى شيء نُكُر، وهو إلغاء القسم الأدبي، يقول شيخنا عبد السلام هارون، رحمه الله:«ثم ضعفت العناية بهذا القسم، إلى أن تولى الأستاذ أمين مرسي قنديل إدارة دار الكتب، فقام بمجهود ضخم جدّاً، إذ حاول أن ينقذ هذا القسم من الفناء، فدبَّت الحركة فيه، ولكن الظروف لم تسعفه بتنفيذ فكرته النشيطة، وكاد القسم الأدبي في عهده يرتقي القمة في نشر موسوعات التراث، ولكن أطاحت بذلك فكرة خاطئة مغرضة، تزعم أن ليس من وظائف دور الكتب في أوروبا أن تضطلع بنشر التراث، وكأننا في جميع خطواتنا إنما نترسم أوروبا، في حقها وباطلها» .
قلت: وحين تولى الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم أشلاء هذا القسم المذبوح، حاول أن ينفخ فيه، فصدر في أيامه: إنباه الرواة على أنباه النحاة للقفطي، والخصائص لابن جني، ومعاني القرآن للفراء، والمعارف لان قتيبة.
وفي منتصف الستينات أراد القائمون على دار الكتب إعادة القسم الأدبي، فيما سمَّوه:«مركز تحقيق التراث» ، وتكون غايته نشر أعمال تراثية، ثم إعداد جيل
يتلقى فن التحقيق بوجه عملي، على يد بقية شيوخه وأعلامه، في رحاب دار الكتب حيث تتوفر المراجع: مخطوطة ومطبوعة. وقد وفق هذا المركز في نشر بعض الكتب بتحقيق علماء لهم في تحقيق النصوص سابقة، ومعاونة نفر من الشباب أُريد تدريبهم على تحقيق النصوص. ومن هذه الكتب: ديوان ابن الرومي (ستة أجزاء)، ومقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث، وكتاب الموسيقى الكبير للفارابي، والمذكر والمؤنث للمبرد، ولأبي البركات الأنباري، وكتاب الجواهر وصفاتها ليحيى بن ماسويه، ولا يزال هذا المركز قائماً، ولكن نشاطه قلَّ بصورة واضحة، ولعل الله يهيئ له من يقيل عثرته.
وقد أفسحت مطبعة دار الكتب المصرية مكاناً للهيئات العلمية من خارج مصر، فطبعت لحساب دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد - الهند، كتابين جليلين، أحدهما:«معرفة علوم الحديث» للحاكم النيسابوري، سنة 1937 م، وثانيهما كتاب:«إعراب ثلاثين سورة من القرآن الكريم» لابن خالويه، سنة 1941 م.
وبعد
…
إن لدار الكتب المصرية تاريخاً عريقاً في نشر الكتاب العربي، ولكن عوامل كثيرة من الاستلاب والمسخ والتشويه تحجب هذا التاريخ أو تطمسه. لكن القضية أكبر من ذلك: إن تاريخ مصر يُغتال، وإن صفحات رجالها تطوى، وإن أيامها تُغَيَّب. وكل ذلك يتم بأيدينا وأيدي غيرنا، ثم نقول: إن هذا الجيل ضعيف الانتماء لمصر! واللَّهُمَّ لا؛ إن في هذا الجيل خيراً كثيراً، لكن الذين يعرضون عليه أمجاد مصر يقفون به أحياناً عند مظاهر هينة جداً من تاريخ الأيام والرجال، ويذرون وراءهم أياماً عظيمة ورجالًا كباراً. وإن من أوجب الواجبات أن تنشر أمام هذا الجيل صفحاتنا المضيئة، ومن أهمها تاريخنا وجهادنا في طبع الكتاب العربي والإسلامي، فقد غبر زمان وجاء زمان وليس بين أيدي الناس - عرباً وعجماً - من جياد الكتب إلا ما طبع بمصر.
ثم جاء الزمان النكد، ودارت آلات الطباعة الغاصبة (الأوفست) تأكل تاريخ مصر أكلًا وتغتال أيام الرجال اغتيالًا، فتنزع من فوق الأغلفة ومن خواتيم الكتب
زمان ومكان الطبع، ثم تمادت فأسقطت أسماء المصححين والمحققين، ليقال بعد ذلك إن الحركة الثقافية قد انتقلت من مصر إلى البلد الفلاني والبلد الفلاني، ثم ليقال أيضاً:
كلا أبويكم كان فرعا دعامة
…
ولكنهم زادوا وأصبحت ناقصا
ويعلم الله
…
إنها ليست عصبية البلد تحملنا على ما نقول، ولكنها العصبية للحق المهدر، والغصب للتاريخ المهان، وربك يفعل ما يشاء.
* * *