الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اكتُشف لأول مرة تراث طيب لفكر المعتزلة، تطاول عليه العمر، مختبئاً في سراديب الظلام. وقد نشر من هذا التراث المكتشف ثلاثة نصوص للقاضي عبد الجبار: المغني، والمجموع المحيط بالتكليف، ثم شرح الأصول الخمسة. ولا يزال هناك الكثير من تراث المعتزلة مما صور من اليمن ينتظر الدراسة والنشر. وكان الموجود من هذا التراث بين يدي الناس لا يزيد على الكتب الثلاثة. وترجع أهمية هذا التراث - كما كان يحدثني الأستاذ رحمه الله إلى أنه يعرض لفكر المعتزلة بأقلام أئمة الاعتزال أنفسهم، وكان كل ما يكتب قبلًا عنهم إنما يأتي من قبل خصومهم، وفي هذا ما فيه.
وفي شهر مايو من العام الماضي كانت آخر رحلاته رحمه الله، حيث دعاه المعهد الجامعي الشرقي بنابُلي للقيام بدراسات علمية في التراث الإسلامي والمخطوطات العربية. وقد لقي هناك ترحيباً كريماً من جمعيات الاستشراق ولبث شهرين يعاون طلبة الدراسات العليا على فهرسة محتويات المعهد من المخطوطات العربية، ويرشد ويوجه أصحاب الدراسات والبحوث إلى المراجع العلمية التي تخدم بحوثهم.
آثاره العلمية:
من الناس من يشغل بغيره عن نفسه، وتستعلن آثاره أو تتوارى في جهود سواه، وهو في كل ذلك سعيد بما يبذل من وقته وفكره، وسواء أذاع الناس فضله أم جحدوا فهو حيث هو، لا يتحول ولا يريم، لأنه يرضي سخاء نفسه الراغبة في البذل والعطاء.
وقد كان الأستاذ - آجره الله - من هذا الصنف من الناس، فقد فرضت عليه ظروفه الوظيفية في الإرشاد والتوجيه، ثم قبل كل ذلك قلبه المحب للناس الراغب فيهم المستزيد من صداقتهم، فرض عليه كل ذلك أن يعيش لغيره وأن يقف وقته لتلبية الرغبات وقضاء الحاجات. وقد كنت أرى الرسائل أكواماً تلاحقه في مكتبه وفي بيته من الدارسين والمحققين، وقد تأخذ الرغبات بتلابيبه فيبدو منه بعض الضجر، ولكنه
سرعان ما يثوب إلى نفسه السخية المعطاء فيلبي ويجيب. وافتح أي كتاب شئت من نصوص التراث المنشور لترى آثار علمه وفضله، يذكرها الناشرون تكريماً للرجل وتزكية لعملهم.
لكن الله بارك له في وقته وسُنَّي له أن يُخرج بعض النصوص حاملة اسمه، وقد أبان فيها عن علم كثير. ففضلًا عن الفهارس العلمية التي صنعها لدار الكتب المصرية ومعهد المخطوطات بجامعة الدول العربية، حقق رحمه الله هذه النصوص، وهي بحسب ترتيبها الزمني:
1 -
طبقات الأطباء والحكماء، لأبي سليمان بن حسان الأندلسي المعروف بابن جُلجُل (بجيمين مضمومتين) من علماء القرن الرابع الهجري. وقد كان الفقيد رحمه الله يعتز كثيراً بهذا الكتاب وبعمله فيه. وقد قام له بمقدمة علمية قيمة، قال فيها: «هذا كتاب يعتبر وثيقة هامة في تاريخ العلوم وتطور حركة التأليف والترجمة في القرن الرابع الهجري الذي يعد بحق العصر الذي ازدهرت فيه الحضارة الإسلامية ونمت وبلغت غايتها من الإنتاج الواسع في شتى ميادين العلوم والآداب.
ولعل ميزة هذا الكتاب الأولى التي جعلت له قيمة علمية خاصة ونصاً قديماً له خطره في تاريخ العلم أن مؤلفه يعتمد فيما رجع إليه من مصادر على تراجم عربية لأصول لاتينية تاريخية. فقد عهدنا دائماً أن أكثر الكتب التي نقلها العرب أو غيرهم من المترجمين كانت عن أصول يونانية، والقليل منها عن اللغات الفارسية والسريانية والهندية، وأنهم أكثروا من النقل والترجمة عن هذا الطريق، ولكنا لم نظفر - إلا قيلًا جداً - بنصوص عربية ترجمت عن اللغات اللاتينية. وربما كان كتابنا هذا أول كتاب استفاد من هذه الترجمات التي نرجح أنها تمَّت في عصره أو قبله بقليل».
ثم يمضي الأستاذ في مقدمته متحدثاً عن مصادر الكتاب، وعن هذا اللون من التصنيف، متتبعاً المسار الزمني له. وقد وقف رحمه الله عند بعض النصوص التي أوردها ابن جُلجُل، والتي تذكر صراحة قدم حركة النقل والترجمة في صدر الدولة الأموية. وكان الشائع أنها تمت في العصر العباسي وفي عصر المأمون بالذات.
وهذا النص هو ما جاء في صفحة 61 من الكتاب أثناء ترجمة ماسرجويه الطبيب البصري الذي عاش في الدولة الأموية، وتولَّى أيام حُكْم مروان بن الحكم (64 - 65 هـ) ترجمة كتاب «أهرن بن أعين القس» إلى العربية. وكان أهرن من الأطباء الذين عاشوا في الإسكندرية في عصر هرقل (610 - 641 م) في صدر الإسلام، ووضع «كناشة» باللغة اليونانية ثم نقله إلى السريانية، إلى أن قام بترجمته إلى العربية ماسرجويه المذكور. وقد ذكر ابن جُلجُل في هذه الترجمة أن الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز (99 - 101 هـ) وجده في خزائن الكتب (الأموية) وأنه استخار الله في إخراجه إلى المسلمين.
وكثيراً ما كان الأستاذ رحمه الله يدلني على قيمة هذا النص، ويكثر من الحديث حوله. وقد طبع هذا الكتاب أول مرة بمطبعة الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة سنة 1955 م، ثم أعادت مكتبة المثنى ببغداد طبعه بالأوفست منذ ثلاث سنوات، بعد أن عزّت نسخه، فقدمت بذلك خدمة جليلة للعلم والعلماء.
2 -
طبقات فقهاء اليمن، لابن سمرة الجعدي، عمر بن علي المتوفى بعد سنة 586 هـ، وهو أول كتاب يظهر خاصاً بعلماء اليمن. وترى في آخره فهرساً لبلاد اليمن، صنعه الفقيد، آية في التثبُّت والتحرَّي والاستقصاء. وقد طبع هذا الكتاب بالقاهرة سنة 1957 م، وجعله الأستاذ الحلقة الأولى في سلسلة «المكتبة اليمنية» التي كان يريد أن يمضي في نشرها.
3 -
شروط المؤرخ في كتابة التاريخ (مجموعة فتاوى لبعض العلماء فيما يشترط في المؤرخ لكتابة التاريخ من الجرح والتعديل)، نشرت بمجلة معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية سنة 1957.
4 -
إعارة الكتب عند الأقدمين (نصان قديمان لليزيدي والسيوطي)، نشرت بمجلة معهد المخطوطات سنة 1958 م.
5 -
الوسيط في تراجم أدباء شنقيط (موريتانيا) للشنقيطي أحمد بن الأمين. أشرف الفقيد على طبعه وقدم له. طبع بالقاهرة سنة 1959 م.
6 -
العبر في خبر من عبر (1)، للحافظ الذهبي المتوفى سنة 748 هـ، وهو مختصر لكتابه الكبير «تاريخ الإسلام» ، حقق الأستاذ منه الجزئين الثاني والثالث. وطبعا بالكويت سنة 1961 م.
7 -
العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين (مكة) لتقي الدين الفاسي المتوفى سنة 832 هـ وهو أكبر موسوعة في تاريخ مكة ومن عاش فيها أو دخلها أو سكنها من العلماء والفقهاء والشعراء والأدباء وغيرهم. حذا فيه مؤلفه حذو الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد، والحاكم النيسابوري في تاريخ نيسابور، وابن عساكر في تاريخ دمشق، والسمعاني في تاريخ مرو. والكتاب في ثمانية أجزاء حقق الفقيد العزيز منه الأجزاء من الثاني إلى السابع، وأعجلته المنية عن إتمام الثامن. وقد كان في نيته رحمه الله أن ينشر «ذيل العقد» لابن فهد المكي تلميذ الفاسي. وقد رأيت بعيني مدى ما كابده الأستاذ من جهد في تحقيق الكتاب. ومكة البلد الأمين مهوى الأفئدة ومطمح الأنفس، ارتبطت أرضها الحرام بأداء ركن من أركان الإسلام، فلن تحد عالماً من علماء الإسلام إلا وردها حاجّاً مجاوراً. ومن هنا كثرت تراجم هذا الكتاب، وانفسح مجال القول أمام الفاسي، فأكثر من النقول والنصوص، ونقل أسماء المترجمين ووفياتهم من أحجار القبور (وتلك منزلة عليا في درجات التأريخ). فكان لزاماً على من يتصدى لتحقيق مثل هذا العمل أن يشارف ذلك المستوى في التحقيق والتوثيق. وقد فعل الرجل، ورجع إلى مصادر الفاسي، مطبوعها ومخطوطها - وما أكثر - وصحح كثيراً من الأسماء والبلدان.
وقد كان رحمه الله حجة في ضبط الأعلام والأنساب. وعلى هذا الذكر أقول إن الأستاذ كان كثير الرجوع في ضبط الأعلام إلى «تاج العروس» للمرتضى الزبيدي، وكان دائم الإشادة بالتاج فيما يتصل بذكر الأعلام والأنساب والألقاب والبلدان. وكان يقول لي كثيراً: إن هذه فضيلة للتاج عري عنها «لسان العرب» لابن منظور. وقد ابتدأ طبع العقد الثمين بالقاهرة سنة 1959 م، وحقَّق الفقيد الجزء الثاني عام 1962 م.
(1) انظر في ضبط اسم الكتاب ص 297، في مقالة الطناحي حول الهجرة وكتابة التاريخ الإسلامي.