الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قصيدة نادرة في المديح النبوي
(1)
جاء محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم على فترة من الرسل، فانتهت به الرسالات، وخُتمت به النبوات، وقد بعث إلى الناس كافة؛ ليخرجهم من الظلمات إلى النور، ويهديهم إلى صراط ربه المستقيم.
وقد قضى صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وعشرين سنة، بين مبعثه ووفاته يدعو الناس إلى التوحيد، ويبلغهم قرآن ربه الذي يشتمل على صلاح أمورهم في دنياهم وآخرتهم.
وكانت سنَّته الشريفة، أفعالًا وأقوالًا وتقريراً هي المصدر الثاني للتشريع، وهي الحكمة في قوله تعالى:{ويعلمكم الكتاب والحكمة} [البقرة: 151]، وقوله:{واذكروا نعمت الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به} [البقرة: 231]، وقوله:{وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم} [النساء: 113].
ثم كانت سيرته العطرة مجلى قوله تعالى: {وإنك لعلى خلق عظيم (4)} [القلم: 4]. وتصديق قول عائشة رضي الله عنها: «كان خلقه القرآن» ، والله أعلم حيث يجعل رسالته، فقد اصطفاه من بين خلقه اصطفاء وقرأ بعض القرّاء:{لقد جاءكم رسول من أنفسكم} [التوبة: 128]، بفتح الفاء على معنى: من خياركم، من قولهم: هذا أنفس المتاع، أي أجوده وخيار - ثم هداه إلى الطيب من القول، والمرضي من السلوك، وعصمه من كل شبهة، وارتفع به عن كل نقيصة وبرأه من كل
(1) مجلة «الهلال» ، سبتمبر 1993 م.
عيب، وحفَّه بالضياء، وغشّاه بالنور، فكان الإعجاء به والثناء عليه مما تقتضيه الفِطر السوية والطباع النقية إذ كان صلى الله عليه وسلم صورة للكمال الإنساني.
هذا وقد كان الشعر أسبق من النثر في مديحه صلى الله عليه وسلم والثناء عليه، فلئن كان النثر قد مدَّ أسبابه في الحديث عنه عليه السلام، فيما عُرف بكتب السيرة النبوية والشمائل والخصائص، فإن ذلك لم يكن إلا بعد وفاته عليه السلام، بل وانقضاء عصر الراشدين، وذلك في نهاية القرن الأول، وأوائل القرن الثاني.
أما الشعر فقد صحبه صلى الله عليه سلم منذ صدع بأمر ربه، ولقي من إعراض كفار قريش وأذاهم ما لقي، ولعل عمه أبا طالب هو أول من فتح هذا الباب العظيم: باب المدائح النبوية، وإن كانوا قد طعنوا في كثير مما قال فإنهم قد سلَّموا له بقصيدته اللامية الطويلة.
يقول محمَّد بن سلام الجمحي: «وكان أبو طالب شاعراً جيد الكلام، أبرع ما قال [قصيدته] التي مدح فيها النبي صلى الله عليه وسلم:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه
…
ربيع اليتامى عصمةٌ للأرامل
وقد زيد فيها وطولت، ورأيت في كتاب يوسف بن سعد صاحبنا منذ أكثر من مائة سنة: وقد علمت أن قد زاد الناس فيها ولا أدري أين منتهاها. وسألني الأصمعي عنها، فقلت: صحيحة جيدة! قال: أتدري أين منتهاها؟ قلت: لا». طبقات فحول الشعراء ص 244.
ومن أقدم ما قيل في مديحه عليه السلام أيضاً قصيدة الأعشى الكبير ميمون بن قيس، التي مطلعها:
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا
…
وعادك ما عاد السليم المسهدا
وفيها يقول:
نبي يرى ما لا ترون وذكره
…
أغار لعمري في البلاد وأنجدا
له صدقات ما تغب ونائل
…
وليس عطاء اليوم مانعه غدا
وللنقاد ومؤرخي الشعر في هذه القصيدة مقال.
ثم كان شعراء الصحابة المشاهير: حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة، وقد اختلط مديحهم له عليه السلام بالحديث عن الدين الجديد ومناوأة المشركين، ولم يكن هؤلاء الثلاثة وحدهم على الساحة، فقد ذكر الحافظ ابن سيد الناس اليعمري المتوفى 732 هـ نحواً من مائة وتسعين صحابيّاً وصحابية عطروا ألسنتهم بمدحه صلى الله عليه وسلم، وجمع ذلك في كتابه سمَّاه (منح المدح) وهو مطبوع متداول.
وينقضي عصر الصحابة، ويداول الله الأيام بين الناس، فتذهب أيام وتأتي أيام، وتثل عروش تقوم عروش، ويتقلب الناس بين قديم وجديد وطارف وتليد، ولا زال ذكره الشريف يؤنس الغريب، ويطب الجريح، ويرد الضال ويهدي الحائر، فلم ينقطع هذا المدد النبوي الكريم على ألسنة الشعراء وقالة القصيد: شعراً منغوماً، قد تتفاوت قيمة الفنية والتصويرية، لكنه في جميع أشكاله وضروبه يسري فيه هذا النفس المحمدي العظيم، طب القلوب ودواؤها، وعافية الأبدان وشفاؤها، ونور الأبصار وضياؤها.
وقد نهد إلى جمع شعر المدائح النبوية في مختلف العصور: الأديب العالم الجامع يوسف بن إسماعيل بن يوسف النبهاني الفلسطيني المولد، المتخرج في الأزهر الشريف، رئيس محكمة الحقوق في بيروت، المتوفى سنة (1350 هـ = 1932 م)، وقد سمَّى عمله هذا (المجموعة النبهانية في المدائح النبوية) وهو عمل ضخم اشتمل على (25066) بيتاً، وطبع في أربعة مجلدات كبار.
ومن أنفس ما قرأت في هذا الفن: ما أخرجه الأستاذ العالم الدكتور محمود على مكي، بعنوان (المدائح النبوية) وقد صدر عام 1991 م عن الشركة المصرية العالمية للنشر - لونجمان. وجهات الحسن في هذا الكتاب كثيرة، فهو على وجازته