الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكأن هذه السمعة السيئة للمحسنات اللفظية قد استقرت عند بعض الناس - وهذا هو البلاء العظيم - فقد سمعت أحد الأساتذة في محاضرة له، وقد جاء على لسانه شيء من هذه المحسنات فغمغم بعض الجالسين، فقطع المحاضر كلامه كالملسوع وقال:«لا والله، دي جت كده، غصب عني! » وكأنه يبرأ من عيب يخشى أن يلحق به عاره.
وأقرأ لبعض النقاد، وأسمع لبعضهم فيما يذاع من نداوتهم تنفيراً شديداً من هذا اللون الأدبي، وتحذيراً للشباب منه، فلا أملك إلا أن أتلو قول الله تعالى:{الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخر} [النساء: 37]، و [الحديد: 24].
رابعاً: اقترن بتسويغ العجز عن جمال البيان:
السخرية منه والإزراء بقائله: على ما قال تعالى: {وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفلك قديم (11)} [الأحقاف: 11]، أو كما قال أبو علي الفارسي:«من عرف ألف، ومن جهل استوحش» . الأشباه والنظائر النحوية للسيوطي 3/ 464.
ومن أعجب العجب أن أكثر من يسخرون من البيان الآن هم بعض أساتذة العربية الذين يدرسونها في الجامعات (نحواً وأدباً وبلاغة)، وأرجو من قارئي العزيز أن يأذن لي مرة واحدة - إن شاء الله - بذكر بعض التجارب الخاصة، واستعمال ضمير المتكلم.
بين الدعاية والسخرية:
لي صديقان أحدهما طبيب والآخر صيدلي، يحبان الأدب حباً جماً، ويحرصان على قراءة ما أكتب، ويطربان جداً لما أجتهد فيه من ضروب البيان وتحسين العبارة، وعلى الجانب الآخر يقرأ بعض زملائي من أساتذة العربية هذا الذي أكتب، فيداعبونني بمثل قولهم: إيه الكلام ده؟ إيه الأساليب دي؟ ألفاظك كلها كلاكيع! وأعلم يقيناً أنه لولا المحبة لاستحالت هذه الدعابة سخرية لاذعة وإزراء شديداً.
ودعيت منذ خمس سنوات إلى ندوة عن «مستقبل التعليم في مصر» أقامها مشكوراً مأجوراً نادي أعضاء هيئة التدريس بجامعة أسيوط، وقدمت بحثاً عنوانه:«استثمار التراث في تدريس النحو العربي» ، قدمت له بمقدمة أدرتها على شيء من البيان فتح الله به علي فتحاً، وقد طرب له كثير من الحاضرين، وكان أكثرهم من الشباب المعيدين والمدرسين المساعدين بكليات الطب والهندسة والعلوم والتجارة، وأخذ هؤلاء الشباب يلاحقونني فيما بين الجلسات، يطلبون المشورة والدلالة على كتب العربية التي يقرأون فيها مثل هذا الكلام الذي جرى على لساني.
أما أساتذة العربية الذين حضروا الندوة - ومنهم كبار في السن والدرجة - فقد سخروا مني سخرية شديدة، أعلنوها ولم يكتموها، وكان بعضهم يناديني هكذا: تعال يابتاع التراث، قول يابتاع التراث، ازيك يابتاع التراث! (لكني أشهد في تلك الأيام أن الأستاذ الدكتور حامد عمار - وكنت قد اختلفت معه في هذه الندوة - قال لي ونحن في القطار من أسيوط إلى القاهرة بالحرف الواحد: يا أستاذ اثبت على ما أنت عليه، فإني سعيد أن أرى إنساناً يتحدث عن لغته وتراثه بهذه الحماسة)، وهذا إنصاف من الرجل، وهو شأن الكبار، أما الصغار فما أجرأهم على لغتهم وعلى تاريخهم، ومهما يكن من أمر فإنه من العار أن يذم الناس مذهبهم، ويهجنوا طريقهم، هل تعرف طبيباً يذم مهنة الطب؟ وهل تجد مهندساً يحتقر حرقة الهندسة؟ قد يشكوان إرهاقاً أو أعباءً، أما أن يكون ذم ومعابة فلا.
وقد انتقلت سخرية الأساتذة إلى تلاميذهم من معلمي العربية في مدارسنا الآن: سأل مدرس اللغة العربية التلاميذ في الثانوية العامة عن مرادف لعبارة «رغد العيش» فأجاب ابني «بلهنية» فضحك المدرس ضحكة عالية وسخر منه قائلًا: «إيه يا خويه؟ » وحمدت الله أن وقف المدرس العابث بالسخرية عند هذا الحد، فإن لهذا التركيب الذي نطق به ذلك المدرس تكملة سوقية يعرفها أهل السخرية، ولعله قالها وكتمها ابني عني!