الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فابن منظور لم يقف عند هذه الكتب الخمسة وحدها، فقد استطرد إلى ذكر فوائد من قراءاته وسماعاته، وحكى عن معاصريه من العلماء، ونقل نقد العلماء لما بين يديه من موادز
هذا وقد ضمّ «اللسان» قدراً هائلاً من المواد اللغوية، ممزوجة بمعارف أخرى استمدها من مراجعة الخمسة المذكرة بمناهجها واهتماماتها المختلفة: فقد أخذ من تهذيب الأزهري هذا القدر الضخم من الأبنية والمترادفات والمشترك اللفظي، وشاهد القرآن الكريم والحديث الشريف، وأشعار العرب وأقوالها وأمثالها، إلى جانب ذلك الاهتمام المبكَّر بالناحية البلدانية الجغرافية التي استوعب بها الأزهري التعريف بكثير من بلدان ومواضع ومياه الجزيرة العربية، مما كان أساساً للجغرافيين العرب من بعد، مثل أبي عبيد البكري في «معجم ما استعجم» ، وياقوت في «معجم البلدان» ، وللغويين الذين اهتموا بالمواضع والبلدان، من أمثال الفيروزآبادي في «القاموس المحيط» ، والزبيدي في «تاج العروس» .
ثم أخذ عن الجوهري وابن سيده ما ضمناه معجميهما من التوجيهات النحوية والصرفية وقضايا الاشتقاق.
ومن ابن بري أخذ عنايته الفائقة بتصحيح الشواهد الشعرية وتحريرها ونسبتها. ومن ابن الأثير شرحه لغريب أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلام الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين.
الأدب سبيل المعرفة:
أخذ ابن منظور هذا كله، وأضاف إليه قراءاته ومسموعاته، وأحسن جمعه وترتيبته، وأجاد عرضه، وأعانه على ذلك اشتغاله بالأدب. وقد كان الأدب ولا يزال خير سبيل لإيصال المعرفة، وسرعة انصبابها إلى السمع، واستيلائها على النفس، والبليغ يضع لسانه حيث أراد، ويمهّد لنفسه طريقاً إلى كل قلب، وإنك لتجد كثيراً من الدراسات قد جمعت فأوعت، لكنها لم تبلغ مبلغها من النفع والفائدة لجفافها وعُسْرها وتجافيها عن الأدب.
وبذلك أصبح «لسان العرب» كتاب العربية، يجد فيه طالبه كل ما يريد، وأصبحت قراءته متعة تطلب لذاتها، إذ سلم من جفاف المعاجم التي تقف عند حدود الدلالة وشرح اللفظ المفرد أو التركيب المعزول عن سياقه، وكم عرفنا من أدباء وعلماء يديمون قراءة «اللسان» كما يقرأ أحدهم كتاباً للشافعي أو الجاحظ أو أبي حيان.
وقد أخبرني شيخي محمود محمد شاكر - حفظه الله - أنه قرأ «لسان العرب» كله وهو تلميذ بالثانوي، ثم أخبرني أيضاً أن أمير الشعراء أحمد شوقي قرأ «اللسان» كله. قلت: ولعل هذا يفسر لنا «معجم شوقي الشعري» - والنثري أيضاً في أسواق الذهب - هذا المعجم الذي يدهشنا بهذه الألفاظ والتراكيب الضاربة في الفصاحة بعروقها.
وما أحرانا أن ن دفع أبناءنا في كليات الدراسات العربية والإسلامية، إلى قراءة المعاجم، وكثرة التفتيش فيها والصبر عليها، بدلًا من وقوفنا بهم عند حدود تلك الدراسات النظرية، التي تتناول نشأة المعجم ومدارسها، ثم تنتقل إلى ذكر عيوب المعجم العربي. ولئن سلّمنا ببعض هذه العيوب فإنها مما لا ينبغي أن تعرض على طال بالعلم في مراحله الأولى، بل يؤجل ذلك وأشباهه إلى مراحل الدراسات العليا، لأنه لا يصح بحال أن نكشف لصغار الطلبة - وهم في هذه المرحلة الجامعية الأولى - عن أبواب النقد هذه، وأن ندلهم عليها، فإن مداركهم تقصر عن إدراك تلك المرامي البعيدة، فضلًا عما يحدثه ذلك في نفوسهم من زلزلة وبلبلة قد تزهدهم في العلم كله.
ومن آدابنا في ذلك ما ذكره أبو داود في رسالته إلى أهل مكة، قال:«إنه ضرر على العامة أن يكشف لهم كل ما كان من هذا الباب فيما مضى من عيوب الحديث: لأن علم العامة يقصر عن مثل هذا» ، قال الحافظ ابن رجب الحنبلي:«وهذا كما قال أبو داود، فإن العامة تقصر أفهامهم عن مثل ذلك، وربما ساء ظنهم بالحديث جملة إذا سمعوا ذلك» - شرح علل الترمذي ص 534.