الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أدرت عليه مقالتي هذه. فإن «معرفة القوانين العلمية التي استنبطها أهل صناعة اللسان» هي «النظريات والمناهج» في أيامنا هذه. فكما أن الوقوف عند «معرفة القوانين العلمية» هذه لا يصنع ملكة أدبية لغوية، كذلك الاكتفاء «بالنظريات والمناهج» لا يكسب هذه الملكة.
ويقرر ابن خلدون أيضاً: «أنه لا بد من كثرة الحفظ لمن يروم تعلم اللسان العربي، وعلى قدر جودة المحفوظ وطبقته في جنسه وكثرته من قلته تكون جودة الملكة الحاصلة عنه للحافظ» .
ويقول القاضي عبد الرحيم بن علي بن شيث الإسنائي القوصي، في سياق حديثه عن أدوات الكاتب وعدته:«والحفظ في ذلك ملاك الأمر، فإنه يؤهل ويدرب، ويسهل المطلوب ويقرَّب» .
هل الحفظ مطلوب
؟ !
هذا وقد وقعت على نص خطير جداً، هو خير رد وأوفاه على هؤلاء الذين يشترطون الحفظ: الفهم، ويقولون: لا تطلبوا من الصبي حفظ ما لا يفهم، فإن هذا غير مُجد في العملية التعليمية. يقول أبو الفتح عثمان بن جني:«قال لنا أبو علي - الفارسي - يوماً قال لنا أبو بكر - ابن السراج -: إذا لم تفهموا كلامي فاحفظوه، فإنكم إذا حفظتموه فهمتموه» .
وهذا كلام صحيح، يصدقه الواقع وتؤكده التجربة، فإن الإلحاح بالحفظ الدائم المستمر مما يمهد للفهم لا محالة. وآية ذلك أن صغار التلاميذ في دور الحضانة والروضة يرددون مع إطلالة كل صباح النشيد الوطني لبلادهم، وهم بالقطع لا يعرفون شيئاً عن معاني مفرداته فضلًا عن تراكيبه، ولكنهم بمرور الأيام يدركون ويفهمون. والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصى في اكتساب وإدراك المعارف. ونحن الذين حفظنا القرآن صغاراً نعرف هذا من أنفسنا، فما زلنا نذكر ألفاظ القرآن وتراكيبه الغريبة علينا في مطالع أيامنا، ثم إضاءة معانيه في نفوسنا بعد ذلك
بالتدريج، وإن كنا لا ندرك بالضبط متى تم هذا، كما لا يدرك الناظر في السماء انسلاخ النهار من الليل إلا حين يغشاه نوره ويغمره سناه.
وليس أدل على أهمية «الحفظ» في العملية التعليمية في تراثنا، من هذا القدر الهائل من المنظومات في اللغة والنحو والفرائض (المواريث)، والقراءات، وعلوم الحديث والأصول والبلاغة والمنطق والعروض والميقات والطب، وكل ذلك لضبط القاعد وتثبيت الأحكام. وما أمر «ألفيه ابن مالك» ببعيد!
ومع المنظومات المطولة في النحو والصرف كان هناك البيتان والثلاثة والأربعة لضبط القاعدة وترسيخها. فهذا جمع التكسير ينقسم إلى جموع قلة وإلى جموع كثرة، وللأول أربعة أوزان، وللثاني سبعة عشر وزناً، ولصعوبة حصر هذه الأوزان صاغها بعضهم شعراً ليسهل حفظها، فجموع القلة جمعت في قوله:
بأفعل ثم أفعال وأفعلة
…
وفعلة يعرف الأدنى من العدد
كأفلس وكأثواب وأرغفة
…
وغلمة فاحفظنها حفظ مجتهد
وجموع الكثرة جمعت في قوله:
في السفن الشهب البغاة صور
…
مرضى القلوب والبحار عبر
غلمانهم للأشقياء عمله
…
قطاع قضبان لأجل الفيلة
والعقلاء شرد ومنتهى
…
جموعهم في السبع والعشر انتهى
وترتيب الخليل بن أحمد لمواد المعجم نظمها بعضهم في قوله:
عن حزن هجر خريدة غناجة
…
قلبي كواه جوى شديد ضرار
صحبي سيبتدئون زجري طُلَّباً
…
دهشي تطلب ظالم ذي ثار
رغماً لذي نصحي فؤادي بالهوى
…
متلهب وذوي الملام يماري
وواضح أن المراد الحروف الأولى من كلمات هذا النظم هكذا: ع ح هـ خ غ
…
الخ.
هذا إلى الضوابط النثرية، مثل «سألتمونيها» لضبط حروف الزيادة، و «سكت
فحثه شخص» لضبط الحروف المهموسة. فبهذه الضوابط الشعرية والنثرية تعلمنا الأدب واللغة والنحو، وتعلم من قبلنا، لأننا سلمنا ولأنهم سلموا من زلازل التطوير وأعاصير التيسير. وإنه لواجب علينا إذا أردنا الخير لهذا الجيل أن نحيي فيهم مهارات الحفظ، ونقدم لهم قواعد العربية من خلال النصوص التراثية الموثقة.
ولقد جاءني ابني بكتاب القراءة والنصوص الأدبية للصف الثالث الإعدادي للعام الدراسي 1990 م - 1991 م، وفي ص 13 منه جاء هذا السؤال:(اختر الصواب مما بين كل قوسين: مقابل غضب (رضا - سرور - سكون) وطلب مني ابني الجواب الصحيح، فقلت له (رضا) وقال هو (سرور) وأصر على رأيه، لأنه لم يستسغ أن يكون «الرضا» مقابل الغضب ولأن أستاذه قال ذلك أيضاً والأٍستاذ لا يخطئ ولم يقتنع حتى ذكرت له حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما الذي أخرجه أبو داود في سننه 3/ 318، والحاكم في مستدركه 1/ 105، أنه قال:«يا رسول الله، أكتب ما أسمع منك؟ قال: «نعم» ، قلت: عند الغضب وعند الرضا؟ قال: نعم إنه لا ينبغي لي أن أقول إلا حقاً».
وهنا انفرجت أسارير ابني، ونظر إليّ (نظرة الرضا لا الغضب).
فهذا السؤال الذي جاء في ذلك الكتاب المدرسي سؤال جيد، لأنه يزيد المحصول اللغوي عند التلميذ لا محالة. ولكنه ينبغي أن يكون مؤسساً على نصوص محفوظة للتلميذ بها أنس ومعرفة سابقة. وأنَّى لتلميذ في هذه السن أن يختار بين هذه الكلمات القريبة المعاني دون نص يشهد وحفظ يؤيد، فالحفظ وسيلة ضبط وإتقان ينبغي أن تراعى من أول درجة من درجات سلم التعليم، ولا تشفقوا على الصغار والناشئة، فإن فيهم خيراً كثيراً، وانظروا إلى هؤلاء الصغار الذين يظهرون على شاشة التلفزيون من أعضاء «المسلم الصغير» وتأملوا حلاوة الأداء وسلامة مخارج الحروف، ثم حفظ نصوص القرآن والحديث عن ظهر قلب. ومن وراء ذلك كله فالحفظ عاصم من التخليط في أبنية الأسماء والأفعال.
وإذا كان القرآن الكريم كتاب هداية وإرشاد، فإنه أيضاً كتاب عربية وبيان،