الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الطلبة آنذاك، وكثرتهم الآن، فلو ظفر طلاب الصفوف الأولى في المدرجات الآن بهذه العناية لكفى.
الرأي الجمعي:
على أن قضية أخذ رأي الطالب في تقييم عمل الأستاذ وترقيته لا ينبغي أن تؤخذ على ظاهرها هذا السهل الساذج، فنحن لا نتوجه إلى الطلبة واحداً واحداً، نسألهم رأيهم في أستاذهم، على طريقة قوائم الاستبيان المعروفة، فذلك أمر مرفوض ومطرح، ولكن المسألة أبعد من هذا، ولعل أقرب صورة لتحقيق هذه الغاية هي الرأي الجمعي للطلاب، فحين نرى إجماعاً أو شبه إجماع من الطلبة على حضور محاضرات ذلك الأستاذ فهذه شهادة له، وحين نلمس حرص الطالب على كتاب أستاذه وحفاوته به واحترامه له، فذلك إقرار بعلم ذلك الأستاذ - ودعك من مسألة الاستلطاف أو الارتياح الشخصي بتأثير خفة ظل الأستاذ أو تودده إلى ظلبته بحلو الكلام ومعسوله، أو سخاوته في درجات الامتحان، على قاعدة:«إنما يمدح السوق من ربح» ، فهذه أمور إن دامت أسبوعاً فلن تدوم شهراً، وإن تجاوزت الشهر فلن تبلغ العام.
ودعك أيضاً من الوشايات والإشاعات والسعايات لرفع خسيس أو وضع عال، فهذه كلها أمور مكشوفة مفضوحة، ولا يصح إلا الصحيح. وحين نرى إعراضاً من الطالب عن محاضرات أستاذ، واستخفافه بما يكتب، وزهده فيما يقول، فذلك إيذان بضعف ذلك الأستاذ.
والعجيب أن ذلك كله - مدحاً وذمّاً، وإقبالاً وإعراضاً - لا يخفى على عمداء الكليات ورؤساء الأقسام بها، بل لا يخفى على الزملاء أنفسهم، ولكنها المداراة والمصانعة. وفي آخر الأمر فإن الطالب النابه هو شاهد الصدق على علم الأستاذ وإخلاصه؛ لأنه يبدي رأيه في أستاذه وهو سليم الصدر، منزه عن الغرض، بريء من الشبهة، ولا يجد الهوى إلى نفسه سبيلاً، فينبغي أن يصار إلى رأي ذلك الطالب:
شهادة تزكية إلى جانب تقرير اللجان العلمية التي يقول عنها بعض الناس ما يقولون، وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون.
وهذا الذي قرأته أيها القارئ الكريم إنما هو مقدمة ومدخل لأمرٍ جلل وشأن عظيم، وهو الكتاب الجامعي: منهجاً وإخراجاً. إن الكتاب الجامعي هو حامل العلم إلى الطالب، وهو الصورة الماثلة الثابتة للأستاذ أمام الطالب، فإما أن يحرص على هذه الصورة، يستصحبها معه ويتمثلها في مستقبل أيامه، وإما أن يستهين بها، ويتخلص منها ساعة فراغه من حاجته إليها.
إن الأصل في الكتاب الجامعي أنه يقدم علماً قائماً على منهج، وهذا المنهج وضعه بعناية أساتذة كبار منذ اليوم الأول لقيام الجامعات والمعاهد العليا، وفي داخل هذا المنهج مفردات ومقررات تغطي على مدار سنوات الطلب أصول كل علم، وهذه المفردات والمقررات وضعها هؤلاء الكبار أيضاً. وقد طرأت على هذ المناهج بعض التغييرات والإضافات نتيجة لتقدم بعض فروع العلم، باستحداث مواد لم تكن موجودة، أو تطوير بعض ما هو قائم، لكن هذه التغييرات أو الإضافات لم تمس أصول ذلك المنهج القائم على تزويد الطالب بأصول العلم وجوهر المعرفة، ويظل الأستاذ الجامعي مهما علا شأنه وارتفع قدره مشدوداً إلى هذا المنهج، ملتزماً بمفرداته ومقرراته، دائراً في مراجعه ومصادره، فإذا حاد عنه رد إليه رداً جميلًا أو غير جميل، من رئيس قسمه أو عميد كليته.
هكذا كانت الأمور، وهكذا مضت، وفي ذلك الطريق تخرجت أجيال من الجامعيين مؤسسة على العلم الصحيح. ويداول الله الأيام بين الناس، فتحدث أمور تفضي إلى أمور، ويترخص الناس فيما لا يترخص فيه، وتقل المرجعية في العلم، ويتصرف بعض المعلمين من عند أنفسهم استبداداً واستقلالاً، فتضيع المعالم، ويختلط المرعي بالهمل، وتتداخل النوايا والمقاصد «وبعض السجايا ينتسبن إلى بعض» على ما قال ابن الرومي.
وكان ما كان مما لست أذكره، وإذا نحن بين يوم وليلة أمام بعض الكتب
الجامعية لبعض الأساتذة الذين أباحوا لأنفسهم أن يبتعدوا قليلاً أو كثيراً عما كان مستقرًا وثابتاً في أصول المنهج ومفرداته التي درجت عليها الأجيال، بل إن بعض مفردات هذه المناهج قد اختفت فعلًا لتحل محلها بحوث الأساتذة التي حصلوا بها على شهاداتهم العليا (الماجستير والدكتوراه)، ثم ما قدموه من بحوث للترقيات العلمية، وبعض ذلك يقدم بعنوناته الأصلية، وبعضه يغير ويوضع تحت مسميات جديدة، ويقدم كل ذلك للطالب ويطلب منه تحصيله وفهمه وأداء الامتحان فيه.
لقد أصبح محتوى المقرر الدراسي خاضعاً لمشيئة المدرس ومزاجه، وفضلًا عن وعورة هذا المسك وجهد المشقة فيه، فإن الطالب لن يعود منه بشيء ذي بال، في هذه المرحلة من العمر، ولن يفيده في معرفة أصول العلم وقواعده، وخذ مثلًا على النحو، وهو علم التراكيب الذي لا غنى عنه لطالب العربية في أي فرع من فروعها، هذا العلم يقوم على التعريفات والقواعد والشواهد - وقد قيل بحق: النحو شاهد ومثل - فكل جهد يبذل فيه في السنوات الجامعية الأربع ينبغي أن يدور حول هذه الأركان الثلاثة، لا يتجاوزها ولا يتعداها إلى غيرها من النظر في أصول النحو، من قياس وسماع وعلة، بل يؤجل ذلك كله إلى ما بعد المرحلة الجامعية الأولى لمن أراد أن يتم الطريق، ولكن الأمر قد جرى على غير هذا - وبخاصة في العقدين الأخيرين - وليت الأمر قد وقف عند هذا الحد، فإن بعض زملائنا يفتح على الطلبة أبواباً من النظر في فلسفة النحو تضرهم ولا تنفعهم؛ لأنها تورثهم الشك والحيرة.
جاءني يوماً أحد الطلبة يسألني: يا دكتور، ما الفرق بين الموقع الإعرابي والحالة الإعرابية؟ فقلت له: من أنبأك هذا؟ قال: الدكتور الفلاني في الكتاب الفلاني، فقلت له: يا بني، هذا الدكتور رجل من أهل العلم، وكلامه هذا للكبار من أهل العلم، أما أنت فلا زلت في أول الطريق، وقد جئت إلى هذه الكلية تدرس فيما تدرس علم النحو، لكي تقرأ قراءة صحيحة وتكتب كتابة صحيحة، فاشتغل بذلك ودع ما سواه.
ومن أخطر الأمور أيضاً ما يقوم به بعض زملائنا من نقد للفكر اللغوي