الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وليس غريباً أن تغيب بعض الألفاظ والتراكيب عن معاجمنا اللغوية، فإن لغتنا العربية أوسع من أن تحيط بها المعاجم وحدها.
وقد قال الإمام الشافعي: «لسان العرب أوسع الألسنة مذهباً وأكثرها ألفاظاً، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي» .
وعلى هذا فإن اللغة ينبغي أن تُلتَمس من كتب العربية كلها، لأنك واجد في كتب التفسير والحديث والفقه وأصوله وعلم الكلام والأدب والبلاغة والتاريخ والجغرافية وسائر فنون التراث، من اللغة ما لا تجد بعضه في كتبها المصنفة فيها المقصورة عليها، وذلك لأن العربية كتاب واحد.
وإذ قد ثبت هذا - إن شاء الله - فإنه من الواجب على من يتصدى للتصحيح اللغوي أن يتحلى بالأناة والتوقف والصبر، وألا يهجم على التخطئة دون سند قوي وحجة غالبة.
نماذج:
وقد كنت عُنيت في مطالع الشباب بتلك الكتب المصنفة في اللحن والأخطاء الشائعة، وكنت أحفظ منها مسائل ذوات عدد، أُديرها على لساني في مجالس المذاكرة والمطارحة، مزهوَّا بما أحفظ، إذ كان عندي هو الصواب الذي لا صواب غيره.
وحين أذن الله - وهو الذي بيده الخير كله - أن أتصل بما كتبه أهل العلم في كتب العربية، وبخاصة شروح الشعر وغريب القرآن والحديث، والأمالي والمجالس، وكتب التراجم والطبقات، ووقفت على تصرف أهل البيان في الأبنية والألفاظ والتراكيب، حين تم لي ذلك - على ضعفي وقلة حيلتي - أيقنت أن ليس الطريق هنالك، وأن التخطئة والتصويب لا يُصار إليهما إلا بعد عناء وجهد، لأن الأفق رحب، والمدى واسع، والشوط بعيد، وبخاصة أننا في زمن انقطعت دونه الرواية، وغاب الأشياخ، فأوصد بغيابهم باب ضخم من أبواب العلم، لأننا أبناء أمة
قام تراثها على الرواية والتلقي والمشافهة والتوقيف، والكتب وحدها لا تصنع عالماً.
وقد قال أبو الفتح ابن جني فيما وقع له من كلام شيخه أبي علي الفارسي: «ولمثل هذه المواضع يُحتاج مع الكتب إلى الأستاذين» - شرح تصريف المازني 1/ 210 - ، وقال ابن قيم الجوزية:«ولمثل هذه الفوائد التي لا تكاد توجد في الكتب يُحتاج إلى مجالسة الشيوخ والعلماء» بدائع الفوائد 1/ 101، وإذ قد وضح لي بعض الطريق جمعت طائفة من تلك الألفاظ والتراكيب التي خطَّأها الناس، ورأيت صوابها أو استعمالها عند بعض أهل العلم قديماً، وأكتفي من ذلك هنا ببعض النماذج التي تمهد لما أردته من ضرورة التحري والمراجعة أمام كل تخطئة أو تضعيف:
1 -
يُخطئ بعضهم استعمال «النفس» في غير التوكيد، يريدون أنك تقول:«الشيء نفسه، ولا تقول: نفس الشيء» . وقد وجدت استعمال هذا الذي يخطئونه في كتاب سيبويه 1/ 266 - وحسبك به - وذلك قوله: «وتجري هذه الأشياء التي هي على ما يستخفون بمنزلة ما يحذفون من نفس الكلام» ، وقوله أيضاً في 2/ 379 وذلك قولك:«نزلت بنفس الجبل، ونفس الجبل مقابلي» .
وقال الجاحظ في الحيوان 1/ 76: «ولا بد للترجمان من أن يكون بيانه في نفس الترجمة في وزن علمه في نفس المعرفة» . قال ابن جني في الخصائص 1/ 348: «وإنما جاز ذلك في هذا الموضع لا لشيء رجع إلى نفس «أو» بل لقرينة انضمت من جهة المعنى إلى أو». وقال المرزوقي في شرح الحماسي ص 892: «وأشار بقوله الأبد إلى نفس الدهر» . بل إن هذا الاستعمال قد ورد عند من هو أقدم من هؤلاء جميعاً، وهو الخليل بن أحمد، شيخ العربية وشيخ سيبويه وذلك قوله في كتاب العين 8/ 117:«والترباء: نفس التراب» .
2 -
يُخطئ بعض النحويين استعمال «قد لا يكون» لأن «قد» لا تدخل على النفي، والصواب أن يقال:«ربما لا يكون» . وقد وجدته في كلام ابن جني، قال في الخصائص 1/ 20:«كما أن القول قلا يتم معناه إلا بغيره» ، وفي كلام للمرزوقي،
قال في شرح الحماسة ص 57: «والاكتفاء به قد يقع وقد لا يقع» . ثم وجدته كذلك عند المالقي في كتابه: رصف المباني في شرح حروف المعاني ص 455، قال في (مبحث قد):«إن نفيت فقلت قد لا يقوم، توقعت العدم» .
3 -
يرى بعضهم أن كلمة «مجاناً» مبتذلة وغير فصيحة وتوشك أن تكون عامية، وأنَّ الصواب أن يستعمل مكانها «بدون مقابل» ونحوه. وقد رأيتها عند ابن فارس، في مقاييس اللغة 5/ 299، قال:«والمجان: هو عطية الرجل شيئاً بلا ثمن» . وقد استعملها ابن خلدن في مقدمته ص 557، قال:«فليست اللغات وملكاتها مجاناً» .
4 -
يستسقط بعضهم تركيب «عبارة عن كذا» ، وقد رأيتُه في كلام ابن جني، قال في كتابه الخاطريات ص 58:«ويؤكد ذلك أن لفظ الجبال قد وضع عبارة عما لا تُدركه المعاينة» . وقد رأيت هذا التركيب كثيراً في كلام الفقهاء، وكُتُب التعريفات.
5 -
منع بعض النحويين دخول «أل» على «بعض» فلا يجوز أن تقول: أحبوا بعضهم البعض، وإنما تقول: أحب بعضهم بعضاً. وقد أدخل سيبويه «أل» على بعض، وذلك قوله في الكتاب 4/ 51:«وربما قالوا في بعض الكلام: ذهبت بعض أصابعه، وإنما أنث البعض لأنه أضافه إلى مؤنث هو منه» . وكذلك صنع ابن جني في الخصائص 1/ 64، قال:«فلما كان الأمر كذلك واقتضت الصورة رفض البعض واستعمال البعض» ، وكذلك استعملها ثلاث مرات في الخصائص 3/ 334. ومن قبل سيبويه وابن جني دخلت «أل» على «بعض» في الشعر الجاهلي، وذلك قول المرقش الأصغر، في إحدى رواياته، يصف فرسه:
شهدتُ به عن غارة مُسبطرة
…
يطاعن بعض القوم والبعض طُوَّحوا
6 -
وكذلك منع بعضهم دخول «أل» على «غير» ، لكني وجدتها في ديان المعاني لأبي هلال العسكري 2/ 98، وكتاب الهوامل والشوامل، لأبي حيان
التوحيدي، ومسكويه ص 117، ثم رأيتها قديماً في كلام لصاحب القاموس في موضع غاب عني الآن.
7 -
يخطئ بعضهم استعمال الفعل «ساهم» بمعنى «شارك» على أساس أنه لم يأت في المعاجم إلا: ساهم فلان القوم: أي دخل معهم في القرعة فقرعهم وغالبهم. لكنه قد جاء بمعنى «شارك» في شعر ينسب لزهير ولأبي الأسود الدؤلي، وهو قوله:
أبا ثابت ساهمت في الحزم أهله
…
فرأيك محمود وعهدُك دائم
وعلى ذلك جاء في المعجم الوسيط، الذي أصدره مجمع اللغة العربية بالقاهرة.
وهكذا نتبين صدق كلمة الأصمعي السابقة: «من عرف كلام العرب لم يكد يُلحن أحداً» .
لكن هذه الكلمة على صدقها لا ينبغي أن تُتخذ سبيلًا للفوضى اللغوية أو الحرية في استعمال ما نشاء، وارتكاب الضرورات والمحظورات اللغوية، بدعوى أن من الأوائل من ارتكب الضرورة واستعمل الشاذ، ثم بزعم أننا يجب أن نرفع العائق ونحطم الحواجز أمام الإبداع والمبدعين
…
ولهذا وأشباهه حديث آخر.
* * *