الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التراث العربي في المغرب .. (1)
وقضية التواصل بين المشرق والمغرب (2)
-
1 -
من مكرور القول ومُعاد الكلام أن الأمة العربية قد احتشدت لتسجيل تراثها وجمعه
في جهاد دائب لم تشهده أمة من الأمم، ولم تعرفه ثقافة من الثقافات، ولم يقف هذا الجهاد عند مصر من الأمصار، أو يكتفِ بقطر من الأقطار، بل امتد إلى كل بلد طالته يد الإِسلام.
وقد اقتضت طبائع الزمان والمكان أن تشهد بلاد المشرق الخطوات الأولى لذلك التسجيل والجمع، ابتداء من منتصف القرن الثاني الهجري.
ولم يكد المغاربة والأندلسيون يتسامعون بأنباء هذا النشاط الذي كانت تغلي به حلقات الدرس ومجالس العلماء في البصرة والكوفة، وصرير أقلام النساخ في مكة والمدينة ومصر والشام حتى ولوا وجوههم شطر المشرق العربي بنفس مشوقة وقلب لهيف.
والمتتبع لحركة التأليف العربي في خطواته الأولى يروعه هذا الحشد الهائل
(1) زار كاتب المقال المغرب مرَّتين عضواً في بعثة معهد المخطوطات العربية التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، وقد نشر مقاله هذا في حلقتين بمجلة «الثقافة» القاهرية، العددان 27، 28، ديسمبر - يناير 1975 م.
(2)
مجلة «دعوة الحق» ، العدد 9، السنة 17، نوفمبر 1976 م، المغرب.
من العلماء وطلاب المعرفة. فأي بركان هذا الذي فجَّره كتاب الله المنزل علي النبيّ الأميّ، ففتح به آذاناً صُمّاً وقلوباً غلفاً؟ وأي ضياء وهاج ذلك الذي جاء به الدين الجديد، فأزاح ظلمات القرون والأحقاب؟
انسالت أفواج المغاربة على المشرق، يشافهون العلماء ويروون العلم ويستنسخون الكتب، وقد استفاضت كتب التراجم والرجال بأخبار هذه الرحلات، وقد بدأت رحلات المغاربة والأندلسيين إلى المشرق منذ أواخر القرن الثاني الهجري، مواكبة لحركة الجمع والتدوين، مصاحبة لنشأتها.
ذكر أبو بكر الزبيدي الأندلسي، في ترجمة الغازي بن قيس، المتوفَّى سنة 199 هـ، قال:«كان ملتزمًا للتأديب بقرطبة أيام دخول الإمام عبد الرحمن بن معاوية رضي الله عنه الأندلس، وأدرك نافع بن أبي نعيم - أحد القراء السبعة - وقرأ عليه، وهو أول من أدخل قراءته» (1).
وفي ترجمة جودي النحوي المتوفى سنة 198 هـ، قال:«هو جودي بن عثمان، من أهل مورور - قريباً من قرطبة - ورحل إلى المشرق، فلقي الكسائي والفراء وغيرهما، وهو أول من أدخل كتاب الكسائي، وله تأليف في النحو» (2).
وهذا قاسم بن أصبغ محدث الأندلس الكبير، يرحل إلى المشرق مع محمد بن عبد الملك بن أيمن، ومحمد بن زكريا بن أبي عبد الأعلى، فيسمع بمكة ومصر من علمائهما، ويدخل العراق فيسمع من المبرد وثعلب، ويروي عن ابن قتيبة كثيراً من كتبه» (3).
وقد رأيت بخزانة القرويين بفاس نسخة عتيقة جداً من كتاب ابن قتيبة المسمَّى:
(1) طبقات النحويين واللغويين، صفحة 254، بتحقيق الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم.
(2)
المرجع السابق، صفحة 256.
(3)
تاريخ علماء الأندلس، لابن الفرضي، صفحة 365، طبعة الدار المصرية للتأليف والترجمة.
«تأويل مشكل القرآن» برواية قاسم بن أصبغ هذا، عن ابن قتيبة، بمنزله ببغداد، في شهر ربيع الأول سنة ست وسبعين ومائتين.
وتصور لنا كتب التراجم إقبال أهل المغرب على علمائهم العائدين من المشرق، لسماع ما تلقوه عن علماء مكة والعراق ومصر والشام (1). ولقد بلغ من حرصهم وشدة تتبعهم أنهم كانوا يسألون كل قادم من المشرق، ولو كان من التجار. روى الزبيدي عمن أخبره عن عبد الوهاب بن عباس بن ناصح، قال:«كان أبي لا يقدم من المشرق قادم إلا كشفه عمن نجم في الشعر بعد ابن هرمة، حتى أتاه رجل من التجار، فأعلمه بظهور حسن بن هانئ» (2)، يعني أبا نواس.
وقد كان لاستيلاء بني أمية على بلاد المغرب بعد ذهاب دولتهم في المشرق، أثر كبير في إذكاء روح العربية بتلك البلاد، ويؤثر عن عبد الرحمن بن معاوية المعروف بالداخل أول خلفاء بني أمية بالأندلس، الكثير من البر بالعلماء والإجلال لهم، وكذلك سار بنوه من بعده، دعماً لقواعد الملك، واستكمالًا لمظاهر الخلافة. قد تناهت أنباء هذا البر وذلك الإجلال إلى المشرق، فسعي أدباؤه إلى هناك، حيث عطايا الخلفاء موصولة بهبات الوزراء. ذكر ياقوت في ترجمة أبي الفرج علي بن الحسين الأصبهاني صاحب كتاب «الأغاني» ، قال:«وله بعد تصانيف جياد فيما بلغني كان يصنفها ويرسلها إلى المستولين على بلاد المغرب من بني أمية، وكانوا يحسنون جائزته، لم يعد منها إلى الشرق إلا القليل. والله أعلم» (3). وقد سمى هذه التصانيف الوزير جمال الدين القفطي (4).
وهذا أحد أعلام الأدب العربي في المشرق: أبو علي إسماعيل بن القاسم البغدادي القالي، صاحب كتاب «الأمالي» يفد على القيروان سنة 239 هـ، وقد جلب في قافلته أحمالًا كثيرة من نفائس المؤلفات المشرقية، ما بين لغوية وأدبية وتاريخية،
(1) طبقات النحويين واللغويين، صفحة 275 (ترجمة عفير بن مسعود).
(2)
المرجع السابق، صفحة 262، وأيضاً: تاريخ علماء الأندلس، صفحة 296.
(3)
معجم الأدباء 130/ 100، طبعة دار المأمون.
(4)
إنباه الرواة على أنباه النحاة 2/ 252، بتحقيق الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم.
ودواوين الشعراء الجاهليين والمخضرمين والمولَّدين، فباع منها في مدة عام كامل ما شاء أن يبيع لأهل إفريقية، ثم تحول بعد ذلك في سنة 330 هـ إلى الأندلس بما بقي له منها. وقد حفظ لنا أبو بكر بن خير الإِشبيلي قائمة بأسماء هذه الدواوين في فهرست ما رواه عن شيوخه (1).
تواصل أدباء المشرق والمغرب، وإن ظلت رحلات المغاربة إلى المشرق أكثر وأدوم لأسباب كثيرة، من أبرزها أن المشرق كان ولا يزال طريق المغاربة للحج، الركن الخامس من أركان الدين الحنيف.
وحين انتدب المغاربة للتصنيف والكتابة ظهر في إنتاجهم مشابه من مناهج المشارقة وطرائقهم في الكتابة، مما حدا ببعض النقاد والمؤرخين أن يربطوا بين الإنتاج المشرقي والمغربي، على نحو يريد أن يثبت دائماً أن المغاربة قد تأثروا بالمشارقة في كل ما يعالجون، فهم يقولون: إنَّ ابن زيدون بحتري المغرب (2)، وإنَّ أبا بكر الزبيدي الإشبيلي، صاحب كتاب «مختصر العين» في المغرب بمنزلة ابن دريد في المشرق (3)، وإنَّ أبا الحسن بن بسام الشنتريني صاحب كتاب «الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة» قد تأثر بأبي منصور الثعالبي ونسج على منواله في كتابه:«يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر» (4). إلى غير ذلك من الأمثلة.
(1) فهرست ما رواه عن شيوخه أبو بكر محمد بن خير الإشبيلي، صفحة 395 - 397، نشر المكتب التجاري - بيروت، وانظر ما كتبه العلَّامة حسن حسني عبد الوهاب، عن العناية بالكتاب وجمعها في إفريقيا التونسية، من القرن الثالث إلى الخامس للهجرة - مجلة المخطوطات العربية بمصر، المجلد الأول، صفحة 72.
(2)
ابن زيدون: عصره وحياته وأدبة، للأستاذ علي عبد العظيم، صفحة 508، وانظر أيضاً: الذخيرة لابن بسام - الجزء الأول من القسم الأول، صفحة 326.
(3)
مقدمة تحقيق كتاب مختصر العين، صفحة (هـ) للأستاذين علال الفاسي ومحمد بن تاويت الطنجي، طبعة الرباط.
(4)
مقدمة تحقيق اليتيمة، صفحة 13، للأستاذ الشيخ محمد محيي الدَّين عبد الحميد، ومقدمة تحقيق الذخيرة، صفحة (أ، ب) ، للأستاذ الدكتور طه حسين.
ولئن قبلت هذه المقالة في القرون الأولى للتصنيف، فإنها بحاجة إلى مراجعة فيما تلا ذلك من قرون. ولقد كان ظهور القاضي أبي الفضل عياض بن موسى اليحصبي السبتي المولود بمدينة سبتة - رد الله غربتها - سنة 476 هـ، والمتوفى بمدينة مراكش سنة 544 هـ، إيذاناً باستقلال الشخصية المغربية وامتلاكها لناصية البيان وإسهامها في جلاء وجه الثقافة الإسلامية، وعياض ركن من العلم باذخ، وله طرائق في العلم مأنوسة، كتب الكثير، وتمثل تآليفه إضافات هامة في تاريخ الفكر الإسلامي، وقد رزقت مصنفاته من الحظوة وحسن القَبول والتلقَّي ما لم يرزقه مؤلف مغربي آخر (1). ومما يشيع على ألسنة المغاربة قولهم:«لولا عياض لما ذكر المغرب» . ويقول شاعرهم:
كلهم حاولوا الدواء ولكن
…
ما أتى بالشفاء إلا عياض
والمعنى الثاني المراد من التورية في قوله: «بالشفاء» هو كتاب عياض الجليل: «الشفا في التعريف بحقوق المصطفى» ، أشهر وأسير كتب الشمائل النبوية.
تتابعت جهود المغاربة في التصنيف عالية شامخة وبدءاً من القرن السادس لم يعد للمشارفة فضل سبق عليهم، بل نراهم قد زاحموا المشارقة على فنين عظيمين من فنون التراث: علم القراءات، وعلم النحو.
أما علم القراءات فعنايتهم به قديمة، وتصانيفهم فيه مبسوطة، ويرى الأستاذ الدكتور عبد العزيز الأهواني أن: هذا هو الميدان الوحيد الذي سيطر عليه المغاربة سيطرة تامة (2).
وبحسبنا أن نذكر من فرسان هذا الميدان: أبا عمرو الداني ومكي بن أبي طالب وأبا العباس المهدوي وإسماعيل بن خلف، وغيرهم كثير تراهم في فن
(1) مقدمة تحقيق كتاب «التعريف بالقاضي عياض» للأستاذ الدكتور محمد بن شريفة، ومقدمة تحقيق كتاب:«ترتيب المدارك» للقاضي عياض، تحقيق الأستاذ محمد بن تاويت الطنجي، والكتابان من مطبوعات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالرباط.
(2)
كتب برامج العلماء في الأندلس، مجلة معهد المخطوطات، المجلد الأول، صفحة 118.
القراءات من فهارس المكتبات. وبحسبنا أيضاً أن نعرف أن أشهر نظم في هذا الفن، وهو المسمَّى: حرز الأماني ووجه التهاني، والمعروف بالشاطبية، صاحبه مغربي أندلسي، وهو: القاسم ابن فِيرُّه بن خلف الرعيني الأندلسي الشاطبي، وقد صار نظمه هذا العمدة في ذلك الفن، وتعاقب عليه الشراح من المشرق والمغرب، ولا يزال يتصدر برامج الدراسة في معهد القراءات بالأزهر الشريف.
ولم تفتر عناية المغاربة بعلم القراءات على امتداد الأيام وتصرف الأحوال، وقد تعرفت أثناء رحلتي الأولى إلى المغرب، على شاب من ريف المغرب، في منزل الأستاذ العلامة محمد المنوني بمدينة الرباط، وكان هذا الشاب آية في معرفة القراءات العشر بطرقها ورواياتها المختلفة، يحفظها ويستشهد لها من الكتاب العزيز في سهولة ويسر. وقد أخبرني الأستاذ المنوني أن لهذا الشاب نظائر كثيرة في بلاد المغرب، وبخاصة في الريف.
وأما علم النحو فللمغاربة احتفال به زائد، وقد ظهر اهتمامهم له مبكراً. هذا أبو عبد الله حمدون بن إسماعيل، من قدماء المغاربة القرويين، كان يحفظ كتاب سيبويه، وقد توفي حمدون هذا بعد المائتين (1). وقد وقف المغاربة على قدم واحدة مع المشارقة في العناية بكتاب سيبويه إمام النحاة: شرحاً أو تعليقاً أو اختصاراً (2).
ذكر جلال الدين السيوطي في آخر كتابه: «بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة» وهو يسرد موارده في تأليف الكتاب، قال:«وأما المغرب فأهله أصحاب اعتناء شديد بذلك، والنحاة به جم غفير» (3).
ويورد جمال الدين القفطي كلاماً جيداً يشهد لذلك، يقول في ترجمة أبي محمد عبد الله بن علي بن إسحاق الصَّيْمري النحوي: «قدم مصر، وحفظ عنه شيء
(1) طبقات النحويين واللغويين، صفحة 235.
(2)
كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، للحاج خليفة، صفحة 1427، طبعة استانبول.
(3)
بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، الجزء الثاني، صفحة 428، تحقيق الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم.
من اللغة وغيرها، وصنف كتاباً في النحو سمَّاه «التبصرة» وأحسن فيه التعليل على مذهب البصريين، ولأهل المغرب باستعماله عناية تامة، ولا يوجد به نسخة إلا من جهتهم» (1).
ويقوي كلام القفطي هذا أني عرفت ثلاث نسخ مخطوطة من هذا الكتاب، كلها مكتوبة بخط أندلسي مغربي عتيق: النسخة الأولى محفوظة بمكتبة الإمبروزيانا بميلانو، كتبت سنة 582 هـ، والثانية بالخزانة العامة بالرباط، نسخت سنة 597 هـ، والثالثة بخزانة القرويين بفاس، وهي من خطوط القرن السادس في أكبر الظن. وبقي من هذا الكتاب نسخة رابعة، ذكر المستشرق كارل بروكلمان أنها محفوظة بالمكتبة الأهلية بباريس، ولا أعلم من حالها شيئاً فأذكره.
وقد ذهبت مؤلفات المغاربة النحوية بالذيوع والشهرة في معاهد الدرس والتعليم مشرقاً ومغرباً، فهذه ألفية ابن مالك الجياني الأندلس تحظى بالشهرة، ويتلقاها الناس بالقَبول، ويرجعون إليها في ضبط قواعد النحو والصرف، ويأخذون بها ناشئتهم وصبيانهم (2).
وهذا متن الآجرومية، لم يطاوله متن آخر: ضبطاً لقواعد النحو وحصراً لمسائله ويسراً في صياغته، ولا يزال موضع التلقَّي والقَبول إلى يوم الناس هذا. وصاحب هذا المتن هو: أبو عبد الله محمد بن محمد بن داود الصنهاجي، عرف بابن آجروم، ومعناه بلغة البربر: الفقير الصوفي. وهو من أهل فاس.
وفيما عدا هذين الفنين شارك المغاربة في سائر فنون التراث، درساً وتصنيفاً، ثم كان لهم فضل إظهار آثار المشارقة: شرحاً لها وكشفاً لغوامضها.
(1) إنباه الرواة، الجزء الثاني، صفحة 123، والصِّيْمَري: بفتح الصاد وسكون الياء وفتح الميم.
(2)
على الرغم من غلبة ألفية ابن مالك على معاهد الدرس مشرقاً ومغرباً، فقد رأيت الصبيان في مسجد الجامع الكبير بمدينة صنعاء - أثناء رحلتي في العام الماضي إلى اليمن - يتدارسون «ملحة الإعراب» للحريري صاحب المقامات. وهذه «الملحة» أشهر نظم نحوي قبل ألفيتي ابن معطي وابن مالك.
فهذا أبو عبيد البكري الأندلسي يعمد إلى نصين جليلين من تأليف المشارقة، بالشرح والبيان: الأول كتاب «الأمثال» ، لأبي عبيد القاسم بن سلام البغدادي ويسمي البكري شرحه لهذا الكتاب: فصل المقال في شرح كتاب الأمثال. وهذا الشرح قد «احتوى على أكمل تعليقات وتفاسير قديمة ومهمة على ذلك الكتاب، كما احتوى مادة رائعة لا توجد في غيره من كتب الأمثال الأخرى» (1).
والثاني: كتاب «الأمالي» ، لأبي علي القالي البغدادي. ووسم أبو عبيد شرحه لذلك الكتاب: اللآلي في شرح أمالي القالي. ونشره العلامة عبد العزيز الميمني باسم: سمط اللآلي.
ثم يتصدى ابن السَّيد (بكسر السين) البطليوسي، بالشرح والبيان لأحد أصول الأدب الأربعة، وهو كتاب ابن قتيبة البغدادي المسمَّى:«أدب الكاتب» ، أو:«أدب الكتاب» . واسم هذا الشرح: الاقتضاب في شرح أدب الكتاب. وهو من أجل شروح الكتاب، كما يقول صاحب كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون.
وحين فرغ أبو محمد الحريري البصري من إنشاء «مقاماته» الأدبية المعروفة، تعاقب عليها الشراح بالتفسير والبيان، حتى بلغت شروحها أكثر من خمسة وثلاثين شرحاً، ما بين مشرقي ومغربي. ومن أعظم هذه الشروح وأجمعها للغرائب والفرائد شرح أبي العباس الشَّريشي الأندلسي.
ولم يعرف للسيرة النبوية التي صنفها محمد بن إسحاق شرح أوعب وأكثر جمعاً للفوائد والشوارد، من شرح أبي القاسم السهيلي الأندلسي المسمَّى: الروض الأُنُف، والمشرع الرّوى في تفسير ما اشتمل على حديث السيرة واحتوى.
والمشتغلون بتاريخ المذاهب الفقهية الإسلامية يعرفون أن أهم شروح مذهب مالك بن أنس رضي الله عنه، إنما جاءت من قبل العلماء المغاربة الذين أكثروا
(1) راجع كتاب الأمثال العربية القديمة، تأليف المستشرق الألماني رودلف زلهايم، ترجمة الأستاذ الدكتور رمضان عبد التواب، صفحتي 151، 219، طبعة بيروت.
التصنيف فيه، ما بين مختصر ومبسوط. وذلك لغلبة مذهب مالك على أهل هذه الديار.
ولن يتسع المقام لأكثر من هذه المثل، وهي كثيرة مفرطة في الكثرة. وحسبنا أن نختم بذكر أثر خطير من آثار الفكر الإسلامي، نشط له المغاربة، وتناولوه بالشرح والتعليق، على حين قصر غيرهم، استعظاماً لشأنه، وتهيباً من مسالكه، ذلك هو كتاب «البرهان» في أصول الفقه، لإمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني (بضم الجيم وفتح الواو: نسبة إلى جوين، بلدة من نواحي نيسابور) من أئمة علماء الشافعية في القرن الخامس.
يقول تاج الدين السبكي عن هذا «البرهان» : «اعلم أن هذا الكتاب وضعه الإمام في أصول الفقه، على أسلوب غريب، لم يقتد فيه بأحد، وأنا أسميه لغز الأمة لما فيه من مصاعب الأمور، وأنه لا يخلي مسألة عن إشكال، ولا يخرج إلا عن اختيار يخترعه لنفسه، وتحقيقات يستبد بها. وهذا الكتاب من مفتخرات الشافعية، وأنا أعجب لهم، فليس منهم من انتدب لشرحه ولا للكلام عليه، إلا مواضع يسيرة تكلم عليها أبو المظفر بن السمعاني في كتاب «القواطع» وردها على الإمام، وإنما انتدب له المالكية، فشرحه الإمام أبو عبد الله المازري شرحاً لم يتمه، وعمل عليه أيضاً مشكلات، ثم شرحه أيضاً أبو الحسن الأنباري من المالكية، ثم جاء شخص مغربي، يقال له: الشريف أبو يحيى، جمع بين الشرحين».
ويقول السبكي في موضع آخر عن المازري: «هذا الرجل كان من أذكى المغاربة قريحة وأحدهم ذهناً، بحيث اجترأ على شرح «البرهان» لإمام الحرمين، وهو لغز الأمة الذي لا يحوم نحو حماه، ولا يدنان حول مغزاه، إلَاّ غواص على المعاني، ثاقب الذهن، مبرز في العلم» (1).
(1) طبقات الشافعية الكبرى، تحقيق أخي الدكتور عبد الفتاح محمد الحلو، وكاتب هذا المقال، الجزء الخامس، صفحة 192، والسادس 243.