الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تركيا .. والمخطوطات العربية
(1)
زرت تركيا مرتين: الأولى في شتاء عام 1971 م، والثانية في صيف هذا العام، ويا بعد ما بين اليومين في حياة الكاتب، وفي عالم المخطوطات:
ففي المرة الأولى كنت عضواً صغيراً في بعثة معهد المخطوطات التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم غداة إنشائها، وكان هذا المعهد من قبل تابعاً للأمانة العامة لجامعة الدول العربية منذ قيامها سنة 1945 م.
وفي هذه المرة الثانية كنت مدعواً من قبل مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، التي يرعاها ويدعمها معالي الشيخ أحمد زكي يماني، وزير البترول والثروة المعدنية السابق بالمملكة العربية السعودية، وذلك لإلقاء محاضرات عملية في الدورة التدريبية الثانية على تصنيف وفهرسة المخطوطات الإسلامية.
وقد دعي إلى حضور هذه الدورة نفر من الشباب المشتغلين بالمكتبات والاستشراق، من تركيا وألبانيا وبلغاريا وزغرب والبوسنة والهرسك، وكاشغر (الصين الشعبية)، وبعض جمهوريات آسيا الوسطى: أذربيجان وأوزبكستان، وقازقستان وطاجكستان، وشارك في إلقاء المحاضرات طائفة من العلماء المشتغلين بعلم المخطوطات، كان منهم من مصر: الدكتور عبد الستار الحلوجي، والأستاذ نصر الله مبشر الطرازي.
وكذلك اختلف حال المخطوطات اليوم عن حالها بالأمس اختلافاً كبيراً،
(1) مجلة «الهلال» ، ديسمبر 1994 م.
وبخاصة في ديارنا المصرية، ففي ذلك الزمان كانت المخطوطات في مصر مصونة متاحة، وكان القائمون عليها والمتصرفون فيها أولى علم وبصر، يعرفون أسماء المخطوطات في كل علم وفن، كما يعرف الناس آباءهم، وكانت لديهم القدرة على قراءة العسر المعمى من المخطوطات، وتمييز الصحيح من الزائف، والعتيق من المحدث، إلى معارف أخرى تتصل بهذا العلم، كالمخطوط النادر، ومقاييس هذه الندرة: من خطوط المؤلفين أنفسهم، وحظوظ بعد الكتب من كثرة مخطوطاتها أو قلتها، ومعرفة مظان المخطوطات وأماكن وجودها. وقد ذهب هذا كله، إلا بقية خافتة الصوت ضعيفة الأثر.
ويشتد بي العجب - وقد قضيت مع هذا العلم خمسة وثلاثين عاماً: ناسخاً ومفهرساً ومحققاً ودارساً - حين أقرأ لبعض الناس الآن كلاماً أخاذاً براقاً عالي النبرة عن المخطوطات وسرقتها والغيرة عليها، مع يقيني الذي لا يداخله الشك أنهم لم يعانوا هذا العلم ولم يعرفوا شيئاً عن أسراره وخباياه، فضلاً عن أنهم لم يجالسوا شيوخه وأعلامه، وأساس العلم التلقي والمشافهة، فهي حماسة كاذبة، وولاء مدخول:
وكل يدعي وصلاً بليلى
…
وليلى لا تقر لهم بذاكا
وهذا الحديث مما يطول جداً فلنتركه إلى حين، ولنعد إلى تركيا هذا الجزء العزيز من العالم الإسلامي، حديث المخطوطات فيها، وهو حديث غريب عجيب.
وقيل أن نتكلم على فضل الأتراك العثمانيين على هذا التراث الإسلامي، بجمعه وحفظه وصيانته، لا بد من التذكير بفضلهم في نشر الإسلام بأوروبا، لأن هذا من ذاك، ومعلوم أن كلمة «تركي» كانت في وقت من الأوقات مرادفة لكلمة «مسلم» في أذهان الأوروبيين الغربيين، وكان زحف الأتراك العثمانيين على بلاد البلقان وتوغلهم فيها، ثم اتجاههم إلى قلب أوروبا، ودخول محمد الفاتح القسطنينية وفتحا سنة 757 هـ = 1453 م، كان ذلك كله بمثابة الضربة الثانية للمسلمين في
أوروبا، وكانت الأولى يوم أن عبر المسلمون بقيادة طارق بن زياد بوغاز جبل طارق سنة 92 هـ - 710 م.
يقول الدكتور عبد العزيز الشناوي في كتابه القيم «الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها» ص 43: «وقد نظرت أوروبا إلى الفتوح العثمانية على أنها فتوح إسلامية، وكان الأتراك العثمانيون - في تقدير أوروبا - هم الرمز الحي المجسد للإسلام، واختلط الأمر على الأوروبيين في ذلك الوقت، فكانوا يطلقون على المسلم لفظ تركي» . وانظر بقية كلامه، فإنه عال نفيس، ثم انظر الدوي الهائل الذي أحدثه فتح السلطان محمد الفاتح للقسطنطينية في كتاب شيخنا أبي فهر محمود محمد شاكر «رسالة في الطريق إلى ثقافتنا» ، واقرأ أيضاً ما كتبه المستشرق الروسي كراتشكوفسكي في كتابه «تاريخ الأدب الجغرافي العربي» ص 451، عن أثر فتح السلطان سليم العثماني لمصر سنة 923 هـ، وأن استانبول أخذت منذ ذلك الحين تجتذب إليها بشكل مطرد أنظار العرب الذين أخذت أوطانهم تدور في فلك الدولة العثمانية بطريق مباشر أو غير مباشر، وفي ذلك الوقت بالتحديد بحث البابا ليون العاشر الإيطالي مع فرنسوا الأول ملك فرنسا، في عام 1515 م، مشروع حملة صليبية ضد الترك العثمانيين لوقف زحفهم وتوغلهم.
ثم اقرأ أيضاً ما قاله المؤرخ ابن العماد الحنبلي، في كتابه شذرات الذهب 8/ 143، في ترجمة السلطان سليم العثماني هذا، يقول:«هو من بيت رفع الله على قواعد فسطاط السلطنة الإسلامية، ومن قوم أبرز الله تعالى لهم ما ادخره من الاستيلاء على المدائن الإيمانية، رفعوا عماد الإسلام وأعلوا مناره، وتواصوا باتباع السنة المطهرة، وعرفوا للشرع مقداره» - ويلاحظ أن ابن العماد قائل هذا الكلام توفي سنة 1089 هـ، فهو قريب العهد بأحداث زمان دخول السلطان سليم مصر، وأنه ولد بدمشق وأقام بالقاهرة مدة طويلة، ومات بمكة، فلم يكن عثمانياً يميل بهواه إلى أبناء جلدته، ولم يدخل بلاد الروم - استانبول وما حولها - حتى يكون له فيها حظ من جاه، أو نصيب من نفع، يحملانه على الثناء والمدح - فاقرأ هذا كله وتدبره،