الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولا تقل طلبة الدراسات العليا؛ لأن باب الدراسات العليا باب ضيق جداً؛ ولأن الأصل أن تعرض هذه الكتب - الشيء منها بعد الشيء - على طلبة الجامعة، على امتداد السنوات الأربع، بل في المراحل التعليمية السابقة على الجامعة، ليأنسوا إليها ويألفوها ويعايشوها، فإذا قدر لأحدهم أن يمضي في دراسة عليا كان مستصحباً لأصول العلم وأساسه، وإذا انقطع بأحدهم الطريق كانت هذه المعرفة عوناً له وسنداً فيما يعالج من أمور التعليم والثقافة، وأعرف نفراً من زملائنا المعلمين الذين لم يستكملوا دراساتهم العليا يفوقون كثيراً من حملة الدكتوراه الآن، ولكنها حظوظ الناس:
متى ما ير الناس الغنى وجاره
…
فقير يقولوا عاجز وجليد
وليس الغنى والفقر من حيلة الفتى
…
ولكن أحاظٍ قسمت وجدود
رموز التنوير:
وإنما كان زملاؤنا المعلمون على هذه الصفة لأنهم يأوون إلى ركن شديد من المعرفة التي أتاحتها لهم دراستهم الجامعية الجادة الصارمة في ذلك الزمان الرخي قبل أن يدهمنا السيل وتغشانا النوائب بذلك التنقص والاحتقار الدائم لتاريخنا وعلومنا، وإنك لا تجد أمة تستهين بتاريخها وعلومها ومعارفها كالذي تجده من بعض أفراد أمتنا الآن، وقد كان الهجوم على علومنا ومعارفنا يسمع من بعض من ينتسبون إلى الأدب، من أحلاس المقاهي وسمَّار الليالي، ثم صار الآن يسمع مجلجلًا في قاعات الدرس الجامعي: هجوماً كاسحاً أكولًا على الشعر العربي والنحو العربي والبلاغة العربية - «بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه» - ويقول هؤلاء لتلاميذهم: إن الكتب القديمة حفائر وأكفان موتى، وقد غاب عن هؤلاء أمران:
أولهما: أن رموز (التنوير) وأعلامهم الذين يتحدثون عنهم الآن قد خرجوا من عباءة هذا القديم، كما ذكرت من قبل.
وثانيهما: أن هذه الكتب لو لم يكن فيها إلا أنها تعلم الجد وتقود إلى الصرامة لكان في ذلك ما يغري باقتنائها وطلب العلم منها.
يقول مصطفى صادق الرافعي: «ومما ترده على قارئها تلك الكتب في تربيته للعربية أنها تمكن فيه للصبر والمعاناة والتحقيق والتورك في البحث والتدقيق في التصفح، وهي الصفات التي فقدها أدباء هذا الزمن فأصبحوا لا يثبتون ولا يحققون، وطال عليهم أن ينظروا في العربية، وثقل عليهم أن يستبطنوا كتبها، ولو قد تربوا في تلك الأسفار وبذلك الأسلوب العربي لتمت الملاءمة بين اللغة في قوتها وجزالتها، وبين ما عسى أن ينكره منها ذوقهم في ضعفه وعاميته، وكانوا أحق بها وأهلها.
وذاك بعينه هو السر في أن من لا يقرأون تلك الكتب أول نشأتهم لا تراهم يكتبون إلا بأسلوب منحط، ولا يجيئون إلا بكلام سقيم غث، ولا يرون في الأدب العربي إلا آراء ملتوية، ثم هم لا يستطيعون أن يقيموا على درس كتاب عربي فيساهلون أنفسهم، ويحكمون على اللغة والأدب بما يشعرون به في حالتهم تلك، ويتورطون في أقوال مضحكة، وينسون أنه لا يجوز القطع على الشيء من ناحية الشعور، ما دام الشعور يختلف في الناس باختلاف أسبابه وعوارضه، ولا من ناحية يجوز أن يكون الخطأ فيها، وهم أبدًا في إحدى الناحيتين أو في كلتيهما». مقدمة شرح أدب الكاتب للجواليقي ص 3.
فهذه إحدى الطوام: الطعن في كتبنا واجتواؤها والإزراء بها. وثانية أشد وأعجب - وكل الأمور عجب -: يأتيني أحد طلبتي فيعرض علي شيئاً من شعره فأقول له: يا بني، ليس هذا شعراً، هذا عجن وتخليط، فيحاجني بنماذج كثيرة تعج بها جرائدنا ومجلاتنا، مصحوبة هذه النماذج أحياناً بتحليل وثناء لبعض كبار أدبائنا وأساتذتنا وزملائنا الجامعيين، يرفعون بكلام حل خسيسة كلام هزيل:
في زخرف القول تزيين لباطله
…
والحق قد يعتريه سوء تعبير
تقول: هذا مجاج النحل تمدحه
…
وإن تعب قلت: ذا قيء الزنابير
مدحاً وذماً وما جاوزت وصفهما
…
حسن البيان يري الظلماء كالنور
ونعم
…
لقد جاوز الأمر حده، وأصبح واجباً على كل ذي عقل أن يقف أمام هذا السخف، إن هذا الذي ينشر على أنه شعر إنما هو امتهان للعقل؛ من حيث كان