الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من قبل، قال حين تحدث عن عيوب المعجم العربي:«فهذه العيوب تنقسم إلى ثلاث مجموعات: منها ما يمكن تهذيبه، ومنها ما يمكن تطويره وتحديثه، ومنها عصي يرتبط بمسألة تدوين اللغة، وهو ما لا يمكن تهذيبه أو تحديثه» ، المعجم العربي ص 260.
فهذا الذي يرتبط بمسألة تدوين اللغة هو روح اللغة ونظامها الذي لا ينبغي أن يمس بحال، ومن ثم لا ينبغي أن يوصف بعسر ترتيب أو سوء ترتيب، وليس أمام الباحث الآن إلا مد حبال الصبر والاستمساك بعرى الأناة، والتدرج في مراقي الإلف والعادة، لتنفتح له مغاليق هذه المعجمات الكبار، وأعرف أناساً من أهل العلم ثم من شداته والمبتدئين فيه، يقرأون اللسان والتاج في يسر وسهولة، ويقعون على حاجتهم منه في غير مؤونة ولا كلفة.
وليس يخفى الفرق بين شخصين، يطلب أحدهما معنى كلمة أو تركيب، ويريد الثاني تحرير قضية لغوية، تتصل بالأبنية أو الدلالة، فالأول يكفيه معجم صغير، مثل مختار الصحاح أو المعجم الوجيز أو الوسيط اللذين أصدرهما مجمع اللغة العربية بالقاهرة، وفيهما جهد كبير، أما الثاني فلا بد له من أن يركب الصعب، ويأخذ نفسه بالجلادة والصبر، إن معرفة اللغة والوقوف على شيء من أسرارها لا يكفي فيها اللسان أو التاج، بل لا بد فيها من الرجوع إلى ما لا يحصى من كتب اللغة الصغار والأوساط، وكتب الألفاظ، ومعاجم المعاني وشروح الشعر، وشروح غريب القرآن وغريب الحديث، وكتب الأمالي والماجلس، بل كتب التاريخ والبلدان والمعارف العامة.
ويبقى التنبيه على عدة أمور:
أولًا: ثبت - إن شاء الله - أن لسان العرب وتاج العروس هما أوسع المعاجم اللغوية وأغزرها مادة، وأنهما قائمان على أساس التجميع من المعاجم السابقة ليس غير فهما بهذا الوصف داخلان في حيز الموسوعات، والتعامل مع الموسوعات له أدوات، منها الصبر وبذل الجهد، والنفس الطويل، والخبرة السابقة بكتب العربية في
فنونها المختلفة، فالعسر الذي يجده الباحث في هذين المعجمين الكبيرين لا ينبغي أن يعمم على سائر المعاجم العربية.
ثانياً: ابن منظور من علماء القرن الثامن والزبيدي من علماء القرن الثاني عشر، وقد سبقتهما جهود كثيرة في التأليف المعجمي، وهذه التآليف خضعت لمناهج مختلفة في المادة والترتيب، وكلها قائمة على اليسر والسهولة، مثل الصحاح ومختاره، وأساس البلاغة للزمخشري، والمصباح المنير للفيومي.
ثالثًا: هناك طائفة من المعاجم اللغوية قائمة على فكرة الأبنية، فالمنهجية تحكمها، والغاية فيها واضحة، مثل إصلاح المنطق لابن السكيت (244 هـ) وديوان الأدب لأبي إبراهيم الفارابي (350 هـ) وهو غير الفارابي الفيلسوف، ومثل كتب الأفعال لابن القوطية (367 هـ)، وللسرقسطي (بعد 400 هـ) وابن القطاع (515 هـ) إلى جانب معاجم الأضداد والمشترك اللفظي، ومعاجم المعاني، والأجناس اللغوية، وأعلاها المخص لابن سيده (458 هـ)، ثم معاجم الموضوعات الخاصة، مثل معاجم غريب القرآن وغريب الحديث، وما كتب في خلق الإنسان والبهائم والحشرات والإبل والخيل والنبات، والمطر واللبن، وما كتب في نوادر الأبنية.
رابعاً: مما ينبغي أن يضم إلى المعجم اللغوي تلك المؤلفات التي عنيت بشرح ألفاظ ومصطلحات العلوم، وهذه المؤلفات تقسم إلى قسمين:
(أ) مؤلفات عامة، تجمع المصطلحات المستخدمة في كافة العلوم الإسلامية - بما فيها علوم اللغة العربية - أو في أكثر هذه العلوم دون تمييز.
(ب) مؤلفات خاصة، يفرد كل منها لمصطلحات علم واحد، أو مجموعة قليلة من علوم متقاربة.
ومن أشهر مؤلفات القسم الأول: مفاتيح العلوم للخوارزمي (387 هـ)، والتعريفات للسيد الشريف الجرجاني (816 هـ). والكليات لأبي البقاء الكفوي
(1094 هـ) - وهذا الكتاب من أعظم الكتب وأنفعها، وإني أنصح به كل طالب علم - وكشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي، أتم تأليفه سنة (1158 هـ). وأبجد العلوم لصديق القنوجي (1307 هـ). أما مؤلفات القسم الثاني فشيء كثير، لا يتسع له هذا المقام، انظره في مقدمة الدكتور حسن محمود الشافعي لكتاب: المبين في شرح ألفاظ الحكماء والمتكلمين، لسيف الدين الآمدي (631 هـ)، ثم انظر كتابي: الموجز في مراجع التراجم والبلدان والمصنفات وتعريفات العلوم.
فهذا هو بناء المعجم العربي، بناء ضخم متماسك، واضح المعالم، قريب المورد، ميسور الاجتناء، ما لم تطبق عليه نظام المعجم الأوروبي، وتنتظر منه أن يعطيك ما يعطيكه ذلك المعجم.
وبعد: فإن من الخير والعدل أن نتوقف عن الطعن في معاجمنا اللغوية، ونمسك عن سوء الترتيب وتشويش المادة، نتجاوز هذا كله، ثم ننظر في أمر هذه المعاجم: نستدرك فائتها، ونكمل نقصها، ونبرز فوائدها، ونيسر سبيلها، وفي ذلك الطريق، أطرح هذه المقترحات:
أولاً: جمع اللغة التي جاءت في كتب العربية الأخرى غير المعاجم، وذلك ما تراه في أشعار العرب التي شرحها أئمة الأدب واللغة، من أمثال الأصمعي وتلميذه أبي نصر الباهلي، وأبي عمرو الشيباني، وأبي العباس الأحول، وابن السكيت وثعلب والسكري، وقد قام هؤلاء مادة لغوية غزيرة من خلال شروحهم لما جمعوه من شعر، هذا إلى اهتمام علماء كل فن وعلم باللغة، يقدمونها بين يدي علومهم، كالذي تراه مثلًا في شراح أبي علي الفارسي لمفردات اللغة في كتابه: الشعر أو شرح الأبيات المشكلة الإعراب، وكذلك ما صنعه ابن الشجري في كتابه: الأمالي النحوية. وبعذ هذه الشروح اللغوية لم يرد في المعاجم اللغوية المتداولة، وقد تنبه إلى ذلك ونبه عليه مشايخنا فيما نشروه من كتب الأوائل، ومن ذلك ما ذكره شيخنا أبو فهر بآخر طبقات فحول الشعراء باسم «ألفاظ من اللغة أخلت بها المعاجم أو قصرت في بيانها» ، وما ذكره أستاذنا عبد السلام هارون رحمه الله، من إحصاء
لهذه الألفاظ والكلمات التي لم ترد في المعاجم بآخر: البيان والتبيين، ومقاييس اللغة، والأصمعيات والمفضليات ومجالس ثعلب.
ومن تجاربي الشخصية في التماس الشروح اللغوية من دواوين الشعراء: أني كنت أبحث يوماً عن توثيق كلام في اللغة لأبي العباس أحمد بن يحيى المعروف بثعلب (291 هـ)، فنظرت في المطبوع من كتبه اللغوية، المجالس، والفصيح، فلم أجد فيها كلامه الذي نقله عنه الأئمة، ثم نظرت في شرحه على ديوان زهير بن أبي سلمى، فوجدت بغيتي فيه، وما دلني على ذلك إلا فهرس اللغة الذي صنفه محققو الديوان من مشيخة دار الكتب المصرية.
ثانياً: استخراج المواد اللغوية المذكورة في المعاجم في غير أبوابها، كأن تجد مثلًا كلاماً على مادة (قلب) في أثناء مادة (بدأ) ومثل هذ كثير، فإننا نجد ألفاظاً وتراكيب قد ذكرت في غير موادها؛ لدواعي الاستطراد والمناسبة، ولا سيما في لسان العرب وتاج العروس، لاتساع مادتهما وكثرة نقولهما، كما عرفت من قبل.
ومن أنفع ما قرأت من ذلك ما صنعه الدكتور محمد حسن جبل، في كتابه الذي سماه:«الاستدراك على المعجم العربية في ضوء مئتين من المستدركات الجديدة على لسان العرب وتاج العروس» . وقد نشره منذ تسع سنوات، ولعله يمضي في هذا الطريق إلى نهايته، هو ومن يختار من تلاميذه، ثم رأيت في نشرة دار العلم للملايين ببيروت لكتاب «الجمهرة» لابن دريد (321 هـ) رأيت في هذه النشرة فهرساً نافعاً جداً في هذا المقترح، سموه: فهرس الجذور غير الواردة في أبوبها.
ومثل هذين المستدركين على المعاجم العربية - جمع اللغة التي جاءت في غير المعاجم، واستخراج المواد والجذور المذكورة في غير أبوابها من المعاجم - يمكن أن يقوم بها معيدو أقسام اللغة العربية بالكليات الجامعية، مع شيء من التحليل والدراسة، ويحصلوا بها على الماجستير والدكتوراه، بدلاً من تلك الموضوعات المكرورة المتشابهة التي يدخل فيها اللاحق على السابق.
ثالثًا: إعادة نشر معاجمنا العربية التي طبعت منذ زمن بعيد، بالاستفادة من التقدم الطباعي الحديث، باستخدام الألوان، والتوسع في علامات الترقيم وأوائل السطور والفقرات، وإبراز أوائل المواد وآخرها. ومن أعظم التجارب وأنفعها التي ينبغي الاستفادة منها في هذا السبيل: ما قام به الناشر السوري النابة «رياض دعبول» صاحب مؤسسة الرسالة، في تلك الطبعة العظيمة من «القاموس المحيط» للفيروزآبادي (817 هـ)، وقد جاءت هذه الطبعة العالية في مجلد واحد (1750) صفحة، فاختصر المجلدات الأربع التي كان يطبع عليها القاموس قديماً، وقد اتبعت مؤسسة الرسالة هذه الخطوات - في إخراج تلك الطبعة الرائعة من القاموس، التي ظهرت الطبعة الثانية منها سنة 1407 هـ = 1987 م -:
1 -
تحلية النص وتنسيقه بإدخال علامات الترقيم.
2 -
وضع كل مادة جديدة من أول السطر، وتمييز ألفاظ المادة بالحرف الأحمر.
3 -
إثبات الحواشي أسفل الصفحة مع أرقام في المتن تشير إليها وتدل عليها.
4 -
إثبات إشارة خط هكذا - (باللون الأحمر) للدلالة على أن الكلمة كررت في ذاك الموضع لإيراد معنى آخر لها، فهذا الخط هو بديل عن إعادة كتابة الكلمة.
5 -
تخريج الآيات القرآنية وقراءاتها، وتبيين الشاذ من القراءات.
6 -
جعلت الآيات القرآنية بين قوسين مزركشين، والأحاديث الشريفة والأمثال بين قوسين صغيرين.
7 -
أثبت في أعلى كل صفحة أول وآخر مادة فيها، تسهيلًا للعثور على المادة.
وعلى نحو من هذا الإخراج الميسر طبع من «تاج العروس» ثمانية وعشرون
جزءاً، وبقي منه اثنا عشر جزءاً، والمأمول من وزارة الإعلام بالكويت التعجيل بإخراج هذه الأجزاء الباقية من الكتاب الذي ظهر الجزء الأول منه عام 1965 م.
رابعاً: إعادة نشر «لسان العرب» أشهر المعجمات العربية، وقد طبع أول مرة بمطبعة بولاق سنة 1300 هـ، فقد مضى على طبعه (115) سنة، وقد آن الأوان لكي نظهره في طبعة تليق به، وتيسر سبيل الانتفاع به، باستخدام التطور الطباعي الحديث كما ذكرت، ثم تخليصه من شوائب التصحيف والتحريف التي مني بها، وذلك بجمع كل ما كتبه أهل العلم في ذلك، ومنهم العلامة المغفور له أحمد تيمور باشا، وقد نشر جزءين صغيرين في تصحيح اللسان، أحدهما في مطبعة الجمالية سنة 1334 هـ، والآخر في المطبعة السلفية سنة 1343 هـ، وكذلك صنع أستاذنا عبد السلام هارون، برد الله مضجعه، في كتابه الذي سماه:«تحقيقات وتنبيهات في معجم لسان العرب» ، وطبعه سنة 1399 هـ = 1979 م، وقد استدرك غيرهما شيئاً من ذلك على اللسان، فيجمع ذلك كله، وينزل على منازله من المواد اللغوية، مع مراجعة الكتاب على مراجعة الخمسة التي ذكرتها من قبل، وقد طبعت كلها.
فهذه المقترحات وغيرها مما يخدم لغتنا، ويسير سبيل الانتفاع بمعاجمها، أما ما يقال في تغيير ترتيب المعاجم العربية، وإعمال يد الإصلاح فيها، بالحذف والتقديم والتأخير، فكلام لا يصدر إلا عمن لا يحترم لغته، ولا يعرف تاريخه، وربنا المستعان.
* * *