الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البيان، كنت تقرأ لهم في الصحيفة اليومية والمجلة الأسبوعية، ثم كنت تراهم في فصول المدارس الابتدائية والثانوية، يروضون صغار التلاميذ على البيان، ويجمعون لهم «عناصر موضوع الإنشاء» الذي صار الآن «التعبير» ولا تعبير هناك ولا عبارة، ثم كانوا يخوضون بهم لجج بحار الشعر والنثر فيما كان يعرف بالمحفوظات والمطالعة.
حسن البيان:
وقد ذهبت تلك الأيام بحلاوتها ونضارتها وصرنا إلى هذا الزمان الذي زهد الناس فيه في حسن البيان، وهجروا طريقه هجراً يوشك أن يكون تاماً، وأصبحت أساليب كثير من الكتاب، ومن ينتسبون إلى الأدب الآن تدور في فلك ألفاظ مستهلكة تشبه العملة المعدنية الممسوحة، أو العملة الورقية التي تهرأت أطرافها من كثرة ما تداولتها الأيدي، أو كالعملة الزائفة التي ليس لها رصيد في مصرف النفس، وإنما هي ألفاظ وتراكيب تسود بها الصحف، تروح وتجيء، تتجاوزها عينك على عجل، لا تقف عندها، لأنك لا تجد فيها إمتاعاً، ولا تحس معها أنساً، فلاً عما تجده في بعضها من ثقل وغثاثة، تكاد تطبق على القلب وتسد مجرى النفس - وما أمر «الزخم» منك ببعيد - إلى هذه البلية المستحدثة، وهي بلية الغموض الذي يندفع فيه كثير من الأدباء الآن، وليس هو الغموض الذي يحرك النفس لتستخرج بحسن التأمل خبيء الكلام وموطي المشاعر، ولكنه الغموض المظلم الذي يكد العقل، ويكون مجلية للغم والكآبة، غموض العجز والحيرة.
وهذه الألفاظ والتراكيب التي يستعملها بعض أدباء هذا الزمان، أشبه بتقاليع (الموضة) تظهر ثم تختفي، لا تعرف ثباتاً ولا استقراراً، فقد كان نسمع في الستينات - كما ذكرت ي مقال سابق بالهلال - الواحدة الموضوعية، والمعاناة، وعمق التجربة والخلق وتراسل الحواس، والمونولوج الداخلي، والدفقة الشعورية، والتعبير بالصورة، والألفاظ الموحية، والشعر المهموس. والآن نسمع: الإبداع وتكثيف التجربة، والزخم (والعياذ بالله) والطرح، والمنظومة والإشكالية والتناص والتماهي والتفجير والتفكيك .. وهذا وأشباهه إنما هو كما قال ابن قتيبة منذ
(1240)
سنة في مقدمة أدب الكاتب: «ترجمة تروق بلا معنى، واسم يهول بلا جسم، فإذا سمع الغمر - أي الجاهل - والحدث الغر قوله: الكون والفساد وسمع الكيان .. راعه ما سمع، فظن أن تحت هذه الألقاب كل فائدة وكل لطيفة، فإذا طالعها لم يحل منها بطائل» ، أو كما قال أبو السعادات ابن الشجري:«تهاويل فارغة من حقيقة» الأمالي 1/ 56، ولا يغرنك أيها القارئ المبتدئ اجتماع الكتاب على هذه الألفاظ، وكثرة استعمالهم لها، فإن الاستعمال ليس بدليل على الحسن، كما يقول ضياء الدين ابن الأثير في المثل السائر 1/ 221.
إن كثيراً مما يكتب الآن لا صلة له بالعربية إلا صورة الحروف والأبنية من الأسماء والأفعال، أما روح العربية وآمادها الرحبة الواسعة فلا تجدها في أسلوب مما تقرأ، ولا في كلام مما تسمع، إني أحس أحياناً أن هؤلاء الذين يكتبون أدباً عربياً لم يمروا بالقرآن ولا بالبيان النبوي، ولا بكلام العرب، فإن ثروتهم اللفظية محدودة جداً، وتصرفهم في وجوه الكلام قصير الخطو، منقطع النفس، ولذلك تأتي معانيهم هزيلة خفيفة. لأن ضيق الألفاظ يؤدي إلى ضيق المعاني، كما يقول عبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز.
ومن الكلام الحكيم للجاحظ في هذه البابة قوله: «والأصل في ذلك أن الزنادقة أصحاب ألفاظ في كتبهم، وأصحاب تهويل، لأنهم حين عدموا المعاني ولم يكن عندهم فيها طائل، مالوا إلى تكلف ما هو أخصر وأيسر وأوجز كثيراً» الحيوان 3/ 365.
وهؤلاء الذين يزعمون أنهم ورثة طه حسين لم يسيروا في طريق بيانه، ولم يحاكوا حلاوة أدائه، وكان له في ذلك مستراد ومذهب، فانتماؤهم لطه حسين إذن انتماء كاذب وولاء منقوص.
وأيضاً هؤلاء الذين يتحدثون عن التنوير ورموز التنوير، لم يمروا بأدب أعلام هذا التنوير، ولم يسلكوا طرائقهم في معرفة العربية ورعاية قوانينها في حسن الأداء وجمال العبارة.
إن الذين يشكون الآن من «الأغاني الهابطة» لا ينبغي أن ينسوا أن هذه القضية مرتبطة بألوان الأدب الأخرى، وأن البيان كله من باب واحد، فيوم أن كان عندنا أدباء بيان كبار، كالمنفلوطي والزيات، كان عندنا كتاب أغان كبار، مثل أحمد رامي وبيرم التونسي وعبد الفتاح مصطفى وحسين السيد، لأن كلام الناس ينزع بعضه إلى بعض، ويأخذ بعضه برقاب بعض، وقد أنشدتك أيها القارئ الكريم من قبل قول ابن الرومي:
ولن تجد مع كثرة الغبار إلا قذى العيون.
والآن إذا أردت أيها القارئ العزيز أن تعرف سر هذا التردي في الكتابة، ومحافاة حسن البيان، والإعراض عن جمال العبارة، أعجزك أن ترده إلى سبب واحد أو سببين اثنين، وإنما هي أسباب كثيرة تداخلت وتشابكت، وسيأتيك حديثها - إن شاء الله - في المقال التالي.
* * *
البيان .. والطريق المهجور (1)[2]
وقفت في المقال السابق عند أسباب التردي في الكتابة ومجافاة حسن البيان وجمال العبارة، وقلت إن ذلك يرجع إلى أسباب كثيرة، أرجأت الحديث عنها إلى هذا المقال.
وبدءة ذي بدء لا أحب لك أيها القارئ العزيز أن تقول كما يقولون: إنها طبيعة العصر، وسرعة إيقاع الحياة، لا يدعان للكاتب فرصة لأن يحسن ويزين ويتأنق، كما أني لا أرضى لك أيها الشاب المبتدئ أن تصدق ما يقولونه من أن لغتنا العربية هي لغة الخيل والليل والبيداء، وأن زمانها قد راح وولى، وأن هذا عصر الكمبيوتر، فافسحوا له الطريق، لا أحب هذا لقارئي ولا أرضاه له.
وذلك لأن حسن البيان قيمة جمالية، والقيم الجمالية باقية ثابتة، لا تتغير بتغير الأيام وتبدل الأحوال، والفطر السوية تطرب للكلمة الحلوة، كما تطرب لهديل الحمام وزقزقة العصافير، وحفيف الشجر في ليلة طيبة الهواء، والعطر الفواح ينعشك سواء ركبت جملاً أو طائرة، ولا زلنا مع تغير الأصوات وتحولات الموسيقى نستقبل رمضان بأغنية أحمد عبد القادر «وحوي يا وحوي» كما نستقبل العيد بشدو أم كلثوم «يا ليلة العيد أنستينا» و «حبيبي يسعد أوقاته» وإن كانت هذه قد قيلت في عيد جلوس «فاروق» ملك مصر.
(1) مجلة «الهلال» ، أبريل 1995 م.