الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والنحوي أمام هؤلاء الشباب، ويحدثنا بعض الطلبة أن أستاذاً يخصص نصف المحاضرة لعرض القاعدة النحوية، ثم يصرف النصف الآخر لنقدها ونقضها، وبعضهم يبدأ حديثه عن المعاجم العربية بذكر عيوب المعجم العربي، من تكرار المادة وتشويشها وتضارب النقول فيها، ثم يأتي حديثه عن مناهج هذه المعاجم ومدارسها وطريقة التعامل معها، خافتاً ضعيفاً في آخر الكلام.
الحاجة الملحة للمعلم:
لقد تحول كثير من الأساتذة الآن إلى منظرين وفلاسفة، وبعضهم يستخدم مضطلحات وتراكيب لامعة براقة، تأسر الطالب أسراً، وتجعله دائم التطلع إليها والتشبث بها، يريد أن يحاكيها، وقد يصده ذلك عن التماس العلم الحقيقي.
إن الطالب في حاجة إلى مرب ومعلم، لا إلى منظر وفيلسوف، فكل ما يلقى على الطلبة في هذه المرحلة الجامعية الأولى، وكل ما يكتب لهم ينبغي أن يقوم على أساس ثابت من أصول العلم وحقائقه، وما فوق ذلك من نقد وتحليل وتتبع ينبغي أن يؤجل إلى مرحلة الدراسات العليا، كما قلت، فمناهج تدريس النحو والصرف واللغة والبلاغة والأدب يجب أن تدور في فلك القاعدة والشاهد، ولا بأس من الإلمام بشيء من النقد التحليل، يشرف ولا يتوغل، ويحوم ولا يواقع؛ لأنه لا يصح بحال أن نكشف لصغار الطلبة في هذه المرحلة الجامعية الأولى، عن أبواب النقد هذه، وأن ندلهم عليها، فإن مداركهم تقصر عن إدراك تلك المرامي البعيدة، فضلاً عما يحدثه ذلك في نفوسهم من زلزلة وبلبلة قد تزهدهم في العلم كله.
وقد نبه أهل العلم إلى ذلك من قديم، فقد ذكر أبو داد في رسالته إلى أهل مكة «أنه ضرر على العامة أن يكشف لهم كل ما كان من هذا الباب فيما مضى من عيوب الحديث؛ لأن علم العامة يقصر عن مثل هذا» ، قال الجاحظ ابن رجب الحنبيل:«وهذا كما قال أبو داود؛ فإن العامة تقصر أفهامهم عن مثل ذلك، وربما ساء ظنهم بالحديث جملة إذا سمعوا ذلك» شرح علل الترمذي ص 543، وروى أبو سعد السمعاني بسنده إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: «إن الرجل
ليحدث بالحديث فيسمعه من لا يبلغ عقله فهم ذلك الحديث فيكون عليهم فتنة» أدب الإملاء والاستملاء ص 59، 60، وروى ابن عبد البر عن هشام عن عروة بن الزبير بن العوام، قال:«قال لي أبي: ما حدثت أحداً بشيء من العلم قط لم يبلغه علمه إلا كان ضلالاً عليه» جامع بيان العلم وفضله 1/ 134.
وقال بدر الدين بن جماعة، فيما يجب على المعلم نحو طلبته:«وكذلك لا يلقي إليه ما لم يتأهل له؛ لأن ذلك يبدد ذهنه ويفرق فهمه، فإن سأله الطالب شيئاً من ذلك لم يجبه، ويعرفه أن ذلك يضره ولا ينفعه، وأن منعه إياه منه لشفقة عليه وعطف به، لا بخلاً عليه، ثم يرغبه عند ذلك في الاجتهاد والتحصيل، ليتأهل لذلك وغيره، وقد روي في تفسير «الرباني» أنه الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره».
وقال أيضاً: «ولا يشير على الطالب بتعليم ما لا يحتمله فهمه أو سنه، ولا بكتاب يقصر ذهنه عن فهمه» تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم ص 51 - 52 و 55، وذكر جلال الدين السيوطي من أدب الرواية والتعليم، قال:«ومن آدابهما الإخلاص، وأن يقصد بذلك نشر العلم وإحياءه، والصدق في الرواية، والتحري والنصح في التعليم، والاقتصار على القدر الذي تحمله طاقة المتعلم» . المزهر 2/ 330.
على أن بعض الأساتذة قد هدي إلى صراط مستقيم، فوضع بين يدي طلبته ذلك الكتاب الجامعي القائم على الكشف عن أصول العلم، وعرض القاعدة مؤيدة بالنصوص والشواهد؛ دون إغراق في النقد والتحليل، لكنه كان من المؤسف والمحزن حقاً أن ينظر إلى مثل ذلك العمل على أنه كتاب مدرسي، وصار هذا الوصف «الكتاب المدرسي» علامة على الخفة والسهولة، وصار مجلبة للتنقص وطريقاً إلى المعابة، بل بلغت الجرأة مداها أن يصف بعضهم ما كتبه أحد أعلامنا الكبار - متعه الله بالصحة والعافية - في تاريخ الأدب العربي في عصوره المختلفة، بأنه عمل مدرسي، غايته الجمع والتبويب، وأنه خال من التحليل والموازنة والنقد.
ومعنى هذا أنه إذا جاءك أحدهم بعمل قائم على الثرثرة بتلك المصطلحات
الخادعة: التحليل - الموازنة - النقد، ثم قمش علماً من هنا وسلخ علماً من هناك، واختار عنواناً أخاذاً براقاً. أقول: معنى هذا أن ذلك العمل يفوق أعمال هذا الأستاذ الكبير، الذي قدم أعمالًا ضخمة في تاريخ الأدب العربي وعصوره، أفنى فيها عمره، وأطاب بها ذكره.
إن مصطلح «التحليل» وما أثير حوله من صخب وطنطنة قد عطل علماً كثيراً، ودفع إلى كثير من التهويل والتضخيم، وغمط فضلًا كثيراً، ولقد ذكرني هذا الحديث بكتابين عظيمين، التقيت بهما في أوائل الستينات، إذ كنت طالباً بكلية دار العلوم، أولهما كتاب «أسس النقد الأدبي عند العرب» للدكتور أحمد أحمد بدوي رحمه الله، وثانيهما: كتاب «البيان العربي» للدكتور بدوي أحمد طبانة، أطال الله في عمره.
وهذان الكتابان مشحونان بالتعريفات والنصوص، لأعلام النقد والبلاغة كالجاحظ، وابن قتيبة، وأبي هلال العسكري، والآمدي، والقاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني، والشيخ عبد القاهر الجرجاني، وابن سنان الخفاجي، وابن طباطبا العلوي، وضياء الدين بن الأثير، وأذكر أننا كنا شديدي الضيق بهذين الكتابين، وكنا نشكو منهما كل الشكوى، ولعل مما أغرانا بالضيق والشكوى من هذا اللون من التأليف: ظهور جيل جديد من صغار النقاد، بدأوا يثرثرون من خلال المقاهي الأدبية التي كانت في تلك الأيام، مثل مقهى الإنديانا بميدان الدقي، ومقهى ريش بشارع طلعت حرب، وكنا صغاراً قليلي الخبرة، ولم يتح لنا أن نعيش أيام «رسالة الزيات» و «ثقافة أحمد أمين» ، فكان يسهل خداعنا بمثل هاتيك المصطلحات: الوحدة الموضوعية، والمعاناة والتجربة الشعورية، وتراسل الحواس، والمونولوج الداخلي، والدفقة الشعورية، والتعبير بالصورة، والألفاظ الموحية، الشعر المهموس، وكانت هذه الكلمات الضخمة تهزنا هزاً، فإذا رحنا نلتمسها في كلام الجاحظ وابن قتيبة والآمدي لم نجدها، فيتشد ضيقنا بكتابي الدكتورين الفاضلين، ونذم زماننا، ونلعن حظوظنا، ونود لو ضرب بيننا وبين أمثال هذه الكتب بسور ليس له باب.
ولقد بلغت السفاهة ببعضنا أن ذهب إلى ناقد ناشئ في تلك الأيام وحرضه على كتاب الدكتور أحمد بدوي، ثم استكتبه مقالة طائشة بجريدة الجمهورية، تطاول فيه تطاولاً فارغاً على الكتاب، فكانت كما قالت العرب في أمثالها:«أوسعتهم سباً وأودوا بالإبل» ، وهو مثل يضرب لمن يكن عنده إلا الكلام. والآن وبعد مضي هذا الزمان أستغفر الله مما كان مني من طيش وزلل في حق ذلك الكتاب، فقد كنت أيضاً من الساخرين العابثين، وإنما هي غفلة الصبا وغرارة الشباب، ولا أملك الآن إلا أن أنشد قول الشاعر:
رب يوم بكيب منه مراراً
…
ثم لما مضى بكيت عليه
وقول الآخر:
فليت أن زماناً مر دام لنا
…
وليت أن زماناً دام لم يدم
وقول الثالث:
عتبت على سلمٍ فلما فقدته
…
وجربت أقواماً بكيت على سلم
رجعت إليه بعد تجريب غيره
…
فكان كبرء بعد طول من السقم
وأعتقد أن كتاب الدكتور أحمد بدوي قد خرجت منه رسائل جامعية كثيرة، وكذلك كتاب الدكتور بدوي طبانة، فكانا أيضاً كما قالت العرب في أمثالها:«أكلاً وذماً» .
ومرة أخرى: لا بد من إعادة النظر في هذا المصطلح «الكتاب المدرسي» وإعادة التوقير له والهيبة. إن متون النحو الأولى مثل الموجز لابن السراج، والإيضاح لأبي علي الفارسي، واللمع لابن جني، وإعراب ثلاثين سورة لابن خالويه، والفصول الخمسون لابن معطي، والآجرومية، وقطر الندى لابن هشام، كلها تآليف صغيرة عملت للمبتدئين في دراسة النحو، فهي كتب مدرسية، ولكنها علامات بارزة في طريق العلم، ونازعة بالثقة في أصحابها واحترامهم وإنزالهم المنزلة العالية. ولم يقتعد ابن جني هذه الذروة الضخمة بكتابه الفذ «الخصائص»
وحده، بل كان إلى جانبه كتبه الصغار المدرسية، مثل «اللمع» الذي ذكرته، والكتاب «الملوكي في التصريف» .
ومن جناية هذا الوصف «الكتاب المدرسي» أن ذلك الكتاب القائم على أصول العلم وحدها دون إغراق في التحليل والتفلسف يرفض من أبحاث الترقيات ويستبعد من الجوائز الأدبية؛ لأنه كتاب مدرسي عمل للطلبة ليس غير، وهذا خلف من القول، وخطأ في الحكم. والكتاب المدرسي عمل من الأعمال العلمية: جيده جيد، ورديئه رديء، فلا يصح أن يستبعد جيده من أبحاث الترقيات، بل إني أتوق إلى اليوم الذي أرى فيه ترقية علمية يقصد بها الطالب قصداً، فإن بعض أبحاث الترقيات تدور غالباً في فلك بعيد عن الطالب، بل إن منها لما يشقق فيخرج منه كلام مفصل تفصيلاً على أعضاء لجان الترقيات، من حيث السير في طريقهم، والاستكثار من الرجوع إلى مؤلفاتهم بحق وبغير حق.
إن هذه النظرة المستخفة إلى الكتاب المدرسي قد دفعت كثيراً من الأساتذة المجيدين إلى شيء من الملل، فلم يعطوا الكتاب الجامعي حظه من الإجادة والإتقان، وكأن هذا الذي يقدم للطالب حسوة الطائر أو قبسة العجلان، لا تروي غليلاً ولا تضيء ظلاماً، ولا تنضج طعاماً، فجاء الكتاب الجامعي الآن - أو قل الكثير منه - في صورة مهلهلة: طباعة سيئة وورق رديء، فضلاً عن المادة العلمية الخفيفة، وتنظر إلى هذه الكتب الجامعية والمذاكرات على أبواب لجان الامتحانات وقد ألقاها الطلبة إلقاء على الأرض بعد أن نظروا فيها النظرة الأخيرة، فتراها وقد تحولت إلى شيء مكور مستدير كالذي يتقاذفه الأطفال بأرجلهم شبيهاً بالكرة التي يسمونها «الكرة الشراب» . وابك ما شاء الله لك أن تبكي على هذا العلم الملقى على الأرض، على ما قال الشاعر:
ويفت المسك في التر
…
ب فيوطا ويداس
إن أزمتنا الحقيقة أن الملل يسيطر على حياتنا الجامعية كلها، وإن أضعف جوانب الأستاذ الجامعي الآن هو ما يظهر للطالب في أثناء المحاضرة ومن خلال
الكتاب الجامعي، أما الجوانب المضيئة لذلك الأستاذ فهي مدخرة ومصونة ليوم تشخص فيه الأبصار، وهو يوم المؤتمرات والندوات والحلقات.
إن الجامعة ينبغي أن تتدخل - ممثلة في عمداء الكليات وروؤساء الأقسام، بالنظر في المادة التي يضمها الكتاب الجامعي، وفي الصورة التي يخرج بها ذلك الكتاب، وفي هذا الطريق ينبغي أن يكون لرؤساء الأقسام الهيمنة الكاملة على ما يقدم للطلبة، وليس فقط النظر في تلك الأعمال الإدارية النمطية المعروفة، ولا يعتصمن أحد بكرامة الأستاذ الجامعي، وهيبة الأستاذ الجامعي، فهذه الكرامة وتلك الهيبة تثبتان للأستاذ ما لزم الجادة واستوى على الطريق، فإذا زاغ أو مال سقطت الكرامة وضاعت الهيبة، على ما قال القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني:
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم
…
ولو عظموه في النفوس لعظما
إن الهيبة التي تمنحها الجامعة للأستاذ ليست حقاً إلهيا لا ينازع صاحبه فيه ولا يغلب عليه، إن الهيبة الجامعية تبقى ما بقيت دواعيها، فإذا سقطت الدواعي تبعتها الهيبة، على ما قال ابن زريق في عينيته الشهيرة:
أعطيت ملكاً فلم تحسن سياسته
…
وكل من لا يسوس الملك يخلعه
والسعيد من عصمه الله.
وعوداً على بدء أقول: إن الطالب هو أساس العمل الجامعي كله، فهو قطب الرحى وعمود الصورة، فيجب أن نحتشد له؛ تأليفاً ومحاضرات، وأن يكون هو المقصد والغاية، ثم يكون حظ الأستاذ من التقدير والترقية والاحترام قائماً على ما يقدمه للطالب ورفعة شأنه.
* * *