الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
زمن ابن خالويه والأزمان التي سبقته والتي جاءت بعده أن يتصدى العلماء لإعراب القرآن الكريم كله، ولكن الذي صنعه ابن خالويه شيء عجب: لقد وضع كتابه لإعراب ثلاثين سورة فقط، مبتدئاً بسورة الطارق، ومنتهياً بسورة الناس، ثم افتتح كتابه هذا بإعراب الاستعاذة والبسملة، وفاتحة الكتاب
…
ولا تفسير لصنيع ابن خالويه هذا وإيثاره لإعراب قصار السور هذه إلا أنه وضع الناشئة أمامه، لأن هذه السور من أوائل ما يحفظه الصبيان من الكتاب العزيز، وأنها كثيرة الدوران على ألسنتهم، وأن عرض قواعد النحو والصرف من خلال هذه السور القصار مما يثبتها ويمكنها في النفوس.
فتعليم النحو من خلال هذه الكتب القديمة الموجزة فيه تثبيت للعربية وتمكين لها في النفوس، مع التقاط معارف أخرى تأتي من خلال الشواهد والنصوص، وينبغي أن نحسن الظن بناشئتنا ولا نخشى عليهم من التعامل مع الكتاب القديم فإن فيهم خيراً كثيراً
…
ولقد كانت لي تجربة جيدة هذا العام، حين دعيت إلى تدريس النحو لطالبات السنة الأولى بكلية البنات بجامعة عين شمس، وقد قرأت معهن شيئاً من كتاب شذور الذهب على خوف مني ووجل، لكني صبرت نفسي معهن واحتشدت لهن احتشاداً، وكانت تجربة ناجحة جداً، وتلقت الطالبات كلام ابن هشام بقبول حسن، وقد رأيت من هؤلاء الطالبات نماذج مبشرة بخير كثير.
والغريب حقاً أن زملاءنا الأكرمين بالجامعات المصرية ينفرون من تدريس الكتاب القديم، وحين يخرجون إلى جامعات دول الخليج يحملون حملاً على تدريسه، وهناك يؤدونه بكفاءة عالية جداً، لأنهم بلا ريب أهل فقه وبصيرة، ولأنهم أيضاً ينتمون إلى
جيل المتون
الذي سأحدثك عنه.
جيل المتون:
على أن أخطر ما في هذه القضية أن يقترن تعليم النحو من خلال المذكرات والمختصرات بالطعن على أئمة النحاة والإزراء بتصانيفهم وغياب المنهجية في تآليفهم ومحاكمتهم إلى مناهج غربية ظهرت بعدهم بقرون.
ومما لا شك فيه أن أساتذتنا الأفاضل، وزملاءنا الأكرمين الذين يدورون في هذا الفلك إنما ينتمون جميعاً إلى الجيل العظيم: جيل المتون والحواشي، نعم كلهم من جيل الحفظة
…
حفظة القرآن الكريم والمتون والمنظومات، وهذا شيء أعرفه تماماً، وبخاصة عند أبناء كليتي: دار العلوم، من الجيل الذي سبقني والذي زاملني والذي جاء بعدي بقليل، فهؤلاء جميعاً قد تعلموا النحو من خلال الكتاب القديم، على هذا السياق، وبذلك الترتيب: التحفة السنية بشرح المقدمة الآجرومية - تنقيح الأزهرية للشيخ خالد الأزهري - قطر الندى وبلّ الصدى - شذور الذهب في معرفة كلام العرب، كلاهما لابن هشام - شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك - أوضح المسالك على ألفية ابن مالك لابن هشام - شرح الأشموني على ألفية ابن مالك مع حاشية الصبان عليه.
وبهذه المسيرة الأصيلة الضخمة استطاع أستاتذتنا وزملاؤنا أن يفقهوا النحو ويبرعوا فيه ثم يكتبوا مذكراتهم ومختصراتهم. وأيضاً نقدهم للفكر النحوي. ولو أنهم تربوا من أول أمرهم على المذكرات وتعلموا من المختصرات لما فقهوا ولما برعوا، ولما كتبوا «نحوهم الكافي والشافي والصافي والوافي» .
ثم إن الخطر كل الخطر: أن يصدر التشكيك في النحو ومصطلحاته من أساتذة كبار لهم في النفوس مكان ومكانة، ولكلامهم في القلوب وقع وتأثير. ومن ذلك ما وقع في يدي ذات يوم، من كلمة للأستاذ الكبير الدكتور نجيب محمود - متعه الله بالصحة والعافية - بجريدة الأهرام بتاريخ 1/ 12/ 1988 بعنوان:«العربي بين حاضره وماضيه» ، ضمن سلسلة مقالاته التي اختار لها عنوان:«عربي بين ثقافتين» ، وقد أدار كلمته هذه حول تقييم الموروث الذي انتهى إلينا من ماضينا، وأنه ينبغي علينا أن ننتقي ونختار، وأن ننظر إلى «نوع الحصيلة التي اخترناها لتكون هي ماضينا المبثوث فينا، وذلك لأننا قد نسيء الاختيار - وكثيراً جدّاً ما نفعل - فنبث عوامل الضعف والشلل من حيث أردنا القوة وانطلاقه الحياة» .
ثم دلل على سوء الاختيار هذا بنموذج من تجربته الشخصية مع مدرس اللغة
العربية الذي التقى به في السنة الثالثة الابتدائية، وذلك ما أملاه عليهم عن «إذا» و «أنها ظرف لما يستقبل من الزمان خافض لشرطه منصوب بجوابه». ثم تساءل الدكتور الفاضل عن جدوى تلك العبارة لا سيما والمتلقي طفل في الحادية عشرة من عمره؟ وعقب فقال:«وإني لأدعو القارئ إلى استعادة ما أسلفناه، وهو أن العربي إذ يحيا حياته حاملًا في رأسه هذا الذي قيل له عن كلمة «إذا» وما تؤديه، فإنما هو يحيا حاملًا معه نتفة من الماضي، لكنها نتفة عسيرة الهضم، قد تصيب المعدة بالأذى، وأما اليقين عنها فهو أنها لن تنفع حاملها غذاء يقتات منه ليكون عربيّاً موصول الهوية بماضيه، فإذا تصورنا أن مئات الألوف ممن يعدون بين حملة العلم في بلادنا يحيون وهم يحملون في رؤوسهم أطناناً من أمثال هذه «المعرفة» التي إن صلحت في الأركان الأكاديمية المعزولة عن الهواء الطلق فهي لا تصح لحياتنا الناهضة وسيلة حفز ودفع وتحريك».
هذا كلام الدكتور الفاضل، وفيه من سلطان الذكاء وقوة العارضة ومن بريق العذوبة والحلاوة ما ترى! ولكنه عند التحقيق منقوض ومردود عليه. والأستاذ الدكتور زكي نجيب محمود رمز من رموز فكرنا المعاصر، وهو أيضاً واحد من هذا النفر الكريم الذين أسهموا إسهاماً واضحاً في نشاط «لجنة التأليف والترجمة والنشر» ، هذه القلعة الضخمة من قلاع الفكر العربي.
فأقول: إن هذا المثال الذي ذكره الدكتور، ورأى فيه أساس الداء ومدخل البلاء في تعلم العربية: «إذا
…
ظرف لما يستقبل من الزمان خافض لشرطه منصوب بجوابه»
…
هذا المثال يستدعي - بلا ريب - عند بعض القراء أمثلة أخرى من بابه، ضاقوا بها أشد الضيق حين تلقوها أول مرة، وخاصة إذا لم يشتغلوا بالعربية وقضاياها فيما استقبلوا من أيام وما صرفوا من اهتمامات، لكنه في الوقت ذاته وبالقدر نفسه عند من اشتغلوا بالعربية، وجعلوها ميداناً لدراساتهم وأبحاثهم فيما بعد: يذكر بأيام زاهية جادة صارمة وضع فيها الأساس متيناً صلباً، فقام الباء عالياً شامخاً، «وإنما يمدح السوق من ربح» كما تقول العرب في أمثالها.