الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
استخفافاً باللغة وهزءاً بنظامها وأعرافها. لقد قرأت ذات يوم في جريدة كبرى كلاماً لشاعر يقول فيه: «نرفو أعراف الديكة فوق شرائح السمك البلطي» هكذا قال، وأنا أقول: لماذا سمك البلطي بالذات؟ ألأنه عريض؟ إن «سمك موسى» أعرض منه!
كلام ليس من كلامنا:
وفي العدد السادس من «أخبار الأدب» الجديدة، وفي الصفحة الثامنة والعشرين ترى هذا العنوان: الفتوحات: شعر
…
وفي أحد مقاطعه يقول تحت عنوان: الخليل بن أحمد: «حملت الدلاء على كتفي، وكنت أبص على جسد كالنديف، ولكنها كانت الأرض باردة، تتخللنا وتحيط أصابعنا باليقين، وتتركنا، قلت: أمشي وراء المظنات، أطرح ما حسبت أنه رعوي، ومنسدل، مثل مهر جميل على جسد الصحراء، وأدعك أطراف جسمي ببعض الغيوم، وأنفضها، فاكتشفت بأن الدم العب يحتجب الروح في جسد رقائق طينية
…
أن جسراً من الريح، يعلو على الأرض كي نتغطى به كالمرايا، وحين نفر إلى الله، نشهد أنفسنا، رائعين، ومجتلبين إلى الكون نحصر فيه الفساد، نبوبه في سجلات أعراضنا، ثم نردمه خلف بحر قديم تداركنا، فاعلن فاعلن».
ما هذا يا قوم؟ إني والله أسأل تعلماً لا تعنتاً عن معنى هذا الكلام! إن هذا الكلام وأمثاله مما يطلق عليه شعر، إنما هو كما قال ذلك الأعرابي وقد حضر مجلس الأخفش فسمع كلاماً لم يفهمه، فحار وعجب، فقال له الأخفش: ما تسمع يا أخا العرب؟ فقال: «أراكم تتكلمون بكلامنا في كلامنا بما ليس في كلامنا» ، أو كما قال القاضي الفقيه ابن دقيق العيد، عن الصوفي الشهير ابن سبعين:«جلست معه من ضحوة إلى قريب الظهر وهو يسرد كلاماً تعقل مفرداته ولا تفهم مركباته» .
ثم إن السلامة اللغوية مطلوبة في كل عمل أدبي، بل هي مطلوبة بداهة في كل كلام يجري بين العقلاء، فما معنى «أبص» في هذا الكلام؟ لم يرد هذا الفعل في كلام العرب بمعنى النظر، وإنما يقال: بص الجرو - وهو ولد الكلب - أي فتح عينيه، وفتح العينين غير النظر. فهي إذن عامية معرفة. قال المرتضى الزبيدي في تاج
العروس: «والبصاصة: العين في بعض اللغات، صفة غالبة، قيل: لأنها تبص، أي تبرق، ومنه قول العامة: هو يبص لي» .
وما موضع هذه الهاء في قوله: «ولكنها كانت الأرض باردةو» ؟ فهل هي ضمير الشأن والقصة؟ إن كان يريدها كذلك فما أبردها في هذا المكان!
ثم ما قيمة «فاعلن فاعلن» ها هنا؟ ألأنه قد ذكر قبلها كلمة «بحر» وكلمة «تداركنا» فيريد أن يعلمنا أن تفعيلات بحر المتدارك؟ فاعلن فاعلن؟ فها نحن قد علمنا وانبسطنا: مستفعلن فاعلن، ولا داعي لكل هذا الكلام الطويل: فعولن مفاعلين!
ويعلم الله، أننا لا نصدر عن عصيبة للقديم، فالشعر هو الشعر، ليس فيه قديم ولا جديد، وإنما مداره على الإمتاع واللذة، وما أصدق قول أحمد شوقي من قصيدته في أمين الريحاني:
والشعر في حيث النفوس تلذه
…
لا في الجديد ولا القديم العادي
وإننا نطرب لمحمود حسن إسماعيل طربنا لامرئ القيس وذي الرمة، بل إننا نطرب لشعر فؤاد حداد طرباً لا مزيد عليه، وتأخذ النشوة منا مأخذها حين نسمع أشعار صلاح جاهين في «الليلة الكبيرة» .
فكيف يسكت أساتذتنا الكبار وزملاؤنا الجامعيون على هذا العبث المسمى شعراً؟ بل كيف يزينونه؟ ويحسنونه، ولقد شفى وأبرأ سقمها تعليق للأستاذ الشاعر الناقد كمال النجمي (الهلال - سبتمبر 1990 م) على ما كتبه الدكتور شكري عياد حول كتاب «المستحيل والقيمة» للأستاذ بدر الديب، يقول الأستاذ النجمي:«والعجب الأكبر من أديب ناقد ثاقب البصيرة نافذ الفهم - الدكتور شكري عياد - يشغل وقته بالكتابة المطولة عن شعر وهمي يزعمه لأنفسهم ناثرون أمثال الأستاذ الديب، وهو كاتب فاضل كنا نرجو له الستر، أعترف أنني لم أفهم لا كلام بدر الديب ولا كلام شكري عياد، ففيم يتحدث هذان الفاضلان؟ وهلا نزلا إلينا لنفهم عنهما أو نحاول أن نفهم؟ » .
لقد كتبت وكتب غيري عن المستوى المتدني للغة العربية على ألسنة المتكلمين وأقلام الكاتبين: من شباب هذا الجيل، لكننا نعالج هذه القضية بكثير من التخوف والتردد والمصانعة والحذر من إغضاب الناس، والتحسب لردود الفعل التي قد تعطل مصالح العباد، وتقصي القريب وتقرب البعيد:
وفي النفس أشياء وفيك فطانة
…
سكوتي بيان عندها وخطاب
والقضية لا بد أن توضع في حاق موضعها إن كنا صادقين:
أولاً: إعادة النظر في مناهج تدريس العربية بدءاً من الابتدائي وانتهاء بالجامعة، بحيث تكون مناهج ترد التلاميذ إلى تاريخهم، وربطهم بعلم الآباء والأجداد - ولا أقول تراثهم؛ فإن هذه الكلمة قد أصبحت بغيضة عندي جداً، لما توحي به هذه الأيام عند بعض الناس من الماضي السحيق والفولكلور والمتحفيات - ولعلي أفرد لذلك مقالة، إن شاء الله.
لقد كنا في طفولتنا وصدر شبابنا نحفظ الشعر الجاهلي ومتون العلوم في الصباح، ونلعب الكرة الشراب عند العصر، فجرت اللغة في عروقنا واختلطت بلحمنا وعظمنا، وما أمر «مجموعة النظم والنثر» لعبد الله باشا فكري، و «المنتخب من أدب العرب» للسكندري وأصحابه، ببعيد، وهكذا الشأن عند سائر الأمم، فتلاميذ المدارس الإنجليزية يقرأون «شكسبير» ويعرفونه جيداً، وتلاميذ المدارس الألمانية يقرأون «جوته» ويعرفونه جيداً، مع الاحترام الزائد والتوقير الشديد.
ثانياً: تنقية الجو الأدبي خارج المدرسة والجامعة من الأوشاب والأخلاط.
فالمدرسة والجامعة لا يعملان بمعزل عن الحياة العامة، لقد كان طلاب ذلك الزمان السعيد يقرأون أصول العلم في معاهدهم، ثم يقرأون مرة أخرى على صفحات الرسالة والثقافة والمقتطف والهلال. ألم ينشر طه حسين «حديث الأربعاء» منجماً في «البلاغ» ؟ ألم ينشر أبو فهر محمود محمد شاكر كتابه العظيم عن المتنبي عدداً خاصاً من «المقتطف» ؟
وما يستقيم أن تبني المدرسة والجامعة، وتهدم المقاهي والأتيليهات والمجلات، على ما قال الأول:
فكيف بناء خلفه ألف هادم
…
وألف وألف ثم ألف وأعظم
وأنتم يا أساتذنا الفضلاء - وأنتم من بقية حملة الحجة - ويا زملاءنا من أساتذة الجامعة الأعزاء - وأنتم من بقية جيل الحفظة - لا تتعاملوا مع هذا الذي ينشر ويذاع باسم الشعر، فإنه غريب المنبت مُر المذاق، وليس بأرض قومكم فالفظوه وعافوه، ثم قفوا للأدعياء وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد حفاظاً على تاريخكم واحتراماً للغتكم، وقياماً بحق هذه الأجيال عليكم، أن يردوا الماء الذي وردتم، ويطعموا الطعام الذي طعمتم.
ثالثاً: إن هذه الأمة العربية محفوظة، ولن تخلو الأرض من قائم لله بحجة، ولا زال فينا أهل علم وأهل صدق، ولكنهم قلوا عدداً فأفسحوا لهم الطريق، ولا يصدنكم عنهم جهالة أمرهم، فإن النفيس غريب حيثما كان، كما قال أبو الطيب، ومكنوا لهم أن يظهروا بعلمهم، ولا تضيقوا عليهم فتصيبوهم بالإحباط، والإحباط قديم، قال أبو بكر ابن العربي المتوفى سنة (543 هـ):«ارتباط آي القرآن بعضها ببعض حتى تكون كالكلمة الواحدة، متسقة المعاني، منتظمة المباني، علم عظيم، لم يتعرض له إلا عالم واحد، عمل فيه سورة البقرة، ثم فتح الله عز وجل لنا فيه، فلما لم نجد له حملة، ورأينا الخلق بأوصاف البطلة ختمنا عليه، وجعلناه بيننا وبين الله، ورددناه إليه» . البرهان في علوم القرآن للزركشي 1/ 36.
ووقع مثل هذا لجلال الدين السيوطي (911 هـ) قال: «ولما شرعت في إملاء الحديث سنة اثنتين وسبعين وثمانمائة، وجددته بعد انقطاعه عشرين سنة، من سنة مات الحافظ أبو الفضل ابن حجر، أردت أن أجدد إملاء اللغة وأحييه بعد دثوره، فأمليت مجلساً واحداً، فلم أجد له حملة ولا من يرغب فيه فتركته» . المزهر في علوم اللغة 2/ 314.
وتبقى كلمة: لقد قلت إن هذه الأمة العربية محفوظة. واللهم نعم، فإن من آيات ذلك أني أصادف من طلبتي بين الحين والحين نماذج جيدة، تحب العربية وتحرص عليها وتتزود منها، بل إن منهم من يفتح علي أبواباً من الفهم حين يجاذبني الكلام، وأنا أقول لطلبتي دائماً: إنني جئت أتعلم العلم معكم مرة أخرى، فالعلم رحم بين أهله، والشيخ يستفيد من تلميذه، كما يستفيد التلميذ من شيخه، وكذلك أجد من زملائي المعيدين والمدرسين المساعدين مصابيح علم تتلألأ وتتوهج وسط هذا الظلام الموحش، لكن هؤلاء وهؤلاء في حاجة إلى معلم وموقف، لأن الأصل في علومنا الرواية والمشافهة والتوقيف، ونحن في زمن انقطعت دونه الرواية، وانصرف فيه الأشياخ، وترك طالب العلم وحده يضرب في أرض يهماء، لا ماء فيها، ولا علم بها.
وأنا أقول لهؤلاء المعيدين دائماً: إنكم في جيلكم أحسن منا في جيلنا؛ لأننا أدركنا الزمن الرخي، وأنتم جئتم في الزمان النكد، فنحن وأنتم كما قال أبو الطيب:
أتى الزمان بنوه في شبيبته
…
فسرهم وأتيناه على الهرم
وربك يفعل ما يشاء.
* * *