الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من إعجاز القرآن في أعجمي القرآن
(1)
من علوم القرآن التي اعتنى بها الأئمة، وأفردوها بالتصنيف علم «إعجاز القرآن» ، وقد بدأ الكلام في هذا العلم: شذرات ونتفاً في كتب التفسير، كشفاً لمواطن الكمال والجلال في كلام ربنا عرَّ وجلّ.
وقد دخل المفسرون إلى الإعجاز من طريق تلك الآيات التي أمر بها المولى تباركت أسماؤه رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم أن يطلب من مشركي قريش الإتيان بمثل ما أُنزل عليه، تدرجاً وتنزلًا، وذلك قوله تعالى:{أم يقولون أفتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات} [هود: 13]، وقوله تعالى:{وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله} [البقرة: 23]، ثم قضى عليهم بالعجز وأيأسهم أن يأتوا بشيء من ذلك، فقال عز من قائل:{قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا (88)} {الإسراء: 88].
ومعلوم أن مشركي قريش الذين سمعوا كلام الله يتلى على لسان رسوله الأمين كانوا أرباب فصاحة وبيان، وكانوا يعرفون مواقع الكلام وحلاوة البيان، ولذلك أدهشم القرآن حين سمعوه، ودله عقولهم بعظمة بيانه وروعة معانيه، ودقة نظمه واتساقه، وحين لم يجدوا في الطعن إليه سبيلًا لم يسعهم إلا أن يقولوا: إنه شعر، وإنه سحر، وإنه أساطير الأولين اكتتبها محمد صلى الله عليه وسلم فهي تملى عليه بكرة وأصيلًا.
وهذا كله إقرار بعظمة ما سمعوا، وإذعان لأنه كلام مباين لكلام البشر، لكن ما انغمسوا فيه من العناد والمكابرة صدهم عن الاعتراف بأنه وحي يوحى، نزل به الروح
(1) مجلة «الهلال» ، يناير 1994 م.
الأمين على قلب المصطفى المختار ليخرج الناس به من ظلمات الوثنية والشرك إلى نور الإيمان وصفاء التوحيد.
ثم كان أن هدى الله بهذا القرآن العظيم أقواماً، فأقبلوا على تلاوته، وتدبر أغراضه ومراميه، وتمثلوا أوامره، وانتهوا عن نواهيه. وكان هو كتابهم الذي يعتصمون به ويلجأون إليه فيما دق وجل من أمورهم.
وبقيت طائفة - ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة - لم تهتد ولم تذعن، وظل عداؤها للقرآن قائماً، فأخذت تنقر وتنقب، التماساً للمعابة في هذا الكتاب المحكم، باتباع متشابه، وتحريف كلم عن مواضعه، وتخيل فساد نظم أو لحن أسلوب، أو تناقص معنى، وقد أخذت هذه الطائفة تدب دبيباً في القرنين الأولين، تستخفي بآرائها مرة، وتصحر بها أخرى. لكنها في كلتا حالتيها لم تترك أثراً يذكر، إذ لم تكن لها شوكة، وكانت العقيدة على صفائها، لم تكدرها مقولات المتكلمين، ولا خلافات المتأولين، ثم كان اللسان العربي لا يزال صحيحاً محروساً لم يتداخله الخلل، ولم يتطرق إليه الزلل.
لكن الصغير يكبر ويشب، والزرع الضعيف يستحصد ويقوى، وتأتي أيام كالحات، تنجم فيها الفتن بدواع كثيرة: منها اختلاط اللسان العربي بغيره من الألسنة، وانتشار الكتب المترجمة بغثها وسمينها، وتغلغل أهل المذاهب والنحل الأخرى في صلب العقيدة الإسلامية، وإغرائها بالجدل وعلم الكلام، وأصحر أهل العداء القديم بآرائهم، وإذا الذي كان بالأمس همساً ونجوى يصبح اليوم وله دوي وصليل، فأخذت المجالس وحلقات الدرس تموج بتلك الآراء وتضطرب، وإذا بالذي كان مشافهة ومسامرة يسطر ويكتب وتتعاوره الأيدي.
ولم يكد المسلمون يدخلون في النصف الثاني من القرن الثالث حتى انكشف كل خبيء وظهر كل مكنون، واستعلن العداء للقرآن وللعربية ملفقاً في ثياب الخلاف الفلسفي والكلامي، ثم ما جر إليه كل ذلك من القول بفتنة خلق القرآن وأشباه لها من الكوائن والطامات.
لكن الله الذي تكفل بحفظ كتابه وفق طائفة من عبادة ذاذةً منافحين، قاموا لهذه المطاعن والشبهات، وألقوا بحججهم وبراهينهم فإذا هي تلقف ما يأفكون. ولعل أول حامل لهذا اللواء هو الإمام الجليل أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، خطيب أهل السنة، المولود سنة 213، والمتوفى سنة 276، فقد انتدب لهذه الشكوك والمطاعن التي تثار حول القرآن، فجمعها ثم سدد إليها سهامه وأعمل فيها معاوله، فاقتلعها من جذورها، وكان مجلى ذلك كتابه العظيم «تأويل مشكل القرآن» إلى ما نثره في كتبه الأخرى، مثل «تأويل مختلف الحديث» .
ثم ظهرت مسألة «إعجاز القرآن» مبحثاً قائماً بذاته، يقصد إليه قصداً. وكانت تلك المسألة «من أبرز المسائل التي تعاورها العلماء بالبحث أثناء تفسيرهم للقرآن، وردهم على منكري النبوة، وخوضهم في علم الكلام، كعلي بن ربن كاتب المتوكل في كتاب «الدين والدولة» ، وكأبي جعفر الطبري في تفسيره «جامع البيان عن وجوه تأويل آي القرآن» ، وكأبي الحسن الأشعري في «مقالات الإسلاميين» ، وأبي عثمان الجاحظ في كتابه:«الحجة في تثبيت النبوة» .
وكان علماء الاعتزال أكثر المثيرين للكلام في إعجاز القرآن، فقد ذهب النظام - من بينهم - إلى أن القرآن نفسه غير معجز، وإنما كان إعجازه بالصرفة، وقال:«إن الله ما أنزل القرآن ليكون حجة على النبوة، بل هو كسائر الكتب المنزلة لبيان الأحكام من الحلول والحرام، والعرب إنما لم يعارضوه، لأن الله تعالى صرفهم عن ذلك، وسلب علومهم به» .
وذهب هشام الفوطي، وعباد بن سليمان إلى أن القرآن لم يجعل علماً للنبي، وهو عرض من الأعراض، الأعراض لا يدل شيء منها على الله ولا على نبوة النبي. وكان ذلك وغيره من أقوال أئمتهما منبعاً غزيراً للقول في إعجاز القرآن. وقد انبرى كثير منهم للرد على من أنكر إعجازه جملة، كأبي الحسين الخياط وأبي علي الجبائي، اللذين نقضا على «ابن الراوندي» كتابه:«الدامع» الذي طعن فيه على نظم القرآن وما يحتويه من المعاني، وقال: إن فيه سفهاً وكذباً. وكذلك رد كثير منهم