المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الهجوم على التاريخ والمؤرخين: - مقالات الطناحي صفحات في التراث والتراجم واللغة والأدب - جـ ١

[محمود محمد الطناحي]

فهرس الكتاب

- ‌[مقدمة]

- ‌الطناحي ورحلته مع التراث العرب

- ‌فضل الرواد:

- ‌خدمة التراث:

- ‌وفاؤه وتواضعه:

- ‌علمه وفضله:

- ‌زينة المجالس:

- ‌من ذكريات الدكتور الطناحي في مكة

- ‌السيرة الذاتيةللأستاذ الدكتور محمود محمد الطناحي

- ‌النشاط العملي:

- ‌الإنتاج العلمي للأستاذ الدكتور محمود محمد الطناحي (من سنة 1963 م إلى سنة 1998 م):

- ‌التحقيقات:

- ‌المؤلفات:

- ‌الأعمال الوظيفية:

- ‌نماذج من رسائل العلماء إليه ومن خطه رحمه الله

- ‌رسالة من العلامة أحمد راتب النفاخ إليه بخطه

- ‌صورةرسالة من العلامة النفاخ له أيضا

- ‌صورةرسالة من الأستاذ عبد السلام هارون بخطه إلى الطناحي

- ‌صورةرسالة من الدكتور عبد العزيز التويجري إليه

- ‌صورةرسالة من الدكتور شاكر الفحام إليه

- ‌صورةخطاب من عميد كلية اللغة العربية بجامعة أم القرى بمكة المكرمة

- ‌أحمد محمد شاكر

- ‌أعماله العلمية:

- ‌وأما ما نشره من نصوص التراث الإسلامي: ففي الحديث:

- ‌وفي التفسير

- ‌وفي الفقه:

- ‌وفي الأدب:

- ‌فوائد سيَّد .. العالِم الذي فقدناه

- ‌ فؤاد سيَّد عمارة

- ‌رحلاته العلمية:

- ‌آثاره العلمية:

- ‌ثقافته:

- ‌رشاد عبد المطلب .. والديار التي خلت

- ‌إنتاجه العلمي:

- ‌1 -من مكرور القول ومُعاد الكلام أن الأمة العربية قد احتشدت لتسجيل تراثها وجمعه

- ‌2 -ويداول الله الأيام بين الناس، فتتهاوى عروش، وتسقط دول، وتتطاول أمم تريد أن تنقض كيداً ومكراً

- ‌المكتبات العامة والخاصة في المغرب:

- ‌عينية ابن زريق

- ‌التحقيق

- ‌وقد مرَّ تحقيق التراث أو نشره في الديار المصرية بأربع مراحل

- ‌المرحلة الأولى:مطبعة بولاق والمطابع الأهلية. وفي هذه المرحلة نشرت النصوص التراثية

- ‌المرحلة الثانية:عنيت هذه المرحلة إلى حد ما بجمع النسخ المخطوطة للكتاب المراد نشره، وذكر ترجمة المؤلف

- ‌المرحلة الثالثة:مرحلة دار الكتب المصرية. وفي هذه المرحلة أخذ تحقيق الكتب ونشرها يتجه إلى النضج والكمال، من حيث جمع النسخ المخطوطة من مكتبات العال

- ‌المرحلة الرابعة:مرحلة الأفذاذ من الرجال، وهي مرحلة الأعلام: أحمد محمد شاكر، ومحمود محمد شاكر، وعبد السلام محمد هارون، والسيد أحمد صقر

- ‌محمد مرسي الخولي .. والبنيان الذي تهدم

- ‌عود على بدء:

- ‌ جيل المتون

- ‌الضوابط الراسخة:

- ‌الحفظ وأثرهفي ضبط قوانين العربية

- ‌تراثنا قائم على الرواية:

- ‌حفظ كلام العرب:

- ‌هل الحفظ مطلوب

- ‌أمثلة من القرآن:

- ‌حلقات مفقودة في تراثنا المطبوع

- ‌أشهر المطابع:

- ‌خمسة كتب في كتاب واحد:

- ‌الوفاء لتراثنا:

- ‌أهمية المكتبة العربية:

- ‌حلقات مفقودة:

- ‌مخطوطات تاريخية كثيرة:

- ‌أشهر مخطوطة شعرية:

- ‌دار الكتب .. ونشر التراث في مصر

- ‌المكتبة الزكية:

- ‌عناية بالتراث:

- ‌لسان العرب لابن منظور

- ‌التصنيف والتدوين:

- ‌غيرته على العربية:

- ‌الأدب سبيل المعرفة:

- ‌طبعات اللسان:

- ‌عمل غير صالح

- ‌الشيخ مصطفى إسماعيل وقرَّاء مصر

- ‌نعمة من الله:

- ‌أولى خطوات الشيخ مصطفى:

- ‌حسد الحاسدين:

- ‌تسجيلات نادرة:

- ‌من خصائص صوت الشيخ مصطفى إسماعيل:

- ‌التصحيح اللغوي .. وضرورة التحرَّي

- ‌قضية لغوية:

- ‌لغة الجرائد:

- ‌نماذج:

- ‌الكتب الصفراء .. والحضارة العربية

- ‌النحو .. والشعراء

- ‌في قلب الحركة الشعرية:

- ‌تقعيد القواعد:

- ‌علم التوجيه النحوي ودوره:

- ‌الضيق بالنحو:

- ‌الضرورة الشعرية لا تبرر الخروج عن السّنن العربية:

- ‌القراءات الشاذة:

- ‌رجاء صادق:

- ‌العامة .. وقراءة التراث

- ‌هارون الرشيد وصور شائهة:

- ‌أبو نواس…صفحة مضيئة:

- ‌الشيخ عامر عثمان:

- ‌حلقة للإقراء بالأزهر:

- ‌مؤلفات الشيخ:

- ‌نور القرآن:

- ‌تلاميذ الشيخ في كل مكان:

- ‌قصيدة نادرة في المديح النبوي

- ‌قصيدة العباس بن عبد المطلب:

- ‌بحر القصيدة:

- ‌شرح القصيدة وتحليلها:

- ‌مع بداية العام الدراسي الجديد:من يقرأ هذه الكتب

- ‌الجاحظ والعربية:

- ‌رموز التنوير:

- ‌كلام ليس من كلامنا:

- ‌من إعجاز القرآن في أعجمي القرآن

- ‌«هذا الكتاب»:

- ‌وتبقى بعد ذلك كلمة:

- ‌الشيخ الشعراوي .. واللغة

- ‌ محمد متولي الشعراوي ظاهرة غريبة عجيبة في زماننا

- ‌ وللتاريخ نقول: إن الذي قدم الشيخ الشعراوي للأستاذ أحمد فراج هم طائفة من أدباء السعودية ووجهائها

- ‌العناية باللغة:

- ‌الشيخ وعلوم القرآن:

- ‌الشيخ وإنشاد الشعر:

- ‌الهجرة وكتابة التاريخ الإسلامي (1) [

- ‌نصف الكتب العربية:

- ‌مناهج كتب التراجم:

- ‌كتاب واحد:

- ‌الهجوم على التاريخ والمؤرخين:

- ‌الجامعة المصرية إلى أين؟الكتاب الجامعي والطريق الصحيح

- ‌الرأي الجمعي:

- ‌الحاجة الملحة للمعلم:

- ‌تركيا .. والمخطوطات العربية

- ‌نشاط علمي وثقافي:

- ‌حفظ العلم:

- ‌لفظ الجلالة:

- ‌في كم يتلى القرآن

- ‌البيان .. والطريق المهجور (1) [

- ‌البارودي والمرصفي:

- ‌حسن البيان:

- ‌ أسباب محنتنا فيما نكتب وفيما نقول

- ‌أولاً: ذهاب الكبار بالموت أو بالملل أو بالمصانعة:

- ‌ثانياً: قلة المحصول اللغوي عند الكتاب:

- ‌ثالثاً: تسويغ العجز باصطناع نظريات تمهد له وتسانده:

- ‌حسن البيان:

- ‌رابعاً: اقترن بتسويغ العجز عن جمال البيان:

- ‌بين الدعاية والسخرية:

- ‌خامساً: الكسل والإخلاد إلى الراحة:

- ‌المعاجم اللغوية .. والهجوم الذي لا ينتهي

- ‌نقد المعاجم العربية:

- ‌أغزر المعاجم اللغوية:

- ‌نحن والفهارس:

- ‌ويبقى التنبيه على عدة أمور:

- ‌الكتاب .. والتواصل العلمي

- ‌التعريف بالتراث الإسلامي:

- ‌أهمية إيداع المطبوعات:

- ‌المتنبي .. وعلم المخطوطات

- ‌والندرة أو النفاسة في علم المخطوطات ترجع إلى عدة أمور، منها:

- ‌مخطوطة نفيسة:

- ‌حاجتنا إلى المخطوطات:

- ‌ماذا عن علم المخطوطات

- ‌مسار التأليف العربي:

- ‌علماء المخطوطات:

الفصل: ‌الهجوم على التاريخ والمؤرخين:

رابعاً: إن الخدمة الحقيقية لتاريخنا إنما تكون بجمع مخطوطاته التي لم تنشر، ثم تحقيقها وتحقيق ما نشر من قبل غير محقق، وفق الأصول العلمية الصحيحة، ثم فهرسته الفهرسة العلمية الفنية، التي تضم النظير إلى النظير، وتقرن الشبيه إلى الشبيه، وستكون هذه الفهارس الفنية الكاشفة عدة وعوناً للدراسات والبحوث التي لا تقوم إلا على النص الموثق المحرر.

أما ما يقال عن غربلة التاريخ الإسلامي وتصفيته من الأخطاء والأوهام، وتخليصه من محاباة الحكام والملوك، وتنقيته من مظاهر الإسراف والمبالغات، ثم. ما يقال لك من أن ماضينا غارق في الظلمات، وأن تاريخ الدول يكتب في غير أوانه، كتاريخ الدولة الأموية الذي كتب في أيام الدولة العباسية: فكل أولئك من الكلام الذي يرسل إرسالًا؛ لتملأ به مجالس السمر، ويتخذ سبيلاً لادعاء العلم.

‌الهجوم على التاريخ والمؤرخين:

لقد تعرض التاريخ الإسلامي والمؤرخون المسلمون لكثير من الحيف والعدوان، وكان أعجب ما قيل:«إن التاريخ صنع للحكام والملوك، ولم يرصد نبض الشعوب وأشواقها» ، وبمثل هذه الألفاظ البراقة الخادعة يستميلون الشباب ويوقعونهم في قرار مظلم من الافتنان الكاذب والشك الموبق.

إن هذه القضية ينبغي أن تناقش على وجهها الصحيح، ويبدو أن كثيراً من كتابنا المعارضين قد خلطوا بين كتب التاريخ العام - أحداثاً وتراجم - وبين كتب المناقب. فكتب التاريخ العام إنما ترصد الحوادث والأحداث بصورة عامة وشاملة، ويدخل في نسيجها أخبار الخلفاء والملوك لا محالة، ويظهر لك هذا المنهج بوضوح في كتب التاريخ المرتبة على السنين «الحوليات» ، وكذلك في كتب التراجم العامة، وتأمل مثلًا كتاب «سير أعلام النبلاء» للذهبي، و «الوافي بالوفيات» للصفدي، و «وفيات الأعيان» لابن خلكان، وسترى أن تراجم الخلفاء والوزراء إنما تأتي في ترتيبها الألف بائي ليس غير، بل إن بعض تراجم هؤلاء الخلفاء والوزراء تأتي أحيانًا خافتة وموجزة إذا قيست بترجمة عالم معاصر لهم، كالإمام أحمد بن حنبل مثلًا،

ص: 305

الذي تملأ ترجمته صفحات كثيرة، فضلًا عما يتعرض له بعض هؤلاء الخلفاء أو الوزراء من نقد شديد، وإحصاء دقيق لأخطائهم وزلاتهم، ولست هنا بسبيل التمثيل لهذا أو ذاك.

أما كتب المناقب فهي كتب خاصة تدور حول شخصية واحدة، خليفة أو وزيراً، ولا بأس في ذلك ولا نكران؛ فإن من حق أي كاتب أن ينحاز إلى شخصية حاكمة ومؤثرة، ويفرد لها كتاباً يأتي على تاريخها وأعمالها، وهذا ما نشاهده إلى يوم الناس، نحن نقبله ولا نرفضه، ثم إن ما كتب في تراجم الأفراد خاصة ومناقبهم لم ينفرد به الحكام والخلفاء فقط، فقد ذكرت لك من قبل: مناقب أبي حنيفة، ومناقب الشافعي، ومناقب أحمد، وسيرة عمر بن عمر العزيز.

ويبدو أيضاً أن بعض من خاضوا في قضية «صنع التاريخ للحكام والملوك» قد خدعوا بتلك العنوانات التي تحمل أسماء الملوك والوزراء، مثلك تاب الصاحبي في فقه اللغة لابن فارس، نسبة إلى الصاحب ابن عباد، الوزير الشهير، والإيضاح العضدي في النحو، لأبي علي الفارسي، نسبة إلى عضد الدولة بن بويه حاكم فارس والموصل وبلاد الجزيرة، واللامع العزيزي - وهو شرح ديوان المتنبي - لأبي العلاء المعري، نسبة لعزيز الدولة فاتك بن عبد الله الرومي، الذي كان من رجال الحاكم بأمر الله الفاطمي، والمستظهري - وهو فضائح الباطنية - لأبي حامد الغزالي، نسبة إلى الخليفة العباسي المستظهر بالله، أحمد بن عبد الله.

فليس للصاحب بن عباد، ولا لعضد الدولة، ولا لعزيز الدولة، ولا للمستظهر بالله، ذكر في تلك الكتب إلا ما يكون من إشارة في المقدمات، فيها إشادة بهؤلاء الكبار أصحاب السلطة؛ لأن لهم عوناً ظاهراً للمؤلف ومساندة، كما نقول الآن: إن الكتاب الفلاني طبع بدعم من جامعة كذا، أو هيئة كذا، وتأمل الكتب التي تصدر تحت عنوان «سلسلة جب التذكارية» ونحوها، لأن هذه الجامعات والهيئات مؤَّلت الكتاب وأنفقت على طبعه، وهات لي الآن أميراً أو تاجراً ثرياً يعنني على طبع كتاب من كتبي، وأنا زعيم، أن أسمي كتابي باسمه الشريف، بل أجعل اسمه يتقدم

ص: 306

اسمي، ثم أكيل له المديح والثناء منظوماً ومنثوراً. على أن هؤلاء الملوك والوزراء الذين جاءت أسماؤهم عنوانات للكتب كانت لهم مشاركة واهتمام باللغة والأدب وفروع العلم عموماً، ويكفي أن تعلم أن مؤرخ الإسلام الحافظ الذهبي حين ترجم لعضد الدولة البويهي وصفه بالنحوي.

ولعل من أشد العنوانات خداعاً: ذلك الكتاب الذي ألفه ابن الجوزي وسماه: «المصباح المضيء في خلافة المستضيء» ، فهذا الكتاب وإن كان في ظاهره أنه في مناقب الخليفة العباسي المستضيء، فإنه ليس خالصاً له، وإنما استطرد ابن الجوزي فيه إلى تراجم كثيرة للصحابة وللخلفاء العباسيين، مع عناية ظاهرة بالوعظ والتذكير، يقدمها ابن الجوزي للسلطان أو للحاكم، لكي يستضيء بها في معالجة الأحوال السياسية والاجتماعية، كما ذكرت محققة الكتاب وناشرته العراقية الدكتورة ناجية عبد الله إبراهيم.

وكذلك كتاب: «الدر الفاخر فيل سيرة الملك ناصر» لابن أبيك الدواداري من مؤرخي المماليك في القرن الثامن الهجري، فهذا ابن أيبك وإن كان منحازاً للسلطان محمد الناصر بن قلاوون؛ لأنه كان يعمل في بلاطه، فإن كتابه هذا يعد وثيقة مهمة في تاريخ مصر والشام في ذلك الوقت، وهو بمثابة يوميات لهذين القطرين الكبيرين وجهادهما مع فلول الفرنجة من التتار.

فليس صحيحاً إذن ما سمعته - في برنامج تلفزيوني - من الدكتورة الأدبية الفصيحة نغمات أحد فؤاد من قولها: «إن التاريخ يخطئ حين يقول: هرم خوفو، وخوفو لم يبن هرمه، وإنما بناه المهندس المصري» .

إن التاريخ لم يخطئ يا سيدتي الدكتورة، ولكن هذا هو المعروف والمألوف في نسبة الأعمال الكبيرة، تنسب إلى عصورها، وإلى رموز هذه العصور، وهم الملوك والحكام، إن علماء البلاغة يمثلون لمجاز الحذف بقولهم:«بنى الأمير القصر» ، ثم يقولون: وإنما بناه عماله. ألم نقل «مصحف الملك فؤاد» لهذه الطبعة المحررة العالية من القرآن الكريم، وهي أصح طبعة للكتاب العزيز بشهادة مشايخ

ص: 307

الإقرار بمصر وغير مصر، من حيث الالتزام بالرسم العثماني، والضبط، وعلامات الوقف. وقد كتبه بخطه الشيخ محمد علي خلف الحسيني، ثم شاركه شرف ضبطه وتصحيحه: حفني ناصف ونصر العادلي ومصطفى عناني وأحمد الإسكندري. وطبع هذا المصحف الكريم بالمطبعة الأميرية عام 1337 هـ في عهد الملك فؤاد، فنسب إليه.

وتبقى قضية «تخليص التاريخ الإسلامي من الأخطاء والمبالغات» ، وهي أيضاً من القضايا التي يعالجها الناس بكثير من الخفة والسهولة والمتابعة.

ومما لا شك فيه أن لبعض مؤرخينا الأولين أوهاماً وأخطاء، في رصد الأحداث وتسجيلها وتحليلها، وهذه الأوهام والأخطاء مما ينبغي التنبه لها والتنبيه عليها. على أنه ينبغي أن يكون واضحاً أن علومنا كلها ومعارفنا كلها منقودة من داخلها، ومدلول على الخطأ والوهم فيها منذ اللحظة الأولى لتدوين العلوم والمعارف، فالنقد عندنا سار مع التأليف خطوة خطوة، وهذا المنهج المعروف عند علماء الحديث، من القبول والرد، والتعديل والتجريح، قد امتد أثره إلى سائر العلوم الأخرى، وإن باب النقد في تراثنا وعلومنا باب واسع جداً، وضخم جداً، وينبغي أن يكون واضحاً أيضاً أن هذه الأمة لم تغفل عن تراثها هذه الآماد الطوال حتى يجيء فلاسفة هذا الزمان لينقدوا ويجرحوا ويخطئوا، ونعم، ليس لأحد - بعد الأنبياء - عصمة، فانقد ما تشاء، وحلل ما تشاء، واستنتج ما تشاء، ولكن بعد أن تجمع للأمر عدته، وتأخذ له أخذه، من القراءة المستوعبة المتأنية، والنظر الصحيح، وترك المتابعة إلا بعد ثبوت الدليل، على ما قالت العرب في كلامها الحكيم:«ثبت نسباً واطلب ميراثاً» ، وعلى ما قال أبو الفتح ابن جني: «فكل من فرق له عن علة صحيحة وطريق نهجة كان خليل نفسه وأبا عمرو فكره

إلا أننا مع هذا الذي رأيناه وسوغنا مرتكبه لا نسمح له بالإقدام على مخالفة الجماعة التي قال طال بحثها وتقدم نظرها

إلا بعد أن يناهضه إتقاناً، ويثابته عرفاناً، ولا يخلد إلى سانح خاطره، ولا إلى نزوة من نزوات تفكره» الخصائص 1/ 190.

ص: 308

ويريد ابن جني أن يقول: إن من اهتدى إلى وجه من النقد صحيح، أشبه الخليل بن أحمد، وأبا عمرو بن العلاء، ولا ينبغي لأحد أن يخالف السابقين في آرائهم لشهوة الخلاف فقط، وأنه ليس من حقه أن يخالفهم إلا إذا وصل إلى مرتبتهم أو فاقها: علماً وبحثاً ونظراً، على ألا يسرع إلى الرأي بمجرد الخاطرة السانحة، والنزوة الفكرية الطارئة.

فهذا هو كلام أهل العلم، أما التخييل بالمنهج والتفكير العملي، للهجوم على تخطئة الأقدمين بالحق وبالباطل، فليس من العلم في شيء، ولا من العقل في شيء، وليس من الأدب أيضاً مع تاريخ الأمة أن يقول كاتب كبير معاصر، عن الإمام المفسر المحدث المؤرخ أبي جعفر محمد بن جرير الطبري:«المؤرخ الأبله» .

ولو سألت هذا الكاتب الكبير عن ترجمة الطبري: حياة وعلماً وتصنيفاً، ووفاة، لمن ظفرت بشيء، بل لو سألته عن عدد طبعات كتابه «تاريخ الأمم والملوك» ، والفرق بين هذه الطبعات لما أجابك بشيء. ويقرأ الناس هذا ويسكتون؛ لهوان الماضي عليهم، وخفة الموروث في موازينهم، وقل: سبحان ربي!

لو تعرض أحد لبعض كتابنا ومفكرينا المعاصرين، لاهتزت الأرض بمن عليها، ولسمعت دوياً هائلاً وجلبة صاخبة حول رموزنا العظيمة التي لا ينبغي أن تنال، وأعلام التنوير التي لا يصح أن تطال، أما الهجوم على الأوائل، والسخرية منهم، والتطاول عليهم، فلا نكرة فيه ولا غضب منه؛ لأن «حمزة لا بواكي له»:

أتغضب أن أذنا قتيبة حزتا

جهاراً ولم تغضب لقتل ابن خازم

والموعد لله.

* * *

ص: 309