الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومما أخذوه عليه أيضاً أنه يكثر من اختلاف القراءات لإثارة مكامن الطرب، وليس هو وحده الذي كان يفعل هذا، فقد كان يفعله أيضاً الشيخ محمد رفعت، والشيخ محمد الصيفي. والجمع بين الروايات في القراءة الواحدة مكروه عند بعضهم، لكنه جائز عند بعض آخر، وبخاصة في مقام التعليم. على أن الحق يقتضيني هنا أن أشير إلى أن الشيخ مصطفى قرأ مرة آية على وجه من القراءات لم أجده في القراءات العشر المجمع على تواترها والقراءة بها، وذلك في قوله تعالى في سورة يوسف - في أحد تسجيلاتها - «وقال نُسوة» بضم النون، وهي في القراءة المتواترة بالكسر، ولم يقرأ بالضم إلا المفضل والأعمش والسُّلَمي وهي قراءة شاذة.
تسجيلات نادرة:
ومما اتهموه به أيضاً أنه يقرأ سوراً بعينها. وهذا غير صحيح، بل إن عكسه هو الصحيح فالشيخ يقرأ من سور القرآن كله، وليس كبعضهم الذي يؤثر السور التي تقصر آياتها، وتتماثل فواصلها.
من خصائص صوت الشيخ مصطفى إسماعيل:
درج كثير من القرَّاء على أن يخفضوا أصواتهم إلى ما يسمى بطبقة القرار حين يأتون إلى آية من آيات الإنذار أو جهنم أو الموت، فإذا جاءوا إلى آية بشارة ونحوها رفعوا أصواتهم إلى ما يعرف بطبقة الجواب، كما تسمعهم في آخر سورة الزمر، حيث يخفضون أصواتهم في قوله تعالى:{وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا} [الزمر: 71]، فإذا جاءوا إلى قوله تعالى:{وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً} [الزمر: 73]، رفعوا أصواتهم عالياً.
ولم يؤثر عن الصحابة والتابعين في ذلك شيء إلا ما روي عن التابعي الجليل إبراهيم النخعي أنه قال: «ينبغي للقارئ إذا قرأ نحو قوله تعالى: {وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله} [التوبة: 30]، ونحو ذلك من الآيات أن يخفض بها صوته» ، قال ابن الجزري:«وهذا من أحسن آداب القراءة» ،
على أن الشيخ مصطفى يخالف قرَّاء زمانه في خفض الصوت عند آيات الإنذار وذكر الموت.
واستمع إليه في تسجيل نادر لسورة آل عمران في قوله تعالى: {كل نفسٍ ذائقة الموت} [آل عمران: 185]، فهو يرفع صوته عالياً في {ذائقة} ثم يقف على {الموت} بنفس الطبقة العالية في صراخ مُزلزل كأنه صراخ ثكالى فقدن عزيزاً أو تذكرن غائباً وتكاد التاد المهموسة حين يصرخ بها تنقلب إلى حرف مجهور يكاد يخرق صماخ الأذن، ثم تأمل أيضاً وقفه على قوله تعالى في سورة يوسف:{رأينه أكبرنه} [يوسف: 31]، كيف وقف على الهاء في {أكبرنه} وقفاً مضيئاً ساطعاً يجسد لك انبهار النسوة ودهشتهن لجمال يوسف عليه السلام.
ويبقى شيء، أرجو أن يأذن لي أستاذنا النجمي في مناقشته، وذلك ما ذكره في ص 24:«أن المسلمين في العهد النبوي وعهد الخلفاء الراشدين كانوا يقرأون القرآن بحسب لغاتهم المتعددة، وأفصحها سبع لغات» ، ثمَّ ذكر حديث:«إنَّ هذا القرآن نزل على سبعة أحرف» ولي على ذلك بعض الملاحظات:
أولًا: إنَّ سياق الكلام على هذا النحو قد يوحي إلى بعض من لا معرفة لهم بعلوم القرآن أن المسلمين كانوا يقرأون بهذه اللغات السبع باختيارهم ومن عند أنفسهم تبعاً لما ألفوه من أعرافهم اللغوية، ومعلوم أن القراءة أثر واتباع، لا رأي واجتهاد، وأن جبريل عليه السلام قد نزل بهذه اللغات كلها فأقرأها الرسول صلى الله عليه وسلم أمته.
ثانياً: أن صحَّة الرواية «أُنزِل على سبعة أحرف» بالبناء للمجهول، وليست «نزل» .
ثالثًا: أنَّ تفسير الأحرف السبعة الواردة في الحديث بأنها سبع لغات من لغات العرب، هو أحد التفسيرات، وهو مردود عليه. ويرى بعض المحققين أن أمثل ما جاء في بيان معنى الأحرف السبعة هو ما ذكره الحافظ ابن حجر العسقلاني، فقد قال في فتح الباري 9/ 23 (طبعة السلفية) «باب أنزل القرآن على سبعة أحرف: أي على
سبعة أوجه يجوز أن يقرأ بكل وجه منها، وليس المراد أن كل كلمة ولا جملة منه تقرأ على سبعة أوجه، بل المراد أن غاية ما انتهى إليه عدد القراءات في الكلمة الواحدة إلى سبعة».
رابعًا: إنَّ كتاب أستاذنا هذا يقع في أيدي الخاصة والعامة، فكنت أحب أن يشير هنا إشارة سريعة في الحواشي إلى أن الأحرف السبعة الواردة في الحديث ليست هي القراءات السبعة التي اختارها ابن مجاهد في أوائل القرن الرابع، وهي القراءات المنسوبة إلى: نافع وابن كثير وأبي عمرو وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي.
وبعد
…
فأرجو أن يأذن لنا الأستاذ النجمي في القول بأن هذا الكتاب لم يُشبع نهمتنا ولم يرو عُلَّتنا في الوقوف على عبقرية الشيخ مصطفى إسماعيل، ولهذا فسوف نعتبر هذا الكتاب عن الشيخ مصطفى الجزء الأول، وهو عن حياته كما جاء بحق في عنوانه «حياته في ظل القرآن» ، ويأتي الجزء الثاني إن شاء الله تحليلًا ودرساً لصوت هذا القارئ العظيم.
* * *