الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكتب المصرية تمثل من هذه المراحل مرحلة متميزة غاية التميز، هي بالقياس إلى ما سبقها من مراحل تمثل مرحلة النضج والكمال، من حيث استكمال الأسباب العلمية، واصطناع الوسائل الفنية المعينة على إخراج التراث إخراجاً دقيقاً، يقوم على جمع نسخ الكتاب المخطوطة، والمفاضلة بينها، ثم اتخاذ إحدى النسخ أُمّاً أو أصلاً، وإثبات فروق النسخ الأخرى، وما يتبع ذلك من إضاءة النص ببعض التعليقات والشروح، وصنع الفهارس التحليلية الكاشفة لكنوز الكتاب، وما يسبق ذلك كله من التقديم للكتاب وبيان مكانه في المكتبة العربية، وموضعه من كتب الفن الذي يعالجه، تأثراً وتأثيراً، ثم الترجمة لمؤلفه.
ولابد من الاعتراف بأن ذلك المنهج الذي أصَّلته مدرسة دار الكتب المصرية للمحققين العرب، قد تأثر إلى حد ما بمناهج المستشرقين الذين شغلوا بتراثنا، ونشطوا لإذاعته ونشره، منذ القرن الثامن عشر الميلادي أو قبله بقليل.
المكتبة الزكية:
وكان صاحب الفضل في مد الجسور بين مصر وأوروبا - فيما يتصل بنشر التراث - أحمد زكي باشا، الذي اتصل بعلماء الاستشراق، ومثّل مصر في مؤتمراتهم. وهذا أحمد زكي باشا رجل من رجال مصر الأفذاذ، كان من كبار الكتاب والخطباء، ولد بالإسكندرية عام 1867 م. وتخرج بمدرسة الحقوق بالقاهرة، وأتقن الفرنسية، وكان يفهم الإنجليزية والإيطالية، وقام بفكرة إحياء الكتب العربية، وأحكم صلته برجالات العرب في جميع أقطارهم. وكان شديد الحب للعربية، ولقب نفسه بشيخ العروبة، وسمَّى داره بيت العروبة، وجمع مكتبة في نحو عشرة آلاف كتاب، ووقفها، فنقلت بعد وفاته إلى دار الكتب وسميت فيها: المكتبة الزكية، توفي سنة 1934 م.
يقول عنه شيخي عبد السلام هارون رحمه الله: «ولعل أول نافخ في بوق إحياء التراث العربي، على المنهج الحديث في مصر، هو المغفور له أحمد زكي باشا، الذي قام بتحقيق كتاب «أنساب الخيل» لابن الكلبي، و «الأصنام» له أيضاً، وقد
طبعا في المطبعة الأميرية - مطبعة بولاق - سنة 1914 م باسم لجنة إحياء الآداب العربية التي عُرفت فيما بعد في دار الكتاب المصرية باسم القسم الأدبي، ولعل هذين الكتابين مع كتاب «التاج» للجاحظ الذي حققه أيضاً في السنة نفسها، من أوائل الكتب التي كتب في صدورها كلمة «بتحقيق» ، كما أن تلك الكتب قد حظيت بإخراجها على أحدث المناهج العلمية للتحقيق، مع استكمال المكملات الحديثة، من تقديم النص إلى القراء ومن إلحاق الفهارس التحليلية.
ويضاف إلى ذلك أنه أول من أشاع إدخال علامات الترقيم الحديثة في المطبوعات العربية، وألف في ذلك كتاباً، سمَّاه:«الترقيم في اللغة العربية» طبع في مطبعة بولاق، سنة 1903 م. ومما حققه شيخ العروبة أيضاً كتاب:«نَكْت الهِمْيان في نُكَت العميان» لصلاح الدين الصفدي. ونشره بمطبعة الجمالية سنة 1911 م، ثم قدمه إلى أعضاء المؤتمر الدولي الرابع لتحسين حالة العميان.
وعلى وقع خطوات أحمد زكي باشا، وبهدي من توجيهه وإرشاده، تكوَّن القسم الأدبي بدار الكتب المصرية، امتداداً للجنة إحياء الآداب العربية التي أسسها شيخ العروبة، وطبع تحت شعارها «أنساب الخيل» و «الأصنام» . وقد قام هذا القسم الأدبي بعبء ضخم حين نشر عيوناً مما تركه أهل العلم من آبائنا الأولين.
ولقد كان هذا القسم مدرسة كبرى في القدوة المثالية للمحققين المعاصرين، وكان يضم مشيخة جليلة من العلماء الكرام البررة، الذين أخلصوا لله فيما أسند إليهم، أذكر منهم: أحمد زكي العدوي، والشاعرين أحمد الزين وأحمد نسيم، وعبد الرحيم محمود، ومحمد عبد الجواد الأصمعي، ومحمد عبد رب الرسول، والعالم الجزائري الشيخ إبراهيم أطفيش. ومما يُستطرف ذكره هنا أن الشيخ محمد الخضر حسين، العالم التونسي الجليل قد عمل زماناً مصححاً بدار الكتب المصرية.
وهذا الشيخ الخضر حسين التونسي المولد والنشأة قد تولى مشيخة الأزهر، أول قيام الثورة المصرية. وهذا من أكبر الدلائل على أن مصر لا تعرف التعصب.