الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والحماسات، مع عناية ظاهرة باللغة والغريب، تمثلت في أمالي أبي علي القالي ومجالس أبي العباس ثعلب.
ولم تكن كتب هذا اللون من التأليف قاصرة على الأدباء واللغويين فقط، بل دخل فيها الحفاظ والفقهاء أيضاً، كالذي رأيناه من كتاب «بهجة المجالس وأنس المجالس وشحذ الذهن والهاجس» ، لفقيه الأندلس الحافظ المحدث أبي عمر بن عبد البر القرطبي، صاحب كتاب «التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد» ، وصاحب «الاستيعاب في طبقات الأصحاب» . وكتابه هذا «بهجة المجالس» من المجاميع الأدبية العظيمة، ويقول فيه ابن سعيد، بعدما ذكر مصنفاته في الفقه والحديث والتراجم:«مع أنه في الأدب فارس، وكفاك دليلًا على ذلك كتاب بهجة المجالس» . المعرب في حلى المغرب 2/ 408، وهذا ابن عبد البر الفقيه المحدث هو الذي جمع ديوان أبي العتاهية، وعن نسخته كانت نشرة الدكتور شكري فيصل رحمه الله.
وهكذا كان الأدب مشرعاً يرده الناس جميعاً، وغبرت أجيال ونشأت أجيال، حتى جاء ابن خلدون في القرن التاسع ليخبرنا أن كتب الأدب هي: أدب الكاتب لابن قتيبة، والكامل للمبرد، والبيان والتبيين للجاحظ، والأمالي - أو النوادر - لأبي علي القالي، ويريد ابن خلدون أن يقول: إن هذه الأصول هي مكونات الأديب.
البارودي والمرصفي:
وطويب أيام ونشرت أيام، حتى كان العصر الحديث، وجاء رجال البعث والإحياء، هؤلاء الذين ردوا الناس إلى أصولهم الأدبية، وكشفوا عن تلك المناجم الغنية الضاربة في التاريخ بعروقها، فكان الشاعر محمود سامي البارودي و «مختاراته» ، والشيخ حسين المرصفي و «الوسيلة الأدبية» ، والشيخ سيد بن علي المرصفي و «رغبة الآمل من شرح كتاب الكامل» ، وما قرأه على تلاميذه من «شرح حماسة أبي تمام» ، وبعدهما كان الشيخ حمزة فتح الله وكتابه الجيد «المواهب الفتحية» ، فكانت هذه الآثار كلها زاداً ومدداً للجيل التالي.
ولقد كان من حسن حظنا نحن أبناء هذا الجيل أننا فتحنا عيوننا وعقولنا في أوائل الخمسينات، ورأينا القاهرة قبل أن يدهمها السيل وتغشاها المحن والنوائب، وكان من صنع الله لنا أننا نعمنا بثمرات دار الكتب المصرية: قراءة في قاعة المطالعة الشهيرة بها، واستعارة باشتراك زهيد متاح لطلبة العلم. وأخذنا نتضلع بالقراءة لتلاميذ مدرسة البعث والإحياء المذكورة، وفيما يتصل بالبيان كان هناك اسمان كبيران: مصطفى صادق الرافعي، ومصطفى لطفي المنفلوطي، وقد شق علينا الرافعي في أول الأمر.
ووجدنا في المنفلوطي واحة خصبة عامرة بالندى والأزاهير، فأي جنة فتحها لنا هذا المنفلوطي في ذلك الزمان؟ وكم دموع أراقها، وكم قلوب خفقت على بيانه الحلو الآسر الذي انساب في «العبرات» و «الشاعر أوسيرانو دي برجراك» الضخم الذي لا ينسى أنه حبب إلينا القراءة جملة، فإن هذه الليالي التي قضيناها مع بيانه المعجب لم تضع سدى، لأنها وثقت صلاتنا بالأدب عامة وبالبيان خاصة.
ومن عجب أن المنفلوطي هو الذي ردنا إلى الرافعي، وعند هذا الرافعي وجدنا دنيا أخرى حافلة بالغرائب والعجائب، لكن صورة الرافعي لم تأخذ حجمها الحقيقي عندي إلا بعد أن اتصلت بتراث الآباء والأجداد فيما قرأت وفيما نسخت وفيما حققت، وأيضاً حين توثقت علاقتي بصاحبه ووارث أدبه وعلمه أبي فهر محمود محمد شاكر، فعرفت أن هذا من ذاك، وأنها ذرية بعضها من بعض، وإن كنت أرى أن بيان أبي فهر لا يشبهه بيان، وأن علمه لا يقرن به علم، على ما فصلت في كلمتي عن كتابه الماتع «المتنبي» في الجزء الأول من «موسوعة عصر التنوير» التي أصدرها الهلال، ولو كتب أبو فهر الآن - وهو في هذه السن العالية - لزلزل الدنيا، ولرأيت ثم نعيماً وعلماً كبيراً، فهل تستجيب يا أبا فهر؟ وهل أنت مخرج ما عندك من «حديث الأحرف السبعة» و «مداخل إعجاز القرآن» و «كتاب الشعر» ، شرح الله لك صدرك، وأمتع أهل الأدب ببقائك.
ولئن كانت مدرسة البيان قد عرفت يومئذ في كتابات الرافعي والمنفلوطي والزيات ومحمد صادق عنبر، فإن سائر الأدباء والكتاب لم يكونوا بعيدين عنها، لأن حسن البيان وتجويد العبارة كانا لازمين لكل كاتب يريد لكتابته أن تقرأ، ولكل مفكر يريد لأفكاره أن تذيع، فلقد كان الأدب ولا يزال خير سبيل لإيصال المعرفة، وسرعة انصبابها إلى السمع وتولجها في القلب واستيلائها على النفس، والبليغ يضع لسانه حيث أراد، وإنك لتجد كثيراً من الدراسات قد جمعت فأوعت لكنها لم تبلغ مبلغها من النفع والفائدة لجفافها وعسرها، و «حسن البيان يري الظلماء كالنور» على ما قال الشاعر.
ولقد كنا في زمان الصبا نظن أن أسلوب «العقاد» معقد، حتى كبرنا واستطعنا أن نميز الخبيث من الطيب، فوقعنا عند «العقاد» على مناطق من البيان وحلاوة الأداء هي الغاية والمنتهى.
وكذلك سائر الكتاب والأعلام ممن لا يصنفون مع الأدباء كانوا أصحاب فصاحة وبيان، فمكرم عبيد السياسي الشهير والمحامي الجهير كان أديباً وصاحب بيان، ثم كان كثير الاستشهاد بالقرآن الكريم، وفتحي رضوان المحامي الضليع وأحد أقطاب الحزب الوطني كان كاتباً صاحب بيان، والدكتور أحمد عمار طبيب النساء الشهير كان لغوياً صاحب بيان، والدكتور محمد كامل حسين طبيب العظام الشهير كان أديباً صاحب بيان، وهو صاحب القصة الشهيرة في الخمسينات «قرية ظالمة» ، والدكتور محمد الصياد الجغرافي الكبير كان شاعراً صاحب بيان، وسيد إبراهيم الخطاط العظيم كان شاعراً صاحب بيان، وهو أحد مؤسسي جماعة أبولو، والدكتور حسن حبشي عالم التاريخ شاعر وصاحب بيان، والدكتور محمد يوسف حسن الجيولوجي الكبير، وعميد كلية العلوم بجامع الأزهر سابقاً وعضو مجمع اللغة العربية الآن، أديب يحفظ شعر أبي العلاء حفظاً عالياً، وله في اللغة نظرات جياد نسعد بها في لجنة المعجم الكبير بالمجمع.
ومن وراء هؤلاء طوائف لا تحصى من الأدباء المجيدين الأغفال أصحاب