الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرسول صلى الله عليه وسلم يحرر سبايا هوازن
قلنا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عقب عودته من حصار الطائف انتظر حوالي شهر في الجعرانة، لم يقسم السبايا من هوازن على الجيش الإِسلامي، على أمل أن يتقدم وجوه هوازن وزعماؤها بطلب يلتمسون فيه تحرير نسائهم وأطفالهم، ولكن هوازن توانت في التقدم بمثل هذا الطلب إلى الرسول القائد صلى الله عليه وسلم وألح عامة الجيش الإِسلامي المنتصر على رسول الله صلى الله عليه وسلم طالبين منه تقسيم الغنائم بما في ذلك السبى فقسم الرسول صلى الله عليه وسلم على الجند لأن ذلك حق من حقوقهم كما تقضى بذلك قوانين الحرب في الإِسلام. فنساء العدو المحارب وأبناؤه. وأمواله يكونون ملكًا للجيش المنتصر، ومن السبى يتكوّن الرقيق.
وقد ذكرنا في كتابنا الرابع (غزوة بني قريظة) بالتفصيل موقف الإسلام من الرق، وأن هذا الدين قد جاء لتحرير البشرية فردم جميع منابع الرق المتعارف عليها في العالم آن ذاك، ولم يبق إلا على الرق الحربى كعملية عسكرية مقابلة. ومع ذلك فقد رغب الإِسلام ترغيبًا كبيرًا في تحرير هذا النوع من الرقيق الذي أقره (1)، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يحرص دائمًا على تحرير الرقيق بدليل أنه (كما سيأتي في هذا البحث) حرر ستة آلاف من سبى هوازن بعد أن شفع لأهاليهم عند جند الجيش الإسلامي.
وفد هوازن بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم
-
وكا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتوقع، فقد بعثت هوازن بوفد من كبار زعمائها لمقابلة الرسول صلى الله عليه وسلم ليقدم التماسا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يطلب فيه المنّ على السبى وتحريرهم.
ولكن وفد هوازن جاء بعد أن جرت قسمة السبى بين عامة الجيش، فكانت إعادتهم إلى أهاليهم وتحريرهم فيها شيء من الصعوبة والتعقيد. ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم تغلب على هذه الصعوبة واتخذ الإجراءات الكفيلة بإعادة السبى إلى ذويه من هوازن.
(1) انظر البحث الواسع المفصل في مواقف الإِسلام من الرق وتنفيذ شبه أعداء الإِسلام التي يثيرونها بسبب موقفه من الرق الحربى .. انظر ذلك في كتابنا (غزوة في قريظة) في الفصل بعنوان (الإِسلام والرق).
كان وفد هوازن إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مكوّنًا من أربعة عشر رجلًا. وكان رئيسهم، أبو صرد زهير بن صرد (1) وكان في الوفد عم الرسول صلى الله عليه وسلم وكان أحد المتكلمين. وكان وفد هوازن قد جاء مسلمًا كما جاء بإسلام من وراءه من هوازن.
استقبل الرسول صلى الله عليه وسلم في الوفد أكرمهم وأحسن استقبالهم، ثم تكلم رجال الوفد في المهمة التي من أجلها جاءوا، فأخبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قد تأنى في قسمة السبى وانتظرهم كثيرًا حتى ظن أنهم لن يأتوا، فأجرى السهمين على السبى وجرت قسمته بين عامة الجيش، غير أنه صلى الله عليه وسلم وعدهم بأنه سيسعى لتحرير السبى رغم أنه قد توزع وقسم على الجند كجزء من الغنائم. وفعلًا بذل الرسول صلى الله عليه وسلم مساعيه لدى عامة الجيش كي يحرر كل منهم ما في يده من سبى هوازن، ومن تمسك بحقه في السبى دفع له الرسول صلى الله عليه وسلم تعويضًا من بيت مال المسلمين حتى حرر جميع سبى هوازن وعددهم ستة آلاف رأس.
قال الواقدي: فقدم وفد هوازن، وكان في الوفد عمّ الرسول صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، قال يومئذ: يا رسول الله، إنما في هذه الحظائر من كان يكفلك من عمّاتك وخالاتك وحواضنك وقد حضنَّاك في حجورنا، وأرضعناك بثدينا، ولقد رأيتك مرضَعًا فما رأيت مرضَعًا خيرًا منك، ثم رأيتك شابًّا فما رأيت شابًّا خيرًا منك، وقد تكاملت فيك خلال الخير، ونحن مع ذلك أهلك وعشيرتك، فامنن علينا من الله عليك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد استأنيت بكم حتى ظننت أنكم لا تقدمون وقد قُسم السبى وجرت فيهم السهمان.
ويؤكد الواقدي إسلام الوفد وإسلام من خلفهم من هوازن وإنهم جاءوا بإسلام الجميع فيقول: وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة عشر رجلًا من هوازن مسلمين، وجاءوا بإسلام من وراءهم من قومهم، فكان رأس القوم والمتكلم أبو صرد زهير بن صرد، فقال: يا رسول الله، إنا أهلك وعشيرتك، وقد
(1) هو زهير بن صرد (بضم الصاد وفتح الراء) أبو صرد وقيل: أبو جرول، الجشمى: السعدي، من بني سعد بن بكر (فهو خال رسول الله صلى الله عليه وسلم سكن زهير المذكور الشام. ذكر ذلك ابن الأثير في أسد الغابة ثم ساق قصة خطبة زهير وغيره بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أصابنا من البلاء ما لا يخفى عليك. يا رسول الله، إنما في هذه الحظائر عمّاتك وخالاتك وحواضنك اللاتى كن يكفلنك، ولو ملحنا (1) للحارث بن أبي شمر وللنعمان بن المنذر، ثم نزلا منا بمثل الذي نزلت به، رجونا عطفهما وعائدتهما (2)، وأنت خير المكفولين. ويقال إنه قال يومئذ أبو صرد-: إنما في هذه الحظائر أخواتك وعمّاتك وبنات عمّاتك وخالاتك وبنات خالاتك، وأبعدهنّ قريب منك يا رسول الله، بأبي أنت وأمى، إنهن حضنّك في حجورهن، وأرضعنك بثديهن، وتوركنك على أوراكهن وأنت خير المكفولين ثم أنشد:
أمنن علينا رسولَ الله في كرم
…
فإنك المَرءُ نرجوه وندَّخِرُ
أمنن على نسوة قد عاقها قَدَر
…
مُمزّق شملها في دهرها غيَرُ
أمنن على نسوة قد كنت ترضَعُها
…
إذ فوك مملوءة من محضها الدرر (3)
اللائى إذا كنت طفلًا كنت ترضَعُها
…
وإذ يزينك ما تأتى وما تذرُ
ألا تداكها نعماه تنشرها
…
يا أرجح الناس حتى حين يختبرُ
لا تجعلنا كمن شامت نعامته (4)
…
واستبق منّا فإنّا معشرَ زهرُ
إنا لنشكر آلاء وإن قدمت
…
وعندنا بعد هذا اليوم مدّخرُ
قالوا: وبعد أن تكلم رجال وفد هوازن في أسراهم وطالبوا بتحريرهم والمن عليهم تكلم الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم فقال: إن أحسن الحديث أصدقه وعندى من ترون من المسلمين، فأبناءكم ونساؤكم أحب إليكم من أموالكم (5) قالوا: يا رسول الله خيَّرتنا بين أحسابنا وبين أموالنا، وما كنا نعدل بالأحساب شيئًا، فرّد إلينا أبناءنا ونساءنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما ما لي ولبني عبد
(1) قال في النهاية لابن الأثير: ملحنا، أرضعنا لهما.
(2)
العائد: الفضل، قاله أبو ذر في شرحه ص 411.
(3)
الدرر (بكسر الدال): الدفعات الكثيرة من اللبن قاله في السيرة الحلبية ج 3 ص 250.
(4)
شالت نعامتهم قال في القاموس المحيط: تفرقت كلمتهم أو ذهب عزمهم.
(5)
وفي السيرة الحلبية ج 2 ص 250 جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لوفد هوازن: قد وقعت المقاسم مواقعها، فأى الأمرين أحب إليكم، أطلب لكم السبى أم الأموال، وإنما قال صلى الله عليه وسلم لهم: قد وقعت المقاسم، أي لأنه لا يجوز للإِمام أن يمن على الأسرى بعد القسم، وإنما يمن عليهم قبله، كما وقع له صلى الله عليه وسلم في يهود خيبر ولا يخفى أن هذا في الرجال دون الذرارى.
المطلب فهو لكم، وأسأل لكم الناس، وإذا صليت الظهر بالناس فقولوا: إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين. وبالمسلمين إلى رسول الله، فإني سأقول لكم: ما كان لي ولبنى عبد المطلب فهو لكم، وسأطلب لكم إلى الناس، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بالناس قام الهوازنيون فتكلموا بالذي أمرهم به، فقالوا: إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول الله، فقال رسول الله أما ما كان لي ولبنى عبد المطلب فهو لكم، فقال المهاجرون: فما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالت الأنصار: ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وامتنع الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن وعباس بن مرداس والسلمى عن التصدق بتحرير ما في أيديهم من سبايا.
فقد قال الأقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا، وقال عيينة: أما أنا وفزارة فلا، وقال عباس بن مرداس: أما أنا وبنو سليم فلا.
إلا أن بني سليم خالفوا سيدهم عباس بن مرداس، وقالوا: أما ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عباس: وهنتمونى (أي أضعفتمونى).
وبعد الأخذ والرد وقف الرسول صلى الله عليه وسلم خطيبًا وأعلن أن جميع السبى من هوازن سيحرر وأن كلًّا من هذا السبى سيعود إلى أهله، وأعلن النبي صلى الله عليه وسلم أن من لم تطب نفسه بالتصدق بالعتق، فإن بيت مال المسلمين سيدفع له التعويض اللازم عما في يده من سبى لا يرغب في التصدق بعتقه.
فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم لقادة الجيش وزعماء القبائل المشتركين في معركة حنين: إن هؤلاء القوم (يعني هوازن) جاءوا مسلمين، وقد كنت استأنيت بهم فخيَّرتهم بين النساء والأبناء والأموال، فلم يعدلوا بالنساء والأبناء، فمن كان عنده منهن شيء فطابت نفسه فليرسل (أي يطلق) ومن أبي منكم تمسك بحقه فليرد عليهم، وليكن فرضًا علينا ست فرائض (أي ست من الإبل) من أول ما يفئ الله به علينا.
وقد حدد الرسول صلى الله عليه وسلم نوع التعويض للمتمسكين بحقهم في السبى فجعل
فداء الفرد من السبى (من بيت المال) ثلاث حقاق (1) وثلاث جذاع (2).
وقد قبل الممتنعون بالتعويض الذي حدده الرسول صلى الله عليه وسلم.
أما الأغلبية الساحقة من الجيش الإسلامي المنتصر في حنين وهم المهاجرون والأنصار وبنو سليم فقد تصدقوا بعتق ما في أيديهم من سبى.
أما المتمسكون بحقهم في السبى (وهم أقلية قليلة من الأعراب) فقد قبلوا بالتعويض الذي حدده الرسول صلى الله عليه وسلم: وقالوا رضينا وسلمنا. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: فمروا عرفاءكم أن يدفعوا ذلك إلينا حتى نعلم ففعلوا.
وهكذا حرر الرسول صلى الله عليه وسلم ستة آلاف من سبى هوازن في حنين فأعتقهم جميعًا ومنع أن يجرى عليهم الرق. وبهذه المناسبة روي أن معاذ بن جبل كان يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: لو كان ثابتًا على أحد من العرب ولاء أو رق لثبت اليوم، ولكن إنما هو إسار وفدية.
ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم لكى يستوثق أكثر من المهاجرين والأنصار (وهم الأغلبية الساحقة بين الجند الذين شاركوا في تحقيق النصر يوم حنين) بعث مندوبَين ليطوفا عليهم فيستوثق بأنهم راضون بعتق ما في أيديهم من سبايا هوازن.
فإلى المهاجرين بعث عمر بن الخطاب، وإلى الأنصار بعث زيد بن ثابت، فكان زيد بن ثابت يطوف على الأنصار يسألهم: هل سلموا ورضوا؟ فخبّروه أنهم سلموا ورضوا. ولم يتخلف رجل واحد، وبعث عمر بن الخطاب إلى المهاجرين يسألهم عن ذلك، فلم يتخلف رجل واحد، وكان أبو رهم الغفاري يطوف على قبائل العرب، ثم جمعوا العرفاء، واجتمع الأمناء الذين أرسلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتفقوا على قول واحد، تسليمهم ورضاهم ودفع ما كان في أيديهم من السبى (3).
(1) الحقاق (بكسر الحاء): جمع الحق والحق من الإِبل الداخلة في السنة الرابحة، القاموس المحيط ج 2 ص 221.
(2)
الجذاع: جمع الجذع، وهو من الإِبل ما دخل في السنة الخامسة.
(3)
طبقات ابن سعد الكبرى ج 2 ص 153 - 154 وتاريخ الطبري ج 3 - ص 86 - 87 وسيرة ابن هشام ج 4 ص 131 - 132 ومغازي الواقدي ج 3 ص 950 - 951 - 952 - =