الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلا أن دريدًا مع تقدمه في السن وعجزه (لكبره) عن القتال ظل متمتعًا بكامل قواه العقلية وكل حواسه (ما عدا السمع الذي كاد يفقده). وكان مرجعًا لقومه هوازن في السياسة العسكرية والفنون الحربية، بسبب تجاربه الحربية المتواصلة التي عاشها طوال مائة وعشرين عامًا في المجتمع القبلى الملتهب دائمًا بنار الحرب، فقد كان فارسًا مجربًا لا يشقّ له غبار، وشاعرًا مفكرًا فحلًا متوقد الذهن.
ومع عدم قدرته على القتال فقد أحب وأحب قومه أن يكون ضمن جيش هوازن الغازى، لعلهم يستفيدون من خبرته وتجاربه الحربيتين، فقد حمله الجيش على شجار (والشجار دون الهودج) وجعلوا له قائدًا يقود البعير الذي يحمله حتى عسكر الجيش بأوطاس.
القائد العام المستبد لم يستفد من خبرة دريد بن الصمة
ولم يشأ ملك هوازن وقائدها الشاب، مالك بن عوف النصرى أن يستفيد من خبرة دريد بن الصمة الحربية وتجاربه العسكرية التي اكتسبها طوال أكثر من قرن من الزمن قضاه وهو يخوض المعركة تلو المعركة حتى أقعده الكبر ..
فقد كان مالك بن عوف معتدا برأيه متكبرًا مستبدا، وكان شابًّا يافعًا في عنفوان الشباب، ورغم ما امتاز به من شجاعة وجرأة وإقدام، فقد سد الزهو والغرور والإعجاب بالنفس على مالك كل منافذ التفكير في نتائج ما هو مقدم عليه، وكأنه لغروره ولكونه يقود عشرين ألف محارب من خيرة محاربى العرب يصحبهم نساؤهم وأبناؤهم وأموالهم، ليس أمامهم سوى اثنى عشر ألف مقاتل ليس لهم خبرة بالقتال (كما أشاع بين قومه وخدعهم) .. كأنه بهذا قد ضمن النصر لهوازن على المسلمين.
ولهذا فإنه بعد أن توجته هوازن عليها ملكًا وأصبح قائدًا عامًا لجيشها استبد برأيه وسار يضع الخطة بمفرده ثم يسارع في تنفيذها بطريقة استبدادية، فلم يفكر في استشارة وجوه عشائر هوازن وسادتها المسنين الذين عركتهم الحوادث. سنين طويلة، بل أهملهم جميعًا، وصار يتخذ القرارات الانفرادية ثم يأمر بتنفيذها بصرامة فلا تعصى له هوازن أمرًا لأنها قد ارتضته ملكًا عليها وقائدًا
عامًا لجيشها .. اللهم إلا بني كعب وبنى كلاب الذين عصوه ورفضوا إطاعة أوامره منذ البداية .. فكان من نتيجة اتخاذه القرارات الفردية والإسراع في تنفيذها بصورة استبدادية أن قاد قومه إلى هزيمة مدمرة لم يمنَ بمثلها جيل من العرب.
وكان من بين الذين أهملهم (دريد بن الصمة) الذي رغم كبره الشديد الذي أقعده، كان ذا خبرة كبيرة وتجربة واسعة بشئون الحروب ومكائدها ووسائل النصر وأسباب الهزيمة فيها لطول ما خاضها عبر أكثر من قرن من الزمن.
دريد بن الصمة الخبير الحربى الكبير هذا أهمله مالك بن عوف، فحُمل على ظهر بعيره في الجيش وهو (لثقل سمعه) لا يدرى ماذا يصنع القائد العام مالك، كيف يعبئ الجيش ويتصرف في شئونه المصيرية الأخرى.
حتى إن (دريد بن الصمة) لم يعلم أن القائد مالكًا قد جعل الجند يحملون معهم نساءهم وأبناءهم وأموالهم إلا في وادي أوطاس الذي كان المكان الرئيسى والأخير للتجمع والذي فيه أكملت هوازن حشد قواتها من كل بطونها (ما عدا كعب وكلاب).
ففي هذا الوادي الذي عسكر فيه مالك بن عوف بهوازن عدة أيام سمع دريد بن الصمة (رغم ثقل سمعه) الضجة الشديدة التي مبعثها رغاء الإبل وأصوات الحمير والشياه، وأصوات النساء والأطفال، وهو أمر لم يتوقع دريد (كخبير عسكرى مجرب) أن يكون ضمن جيش عرمرم يتحرك ليخوض معركة حياة أو موت.
لذلك عندما سمع تلك الضجة الهائلة في وادي أوطاس، قال -بلغة الاستغراب-:"ما لي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وثغاء الشاء، وخوار البقر، وبكاء الصغير؟ ".
وكان الخبير المجرّب (دريد بن الصمة) عندما حط به الشجار على الأرض تحسسها بيده وقال: بأي واد أنتم؟ .
قالوا: بأوطاس.