الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العرب الأخرى، التي تعيش كلها في أنظمة تحكمها الفوضى ولا شيء غير الفوضى.
دستور غير مكتوب
وقد كانت قريش تعيش هذه الحالة الفريدة المميزة لها على سائر العرب من حيث الموحدة والتماسك والتناسق، بموجب قواعد قديمة موغلة في القدم، اتفقت عليها العشائر القرشية منذ عهد قصى بن كلاب موحد كلمتها، وواضع أسس وحدتها.
وقد كانت القواعد التي تحكم المجتمع القرشي، المتحد في ظلها (عبر القرون) أشبه بالدستور الدائم المقدس (عندهم) غير المكتوب، وبهذا تكون قريش قد سبقت بريطانيا إلى اتخاذ دستور غير مكتوب تحترمه ولا تخرج على حدوده بأكثر من عشرين قرنًا.
فقد كانت جميع العرب في الجاهلية، لا توجد بينها أية مجموعة من عشائر أية قبيلة، استطاعت الوصول إلى ما وصلت إليه قريش من وحدة وتماسك واتحاد فيما يشبه الدولة ذات الكيان الواحد المماسك المترابط رغم الجو العشائرى الذي هو طابع حياتها.
أول برلمان عربي
فقد كانت قريش هي القبيلة الوحيدة من بين جميع القبائل الوثنية العربية التي لها (برلمان ومجلس شورى) له نوابه من نحتلف العشائر، يتشاور فيه هؤلاء النواب في الأمور الهامة التي تحتاج إلى بحث ودرس وتشاور، ويتخذون فيه القرارات الملزمة وهو (دار الندوة) التي أول من أسسها (فيما أذكر) قصى بن كلاب الجد الرابع للنبي صلى الله عليه وسلم.
لذلك لم يكن طابع المجتمع القرشي الفوضى العشائرية، كما هي الحال عند سائر العرب، بل كانت قريش، بواسطة برلمانها (دار الندوة) تضبط أمورها في محيطها الوثنى، وتسيطر على النظام في المجتمع المكي سيطرة تامة، ويحل زعماؤها الأزمات الداخلية كلما نشبت بين بعض الجهات القرشية، أو بين بعض القرشيين وغيرهم.
فلا يسمحون بأن تتطور أية منازعات (مهما اشتدت) إلى حد الاقتتال كما هي الحال الشائعة في محيط مختلف القبائل العربية الوثنية الأخرى التي قد تنشب بينهم حرب ضروس من أجل ناقة أو حصان كما حدث في حربى داحس والغبراء بين عبس وذبيان، وحرب البسوس بين بكر وتغلب.
ولا أدل على هذه الحقيقة الحضارية (إن صحت هذه التسمية) التي تمتاز بها قريش من أنها لَمَّا اشتد الخلاث بين عشائرها حول أية عشيرة يحق لها أن ترفع الحجر الأسود إلى موضعه عند بناء الكعبة في الجاهلية، وبلغ شدة الخلاف إلى أن أصبحت على حافة حرب أهلية مدمرة، تراجع العقلاء من زعمائها المتخاصمين على حل حكيم يدل على رجاحة عقل وتمدن بعيد المدى، وهو أن يكون أول داخل من باب بني شيبة من أبناء قريش حكمًا في النزاع الخطير حول الحجر الأسود. فكان أول داخل محمد بن عبد الله الهاشمي قبل أن يتلقى الوحى من السماء، ففرح زعماء قريش واطمأنت نفوسهم لأن الحكم بينهم سيكون رجلًا تجمع قريش كلها على حبه واحترامه حتى أنها تسميه بالأمين، فحل النبي محمد صلى الله عليه وسلم الخلاف وقضى على النزاع الخطير بتصرف دل على رجاحة عقل وبعد نظر لا مثيل لهما، حيث طلب إحضار ثوب وأمر بوضع الحجر الأسود فيه، ثم طلب رجلًا من كل قبيلة ليمسك بجانب من الثوب فيرفع الجميع الحجر الأسود إلى موضعه في الكعبة، وبهذا تكون قريش كلها قد اشتركت في رفع الحجر الأسود، وبهذا التصرف الحكيم اختفى شبح الحرب الأهلية التي كانت تهدد قريشًا بالفناء.
وقد حمدت قريش لمحمد صلى الله عليه وسلم الذي كانوا يسمونه - قبل أن يدعوهم إلى التوحيد - بالأمين. حمدت له تصرفه الحكيم الذي أبعدها عن حافة حرب أهلية مدمرة كادت أن تقع فيها، وزادت منزلته سموًا حتى بعثه الله تعالى رسولًا فناصبوه العداء وحاربوه. وراموا قتله كما هو معلوم.
كما أنه لا أدل على تماسك المجتمع القرشي وتقدمهم على بقية الوثنيين العرب في مضمار التمدن من حلف الفضول الذي أقاموه والذي بموجب بنوده تعهد سادات قريش بأن لا يوجد مظلوم في مكة إلا أنصفوه من ظالمه كائنًا من
كان. هذا الحلف الذي أعجب به الرسول صلى الله عليه وسلم وقال - بعد أن بعثه الله رسولًا - لو دعيت إلى مثله اليوم لأجبت أو كما قال (1).
من هنا ليس بغريب أن ينظر صائر العرب الوثنيين إلى قريش، وكأنها أهم قوة قادرة على الصمود (باسم الوثنية) في وجه دعوة التوحيد والتصدى للقوة العسكرية الإسلامية التي تدعمه، وأنها بتماسكها (أي قريش) وحسن تنطيمها وشدة انضباطها العسكري تستطيع - لا محالة - صد الغزو الذي تعرضت له عقب نقضها صلح الحديبية الذي كان قائمًا بينها وبين المسلمين الذين كانوا حتى يوم ذلك الصلح تنظر إليهم قريش لا كما تنظر إلى أمة ذات كيان، وإنما كعصابات من عصابات قطاع الطرق، رغم أن واقعهم من حيث السلوك والمعتقد يدل على أنهم كما وصفهم الله تعالى {خَيرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} .
وحتى اليوم الذي أطبقت فيه من هؤلاء المسلمين عشرة آلاف مقاتل على العاصمة المقدسة (مكة) كانت النظرة الخاطئة تلك إلى المسلمين لا تزال هي السائدة بين سادات مكة .. عبَّر عن هذه النظرة الخاطئة سيد قريش وقائد جيشها أبو سفيان بن حرب، حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يفاوضه في معسكره على مشارف مكة قبل دخولها:"يا محمد جئت بأوباش الناس من يُعرف ومن لا يُعرف إلى عشيرتك وأصلك"(2).
ولهذا كان فزع العرب الوثنيين شديدًا عندما استسلمت قريش لقوات الجيش النبوي المسلحة، ودخلت عقب ذلك مكة ضمن دائرة نفوذ الحكم الإسلامي.
فقد اعتبر من تبقى على الوثنية من العرب - وأكثرهم مِنْ أهل الحجاز وأطراف نجد الغربية - اعتبروا سيطرة المسلمين على مكة وانتهاء كيان قريش الوثنى والسياسى والعسكري من أخطر الأحداث وأهمها على الإطلاق في جزيرة العرب.
(1) انظر تفاصيل حلف الفضول في موضعه من سيرة ابن هشام.
(2)
مغازي الواقدي ج 2 ص 816.