الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حنين ضد المسلمين، فقد طاردهم الجيش الإسلامي بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى ألجأهم إلى حصنهم المنيع بالطائف، وعندما وجدهم متحصنين وراء الأسوار في الطائف، ضرب عليهم الحصار، على أمل أن يستسلموا، أو أن يتمكن المسلمون من اقتحام حصون الطائف، ولكن الثقفيين صمدوا وقاوموا المسلمين أشد المقاومة.
ولما أدرك الرسول صلى الله عليه وسلم أن لا فائدة من فرض الحصار على ثقيف فك عنها الحصار، ورجع إلى مكة ثم إلى المدينة. على أمل أن يأتي الله بثقيف فتدخل في الإسلام طائعة، وقد تقدم أن بعض الصحابة قال للرسول صلى الله عليه وسلم وهو يفك الحصار عن الطائف - ادع الله على ثقيف، فأبى وفعل العكس حيث دعا الله تعالى أن يأتي بها.
ثقيف تقتل سيدها بعد إسلامه
وقد ظلت ثقيف على كفرها متشبثة بوثنيتها، وكان مالك بن عوف النصرى الذي قاد معركة حنين الفاصلة ضد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كان مالك -بعد أن هداه الله تعالى للإسلام- يتولى القيام بالغارات المسلحة على ثقيف، باعتباره أحد قادة المجتمع الإسلامي، غير أن غارات مالك بن عوف -رغم عنفها- لم تؤثر كثيرًا على موقف ثقيف المعادى للإسلام، لأن ثقيفًا كانت قوة كبيرة تتألف من عدة عشائر متماسكة.
غير أن موقف ثقيف أخذ يتغير نحو الإسلام عندما عاد سيد ثقيف عروة بن مسعود من جرش حيث كان قد ذهب إلى هناك لشراء معدات حربية ثقيلة وللتدرب على صنعها واستخدامها وتركيبها.
كان عروة بن مسعود من أعظم سادات ثقيف ومن أرجحهم عقلًا، وكان المفروض أن يكون قائد ثقيف يوم أن خاضت هوازن حربها الخاسرة ضد المسلمين في حنين.
ولكن عروة كان متغيبًا عن ديار قومه عندما نشبت هذه المعركة، لأن هوازن بعثوه مندوبًا على رأس وفد من ساداتهم إلى جرش (1). لشراء أسلحة
(1) ذكر ياقوت في معجمه أن جرش اسم لموضعين فقال: جرش (بضم أوله وفتح ثانيه) مخلاف =
ثقيلة (مثل المنجنيق والعرّادات والدبابات).
وكان عروة بن مسعود ووفده العسكري قد ذهبوا إلى جرش، قبل أن يتحرك النبي صلى الله عليه وسلم بجيوشه لفتح مكة، أي قبل معركة حنين التي خسرتها هوازن بحوالى شهرين اثنين.
وقد مكث عروة بن مسعود وبعثته الحربية في جرش حوالي ثلاثة أشهر، تدربت البعثة أثناءها على صنع استخدام الأسلحة الثقيلة، ولذلك فإن سيد ثقيف عروة بن مسعود، لم يعد بهذه الأسلحة الثقيلة من جرش إلى الطائف إلا بعد أن انتهت معركة حنين وفك الرسول صلى الله عليه وسلم الحصار عن الطائف.
كان عروة بن مسعود راجح العقل حليمًا حكيمًا نافذ البصيرة، فعندما عاد من جرش جال بعينى بصيرته فيما دار ويدور في جزيرة العرب من صراع بين الإسلام والوثنية، فأدرك أن ظل الشرك والوثنية آخذ في التقلص بسرعة كبيرة، وخاصة بعد هزيمة قومه هوازن في معركة حنين التاريخية: وهوازن كانت أقوى قوة وثنية ضاربة يمكنها أن تجابه المسلمين في جزيرة العرب، بدليل أن محاربيها الذين خاضوا معركة حنين كانوا عشرين ألفًا، وهو عدد لم يسبق لجبهة وثنية (في الصراع الدائر بين الإِسلام والوثنية) أن حشدت مثلة لمحاربة الرسول صلى الله عليه وسلم في جزيرة العرب كلها.
من هنا وبإلهام من الله تعالى أدرك عروة بن مسعود أن الإسلام غالب لا محالة، وأنه لم يبق سوى وقت قصير حتى تصبح الجزيرة العربية كلها قد شملها الإسلام ولفَّها تحت جناحيه. لذلك أضمر سيد ثقيف أن يعتنق الإسلام طائعا مختارًا.
= من مخاليف اليمن، ولم يذكر أن بها تصنع المنجنيقات والدبابات. ثم قال: وجرش. (بفتح أوله وثانيه) اسم مدينة عظيمة كانت (وهي الآن خراب) حدثني من شاهدها وذكر لي أنها خراب، وبها آبار عادية تدل على عظم، قال: وفي وسطها نهر جار يدير عدة رحى عامرة إلى هذه الغاية، وهي في شرقي جبل السواد من أرض البلقاء وحوران من عمل دمشق اهـ. قلت: خرائب جرش وآثارها الرومانية لا تزال قائمة في المملكة الأردنية الهاشمية، وآثارها تدل على أن بها كانت مدنية زاهرة، ومن المحتمل جدًّا أن يكون عروة بن مسعود وبعثته قد ذهبوا إليها لشراء الأسلحة الثقيلة منها.
كان وصول عروة بن مسعود في أواخر السنة الثامنة الهجرية، فقام بتركيب الأسلحة الثقيلة التي جلبها لقومه من جرش في الأردن، وقد فعل ذلك أداءًا للأمانة التي ائتمنه قومه عليها حين بعثوه إلى الأردن لشراء هذه الأسلحة وتسليمه إياها لقومه المشركين، لم يُغَير من عزمه عن اعتناق الإِسلام، بعد أن قذف الله نور هذا الدين في قلبه.
لذلك (ودون أن يستشير أحدًا) غادر الطائف قاصدًا المدينة ليعلن بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم إسلامه.
وعندما وصل عروة المدينة استقبله الرسول صلى الله عليه وسلم بالترحاب، وكان يعرفه (مسبقًا) لأنه قد اجتمع به عندما جاء وسيطًا لقريش يوم الحديبية عندما كانت أزمة الحديبية بين النبي صلى الله عليه وسلم وعشيرته على أشدها (1) وكان عروة بن مسعود رغم كونه حليفًا لقريش قد حذّرها من مغبة عنادها حين منعت المسلمين من دخول مكة وقد جاءوا معتمرين لا محاربين، وقد توقع أن كارثة ستنزل بقريش نتيجة بغيها يوم ذاك وتصلفها. ثم فارقها ورجع إلى بلاده الطائف. وقد اعتبر العقلاء تصرف عروة بن مسعود هذا دليلًا على رجاحة عقله وبعد نظره.
وعندما أسلم عروة بن مسعود وشهد شهادة الحق، قرر أن يعود إلى الطائف فيدعو قومه ثقيفًا إلى الإِسلام، وطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأذن له بذلك، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم حذَّره بأن قوفه سيقتلونه، فقد قال عروة: يا رسول الله إيذن لي فآتي قومي فأدعوهم إلى الإِسلام، فوالله ما رأيت مثل هذا الدين ذهب عنه ذاهب، فأقدم بخير قادم، وما قدم وافد (قط) على قومه إلا من قدم بمثل ما قدمت به، وقد سبقت يا رسول الله في مواطن كثيرة.
وكان عروة بن مسعود سيدًا مطاعًا محبوبًا بالفعل في قومه لشرف نفسه ودماثة أخلاقه وكرمه، وكان يتوقع أنهم جميعًا سيجيبونه إلى الإِسلام حينما يدعوهم إليه.
(1) انظر تفاصيل مقابلة الرسول صلى الله عليه وسلم لعروة بن مسعود بالحديبية في كتابنا - (صلح الحديبية).
غير أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد اختبر نفسيات أولئك المشركين الثقفيين العتاة الغلاظ القلوب مرتين .. مرة عندما لجأ إليهم أيام اشتداد محنته في مكة بعد وفاة عمه أبي طالب، فأساءت إليه ثقيف بدلًا من أن تستضيفه وتكرمه وتخفف من آلامه، بل وأغرت به السفهاء والعبيد حتى طاردوه في شوارع الطائف ورجموه بالحجارة، الأمر الذي اضطره إلى أن يترك الطائف ليعود إلى مكة حيث الكرب واشتداد المحنة .. ومرة حينما حاصرهم بعد أن تراجعت جيوشهم منهزمة من حنين فقاوموه أشد المقاومة وأبدوا من العداوة الشيء الكثير.
ولذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما استأذنه السيد عروة بن مسعود ليذهب إلى قومه ثقيف يدعوهم إلى الإِسلام قال له الرسول صلى الله عليه وسلم عندما أصر على الذهاب إليهم-: أنهم إذن قاتلوك، قالها ثلاثًا، ولكن عروة كرر الاستئذان في الذهاب إليهم (مبديًا ثقته بحب قومه له) قائلًا: يا رسول الله لأنا أحب إليهم من أبكار أولادهم، يا رسول الله لو وجدونى نائمًا ما أيقظوني، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم (عندئذ): إن شئت فخرج إلى الطائف، وكان الأمر كما حذره رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قتله قومه أولئك الأشرار وهو يدعوهم إلى الإِسلام.
فلم تمض خمسة أيام حتى وصل عروة الطائف، وعندما وصل سيد ثقيف بلده أنكرت ثقيف عليه أمرًا كانوا يعرفونه منه ومن كل قادم من سفر إلى الطائف (ولم يكونوا قد علموا بإسلامه) وهذا الأمر هو أن يبدأ القادم إلى الطائف من سفر بتقديم فروض العبادة والتقديس لصنمهم الأكبر (اللات) .. ففي هذه المرة تجاهل عروة هذا الصنم لأنه كمسلم موحد -لم يعد مكان في نفسه لهذا الصنم، فقد ذهب من فوره إلى منزله، وبعد أن توافد إليه أعيان قومه لاستطلاع حقيقة أمره، حيوه بتحية الشرك، فأنكرها عليهم، ثم دعاهم إلى الإسلام، وهنا كانت نهايته القتل حيث استشهد وهو يؤذن للصلاة في منزله.
وقد كاد يؤدى قتل عروة بن مسعود إلى حرب أهلية طاحنة بين عشائر ثقيف، فقد تحزبت عشائر عروة واستعدوا للقتال كي يأخذوا بثأره، لولا أنه قبل أن يفارق الحياة تصدق بدمه على قاتله حقنًا للدماء وإطفاء لنيران الحرب
الأهلية، فطاب عروة حيًّا وميتًا.
ولنترك الإِمام الواقدي وأشهر من ألفَّ في مغازى رسول صلى الله عليه وسلم يحدثنا حديث إسلام عروة بن مسعود. قال الواقدي: كان عروة بن مسعود حين حاصر النبي صلى الله عليه وسلم أهل الطائف بجرش، يتعلّم عمل الدبابات والمنجنيق، ثم رجع إلى الطائف، بعد أن ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعمل الدبابات والعرّادات وأعد ذلك حتى قذف الله عز وجل في قلبه الإِسلام، فقدم المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم، ثم قال: يا رسول الله إيذن لي فآتى قومى فأدعوهم إلى الإِسلام، فوالله ما رأيت مثل هذا الدين ذهب عنه ذاهب، فأقدم على أصحابي وقومى بخير قادم، وما قدم وافد قط على قومه إلا من قدم بمثل ما قدمت به وقد سبقت يا رسول الله في مواطن كثيرة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنهم إذن قاتلوك، قال رسول الله، لأنا أحب إليهم من أبكار أولادهم، ثم استأذنه الثانية فأعاد عليه الكلام الأول، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنهم إذن قاتلوك، قال: يا رسول الله، لو وجدونى نائمًا ما أيقظوني، واستأذنه الثالثة، فقال: إن شئت فاخرج، فخرج إلى الطائف، فسار إليها خمسًا، فقدم على قومه عشاء فدخل منزله، فأنكر قومه دخوله منزله قبل أن يأتي الرّبة (1)، ثم قالوا: السفر قد حصره (2) فجاءوا منزله فحيّوه تحية الشرك، فكان أول ما أنكر عليهم تحية الشرك، فقال: عليكم تحية أهل الجنة. ثم دعاهم إلى الإسلام، وقال يا قوم: أتتهموننى؟ ألستم تعلمون أننى أوسطكم نسبًا، أكثركم مالًا، وأعزكم نفرًا؟ فما حملني على الإِسلام إلا أنى رأيت أمرًا لا يذهب عنه ذاهب، فاقبلوا نصحى، ولا تستعصونى، فوالله ما قدم وافد على قوم بأفضل مما قدمت به عليكم، فأتَّهموه واستغشُّوه، وقالوا: قد واللات وقع في أنفسنا حيث لم تقرب الرّبة ولم تحْلق رأسك عندها إنك قد صبوت فآذوه ونالوا منه، وحلم عليهم، فخرجوا من عنده يأتمرون كيف يصنعون به، حتى إذا طلع الفجر أوفى على غرفة له فأذن بالصلاة، فرماه رجل من رهطه من الأحلاف يقال له: وهب بن جابر -ويقال رماه
(1) يعني: اللات.
(2)
قال في النهاية: حصره: أي منعه عن مقصده.