الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اللات، فلم تقدر أن تناله ثقيف بأي أذى، ولهذا السبب طلب أبو سفيان من المغيرة بن شعبة أن يكون هو البادئ بهدم صنم قومه، لأن أبا سفيان يعلم أن عشيرة المغيرة سيحمونه بالسلاح (1).
حديث الواقدي المطوّل عن ثقيف وصنمها اللات:
ويحدثنا الإِمام الواقدي (بإسهاب) عن تدنِّي مستوى العقول التي كانت تعكف على تقديس اللات والعزّى، وعن المضاعفات والمتاعب التي لقيها الوفد الثقفى في سبيل إقناع ثقيف بالتخلى عن عبادة اللات وبقية الأصنام، وقد سلك الوفد مختلف السبل ولجأ إلى شتى الحيل حتى تمكن من إقناع ثقيف بأن أسلم وسيلة لهم هي الدخول في الإِسلام ففعلوا.
قال الواقدي -يصف قدوم الوفد علي قومهم ثقيف وما قابلوهم به: (ثم خرج الوفد عامدين إلى الطائف)، فلما دنوا من ثقيف قال عبد ياليل: أنا أعلم الناس بثقيف فاكتموها القضية -أي الاتفاقية التي تمت بين الوفد وبين الرسول صلى الله عليه وسلم وخوّفوهم بالحرب والقتال وأخبروهم أن محمدًا سألنا أمورًا عظّمناها فأبيناها عليه، ويسألنا تحريم الزنا والخمر، وأن نبطل أموالنا في لربا، وأن نهدم الرَّبة.
وخرجت ثقيف حين دنا الوفد، فَلَمَّا رآهم الوفد ساروا العنق (2) وقطروا الإبل، وتغشّوا بثيابهم كهيئة القوم قد حزنوا وكربوا، فقال بعضهم: ما جاء وفدكم بخير، ودخل الوفد، فكان أول ما بدأوا به على اللات، فقال القوم حين نزول الوفد إليها، وكانوا كذلك يفعلون، فدخل القوم وهم مسلمون فنظر فيما خرجوا يدرأون به عن أنفسهم، وقالت ثقيف: كأنهم لم يكن لهم بها عهد ولا برؤيتها، ثم رجع كل واحد إلى أهلة، وأتي رجالًا منهم جماعة من ثقيف فسألوهم: ماذا رجعتم به؟ وقد كان الوفد قد استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم أن ينالوا منه فرخّص لهم، فقالوا: جئناكم من عند رجل فظ غليظ، يأخذ من أمره ما شاء، قد ظهر بالسيف، وأداخ
(1) انظر مغازي الواقدي ج 3 ص 971.
(2)
قال في لسان العرب: العتق (بفتح أوله وثانيه) من السير المنبسط.
العرب (1) ودان له الناس، ورعبت منه بنو الأصفر في حصونهم، والناس فيه إما راغب في دينه وأما خائف من السيف، فعرض علينا أمورًا شديدة أعظمناها فتركناها عليه، حرّم علينا الزنا، والخمر والربا، وأن نهدم الرّبة. فقالت ثقيف: لا نفعل هذا أبدًا. فقال الوفد: لعمرى قد كرهنا ذلك وأعظمناه، ورأينا أنه لم ينصفنا، فأصلحوا سلاحكم، ورمَّوا حصنكم، وانصبوا العرّادات عليه والمنجنيق، وأدخلوا طعام سنة أو سنتين في حصنكم، لا يحاصركم أكثر من سنتين، واحفروا خندقًا من وراء حصنكم، وعاجلوا ذلك فإن أمره قد ظل لا نأمنه، فمكثوا بذلك يومًا أو يومين، يريدون القتال، ثم أدخل الله تبارك وتعالى في قلوبهم الرعب فقالوا: ما لنا به طاقة، وقد أداخ العرب كلها، فارجعوا إليه فأعطوه ما سأل وصالحوه، واكتبوا بينكم كتابًا قبل أن يسير إلينا ويبعث الجيوش.
فلما رأى الوفد أن قد سلموا بالقضية، ورعبوا من النبي صلى الله عليه وسلم، ورغبوا في الإسلام، واختاروا الأمن على الخوف، قال الوفد: فإنا قد قاضيناه، وأعطانا ما أحببناه، وشرط لنا ما أردنا، ووجدناه أتقى الناس، وأبرّ الناس، وأوصل الناس، وأوفى الناس، وأصدق الناس، وأرحم الناس، وقد تركنا من هدم الربة وأبينا أن نهدمها، وقال:(أبعث من يهدمها)، وهو يبعث من يهدمها. قال: يقول شيخ من ثقيف قد بقى في قلبه شيء من الشرك بعد بقية: فذاك والله مصداق ما بيننا وبينه، إن قدر على هدمها فهو محق ونحن مبطلون، وإن امتنعت ففي النفس من هذا بعد شيء، فقال عثمان بن العاص: منَّتك نفسك الباطل وغرَّتك الغرور، ومات الرَّبة؟ وما تدرى الرَّبة من عبدها ومن لم يعبدها؟ كما كانت العزَّى، ما تدرى من عبدها ومن لم يعبدها، جاءها خالد بن الوليد وحده فهدمها، وكذلك إساف (2) ونائلة وهبل (3)، ومناة
(1) أداخهم أي أذلهم.
(2)
قال الكلبى في كتابه (الأصنام): وكان لهم إساف ونائلة، لما مسخا حجرين وضحا عند الكعبة ليتعظ الناس بهما، فلما طال مكثهما وعبدت الأصنام، عبد معها. وكان أحدهما بلصق الكعبة، والآخر في موضع زمزم، فنقلت قريش الذي كان بلصق الكعبة إلى الآخز، فكانوا ينحرون ويذبحون عندهما.
(3)
هبل (بضم الهاء وفتح الباء) هو (كما جاء في كتاب الأصنام) أعظم أصنام قريش، قال=
خرج إليها رجل واحد فهدمها، وسواع (1)، خرج إليه رجل واحد فهدمه، فهل امتنع شيء منهم؟ قال الثقفى: إنَّ الربة لا تشبه شيئًا مما ذكرت، قال عثمان: سترى.
ثم يستمر الإِمام الواقدي فيقول: وأقام أبو سفيان والمغيرة بن شعبة يومين أو ثلاثة، ثم خرجوا وقد تحكم أبو مليح بن عروة، وقارب بن الأسود، وهما يريدان يسيران مع أبي يسفيان والمغيرة إلى هدم الربة، فقال أبو مليح يا رسول
= الكلبى: وكان فيما بلغني من عقيق أحمر على سورة الإنسان، مكسور اليد اليمنى، أدركته قريش كذلك فجعلوا له يدًا من ذهب، كان أول من نصبه خزيمة بن مدركة، وكان يقال له: هبل خزيمة .. وكان في جوف الكعبة، قدامه سبعة أقداح، مكتوب في أولها: صريح والآخر: ملصق، فإذا شكوا في مولود، أهدوا له هدية، ثم ضربوا بالقداح، فإن خرج: صريح ألحقوه وإن خرج ملصق، دفعوه .. وقدح على الميت .. وقدح على النكاح، وثلاثة لم تفسر لي على ما كانت، فإذا اختصموا في أمر أو أرادوا سفرا أو عملًا، أتوه فاستقسموا بالقداح عنده. فما خرج، عملوا به وانتهوا إليه، وعنده ضرب عبد المطلب بالقداح على ابنه عبد الله (والد النبي صلى الله عليه وسلم)، وهو الذي قال أبو سفيان بن حرب حين ظفر يوم أحد: أعل هبل .. أي علا دينك .. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أعلى وأجل.
(1)
ودا (بفتح الواو) أحد أصنام خمسة مشهورة عند العرب ومنذ فجر التاريخ، وهن (ود، وسواع، ويغوث. ونسر ويعوق) وقد كانت هذه الأصنام الخمسة معبودات قوم نوح كما جاء في القرآن الكريم {قَال نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إلا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إلا ضَلَالًا} .. قال أبو المنذر هشام بن محمد الكلبى في كتابه (الأصنام): وكان أول من اتخذ ذلك لك الأصنام (من ولد إسماعيل وغيرهم من الناس، وسموها بأسمائها على ما بقى ففهم من ذكرها حين فارقوا دين إسماعيل) هذيل بن مدركة.
اتخذوا سواعًا، فكان لهم برهام من أرض ينبع، وينبع عرض من أعراض المدينة، وكانت سدنته بنو لحيان. واتخذت كلب (ودا) بدومة الجندل، وكان الذي جاء بالصنم (ود) عمرو بن لحى الجرهمى عندما كان حاكمًا على مكة قبل قريش، دفع عمرو الصنم (ودا) إلى عوف بن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحال بن قضاعة .. فحمل عوف الصنم (ودا) إلى وادي القرب، فأقره بدومة الجندل، وسمى ابنه عبد ود، فهو أول من سمى به، وهو أول من سمى عبد ود ثم سمعت العرب به بعد .. ظل الصنم (ود) معبودًا بدومة الجندل حتى حطمه خالد بن الوليد عام تسع من الهجرة حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك .. وقد دافعت كلب عن إلهها (ود) فقاتلهم خالد حتى قتلهم، فهدمه وكسره .. وقال الإِمام الكلبى قلت لمالك بن حارثة: صف لي (ود) حتى كأني أنظر إليه. فقال: كان تمثال رجل كأعظم ما يكون من الرجال، قد ذبر (أي نقمى) عليه حلتان، متزر بحلة، مرتد بأخرى، عليه سيف قد تقلده، وقد تنكب قوسًا، وبين يديه حربة فيها لواء ورفضة أي (جعبة) فيها نبل.
الله، إن أبي قتل وعليه دين، مائتا مثقال ذهب، فإن رأيت أن تقضيه من حليّ الرّبة فعلت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. فقال قارب بن الأسود: وعن الأسود بن مسعود أبي، فإنه قد ترك دينًا مثل دين عروة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ الأسود مات وهو كافر. فقال قارب. تصل به قرابة، إنما الدين عليَّ وأنا مطلوب به. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذًا أفعل. فقضى عن عروة والأسود دينهما من مال الطاغية.
وخرج أبو سفيان والمغيرة وأصحابهما لهدم الربة فلما دنوا من الطائف قال (المغيرة) لأبي سفيان: تقدم فادخل لأمر النبي صلى الله عليه وسلم. فقال أبو سفيان: بل تقدم أنت على قومك، فتقدم المغيرة في بضعة عشر رجلًا يهدمون الربة، فلما نزلوا بالطائف نزلوا عشاء فباتوا، ثم غدوا على الربة يهدمونها، فقال المغيرة لأصحابه الذين قدموا معه: لأضحكنكم اليوم من ثقيف. فأخذ العول واستوى على رأس الربة ومعه العول؛ وقام قومه بنو معتّب دونه، معهم السلاح مخافة أن يصاب كما فعل بعمه عروة بن مسعود. وجاء أبو سفيان وهو على ذلك فقال: كلا، زعمت تقدمنى أنت إلى الطاغية، تراني لو قمت أهدمها كانت بنو معتب تقوم دونى؟ قال المغيرة: إن القوم قد واضعوهم هذا قبل أن تقدم، فأحبوا الأمن على الخوف.
قال الواقدي: وقد خرج نساء ثقيف حسرًا (1) يبكين على الطاغية، والعبيد، والصبيان، والرجال منكشفون، والأبكار خرجن. فلما ضرب المغيرة ضربة بالمعول سقط مغشيًا عليه يرتكض، فصاح أهل الطائف صيحة واحدة: كلا، زعمتم أن الربة لا تمتنع، بلى والله لتمتنعن، وأقام المغيرة مليًا على حاله تلك، ثم استوى جالسًا فقال: يا معشر ثقيف كانت العرب تقول: ما من حي من أحياء العرب أعقل من ثقيف، وما من حي من أحياء العرب أحمق منكم، ويحكم، وما اللات والعزى، وما الربة؟ حجر مثل هذا الحجر، لا يدرى من يعبده ومن لم يعبده، ويحكم، أتسمع اللات أو تبصر أو تنفع أو تضر، ثم هدمها وهدم الناس معه، فجعل السادن يقول: - وكانت سدنة اللات من ثقيف بنو العجلان بن عتاب بن مالك، وصاحبها
(1) حسَّرًا: أي مكشوفات الوجوه، قاله أبو ذر في شرحه.
منهم عتاب بن مالك بن كعب ثم بنوه بعده- يقول: سترون إذا انتهي إلى أساسها، يغضب الأساس غضبًا يخسف بهم.
فلما سمع بذاك المغيرة ولى حفر الأساس حتى بلغ نصف قامة، وانتهى إلى الغبغب خزانتها، وانتزعوا حليها وكسومها وما فيها من طيب ومن ذهب أو فضة. قال: تقول عجوز منهم: أسلمها الرضاع (1)، وتركوا المصاع (2)، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم مما وجد فيها أبا مليح، وقاربا، وناسا، وجعل في سبيل الله وفي السلاح منها، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب لثقيف:"بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المؤمنين، إن عضاه وجّ (3) وصيده لا يعضد، ومن وجد يفعل ذلك يجلد وتنزع ثيابه، فإن تعدى ذلك فإنه يؤخذ فيبلغ محمدًا، فإن هذا أمر النبي محمد صلى الله عليه وسلم ".وكتب خالد بن سعيد بأمر النبي الرسول محمد بن عبد الله، فلا يتعداه أحد، فيظلم نفسه فيما أمر به محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قطع عضاه وجّ وعن صيده. وكان الرجل يوجد يفعل ذلك فتنزع ثيابه. واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمى وجّ سعد بن أبي وقاص (4)
وهكذا وبانتهاء هدم اللات وبدخول ثقيف في الإِسلام انتهت آخر مرحلة من مراحل الصراع بين الإِسلام والوثنية في منطقة الحجاز، حيث أصبحت كل هذه المنطقة داخلة في حظيرة الإِسلام، ولم يعد للوثنية أي وجود في أية ناحية من نواحى الحجاز، وكان إسلام ثقيف في أواخر السنة التاسعة للهجرة. أي بعد مرور حوالي سنة على انهزام ثقيف وكل هوازن في معركة حنين الحاسمة. والعام التاسع من الهجرة، هو المسمى بعام الوفود، وفيه أنزل الله تعالى على نبيه {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} (5).
(1) الرضاع (بكسر الراء) جمع راضع، وهو اللثيم.
(2)
المصاع (بكسر الميم): المضاربة بالسيف.
(3)
وج. قال ياقوت: اسم الطائف.
(4)
مغازي الواقدي ج 3 ص 969 - 970 - 971 - 972 - 973.
(5)
سورة النصر.