الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذه العقيدة أو تلاشت بعد خير القرون- توالت عليهم النكبات والإهانات والمصائب ونزلت بهم الهزائم المخجلة، مع كثرة عددهم وتوفر عتادهم، وقلة عدد وعتاد عدوهم، فانقلب الوضع بالنسبة للمنتسبين إلى الإسلام نتيجة الخواء العقائدى الذي تعرضت له نفوسهم في الأعصر الأخيرة، فتخلفوا في كل شيء، وخاصة بعد أن استوردوا عقائد ومبادئ غريبة أحلوها محل عقيدة الإسلام .. والله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
أسباب هزيمة هوازن الساحقة بعد انتصارها:
مما لا جدال فيه أن قيادة هوازن قد رأسها شاب شجاع ألمعى أثبت منذ بداية المعركة حتى نهايتها أنه على مستوى ممتاز من الدراية العسكرية والخبرة بفنون القتال والسياسة الحربية والدقة في رسم الخطط واختيار المواقع.
أما الشجاعة، فقد رأينا منذ البداية كيف دعا قومه -وهو يلقى فيهم كلمة حماسية- إلى أن يكسروا جفون سيوفهم عند اللقاء، فكسر عشرون ألف مقاتل جفون سيوفهم ولقوا المسلمين بعشرين ألف سيف مصلتًا مكسور الجفن، كسر جفون السيوف، اتباعه علامة تدل على الشجاعة والتصميم على الاستماتة في القتال، ومن الناحية العملية فقد رأينا كيف ثبت مالك بن عوف في الميدان على رأس قبيلته الخاصة بني نصر وجالد المسلمين -رغم انهيار بقية عشائر هوازن- حتى كادت قبيلته (لثباتها بقيادته) أن تفنى عن آخرها.
أما الخبرة والدراية والسياسة العسكرية، فقد دلت تصرفات هذا القائد العجيب وهو يهيئ جيشه لمقاتلة المسلمين- وكأنه من خريجى المعاهد العسكرية الحديثة، فقد رأينا كيف حرص هذا القائد الشاب (بعد أن علم بخروج المسلمين من مكة) على أن يسبقهم إلى مكان التجويف الواسع من وادي حنين ويجعله معسكرًا لجيشه، لأنه (كما وصفه المعمِّر الخبير دريد بن الصمة) واسع وصلب غير رخو صالح لمجال الخيل التي هي سلاح الصاعقة في ذلك العصر ولدى هوازن منها يوم حنين الآلاف.
كما رأينا من شاب صغير لم يتخط الرابعة والعشرين من عمره، كيف
كانت قدرته على الدقة في رسم الخطط وسرعة تنفيذها، والتي منها -ولعلها أبرعها- خطة الكمائن التي كان مالك دقيقًا في وضعها وتنفيذها إلى أبعد الحدود، كما رأينا كيف لجأ القائد مالك (وهو يعبِّئ جيشه في الوادي) إلى التمويه الحربى حين جعل جيشه يظهر في أعين المسلمين أكبر من حجمه الحقيقي بعدة أضعاف.
إذن فالمسلمون واجهوا يوم حنين أعداء مقاتلين شجعانًا وقادة ممتازين من الدرجة الأولى .. أما شجاعة القائد العام لهوازن شخصيًا، فلا أدل عليها من أنه (بشهادة المؤرخين المسلمين) كان ساعة انهزام عامة هوازن، قد ثبت في الميدان على رأس عشيرته الخاصة (بني نصر) حتى كادت سيوف المسلمين أن تبيدها عن آخرها، ولم ينهزم القائد مالك إلا حين رأى أن لا فائدة من الاستمرار في القتال، ومع ذلك فلم يفرّ من الميدان فرار الجبان الرعديد، بل كان انهزامه أشبه بالانسحاب المنظَّم، فقد رأينا فيما مضى من هذا الكتاب كيف تراجع هذا القائد في هيئة أركان حربه، ووقف في كتبية من فرسانه على تل يوفرّ الحماية لبعض الفارين من الميدان من قومه، وخاصة الضعفة والنساء، وظل ثابتًا على التل في هيئة أركان حربه حتى أيقن أنه إن لم يختف ستحيط به كتيبة الفرسان المطاردة التي يقودها الزبير بن العوام، فلجأ إلى الاختفاء بين الأشجار في وادي اليمانية (نخلة) وواصل ترحاله حتى لحق بحصنه في وادي ليَّة، ثم لحق بثقيف فتحصن معها في الطائف.
إذن ما دام مستوى هوازن القتالى والقيادى ممتاز إلى هذه الدرجة فما هي الأسباب التي أدَّت إلى هزيمتها المدمرة؟
يمكن تلخيص أسباب هزيمة هوازن بعد انتصارها في الأمور الآتية.
أ- غياب العقيدة:
فإذا كان المسلمون أصحاب العقيدة الجديدة (عقيدة التوحيد) يستعذبون الموت في ظلها، ويرون هذا الموت أعزَّ ما يتوق إليه المسلم -وهذا أعظم رافد يمد النفس بالروح المعنوية اللازمة للصبر على القتال حتى الموت- فإن جند هوازن (رغم شجاعتهم) ليس لهم عقيدة يستعذبون الموت في سبيلها، بل ويبحثون عنه ليكونوا شهداء في سبيل الله كما هو شأن المسلمين
في كل معركة خاضوها تحت قيادة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وإذا كانت لهوازن عقيدة، فإن هذه العقيدة (وهي عقيدة وثنية) هي في حكم المعدوم، لأنها عقيدة ضحلة مهزوزة غير واضحة ولا راسخة، وليس من معطياتها الاعتقاد بأن المقتول في سبيلها سيفوز بالجنة، فليس في جيش هوازن جندى واحد يعتقد أنه إن قتل دفاعًا عن اللات والعزّى أو أي صنم آخر، سيكون مأواه الجنة.
إذن فهوازن يمكن القول: إنهم خاضوا المعركة بدون عقيدة، ولهذا فإن قائدهم مالك بن عوف -لعلمه بهذه الحقيقة كوثنى- لجأ إلى جعل الدفاع عن النساء والأطفال والأموال يحل محل الدفاع عن العقيدة الصحيحة الراسخة كالتي لدى المسلمين والتي يفقدها الهوازنيون، فأمر جميع الجند باصطحاب أهلهم وأموالهم إلى الميدان كى يستميتوا في الدفاع عنهم، حينما لم يكن لديهم غيرهم ما يجبرهم على الاستماتة في الدفاع عنه، ولكن هذه الخطة لم تجد شيئًا، فقد انهزمت هوازن هزيمة كاملة شاملة تاركة الأهل والأموال وراءها .. والسبب غياب العقيدة الصحيحة الراسخة التي لا يقوم مقامها شيء في مد الجندى بالروح المعنوية اللازمة للصمود حتى الموت.
ب- القبلية الضيقة والمطامع:
أثناء تحليل الدوافع لخوض القبائل الوثنية (مثل هوازن) للمعارك مع أي كان، يتضح للباحث أن العنصرية الضيقة المتمثلة في الدفاع عن القبيلة فقط، وكذا الرغبة في السلب والنهب هما الباعثان الرئيسيان للجندى الوثنى العربي على القتال، وهذان الباعثان (في نظر الخبير العسكري) غير كافيين لمد الجندى بالثبات والصمود حتى الموت.
فالعنصرية رغم أنها قد تكون عامل تجميع وحشد، فإنها لدى المحارب ليست عامل ثبات وصمود حتى الموت، فهو سيقاتل إلى جانب من هو من قبيلته دونما شك، وقد يصمد بشجاعة ويضحى، ولكن ليس إلى الحد الذي يجعله يُقبِلُ على الموت راضيًا كى يحيا الآخرون (ولا عبرة بالنادر الشاذ) فهو سيقاتل بشراسة وشجاعة ما دام أن هناك أملًا في الانتصار، ولكن عندما
تضرّسه الحرب وتشتد عليه وطأة القتال إلى الحد الذي لا خيار له معه إلا اتباع أحد إما الموت أو الفرار، فإنه -دونما شك- سيفضِّل الفرار.
أما باعث السلب والنهب فإنه أضعف من باعث العنصرية، لأن المحارب من أجل السلب والنهب، فإنما يخوض الحرب من أجل التمتع (حيًّا) بما يسلب وينهب، ولذلك فإنه عندما يترجح لديه أن الموت سيكون مصيره إذا ما استمر في القتال، سيركن إلى الفرار دونما شك، مهما كان شجاعًا وبارعًا في القتال وهذا هو الذي حدث لهوازن.
ج- الغرور والاستبداد:
هاتان الصفتان، هما صفتا قائد هوازن مالك بن عوف، فبالرغم من أن هذا السيد الشاب ذكي شجاع ألمعى، فإنه كان مغرورًا مستبدًا، والغرور والاستبداد في قادة الجيوش من أخطر ما يتهدد هذه الجيوش ويسبب لها النكبات كما سجل التاريخ ذلك عبر القرون.
أما استبداد مالك فقد كان جليًّا (كما رأينا) في رفضه نصيحة المحارب الخبير المعمّر دريد بن الصمة، حينما انتقده لإجباره الجند على اصطحاب أهاليهم وأموالهم معهم إلى الميدان، ونصحه بأن يعيد النساء والأطفال والأموال إلى رؤوس الجبال لتكون في مأمن إذا ما كانت الهزيمة على هوازن، فرفض هذه النصيحة بعجرفة، وعندما استصوب وجوه وقادة عشائر هوازن نصيحة دريد بن الصمة ومالوا إلى الأخذ بها، هددهم قائدهم بأنه سينتحر إذا لم يسيروا حسب خطته وتبعًا لمزاجه، فأذعنوا له، (رغم الخطأ القاتل في تصرفه)، لأنه كان محبوبًا لديهم، ولأنهم يخشون الانقسام والمعركة على الأبواب.
أما غروره فقد ذكر المؤرخون أنه كان متكبِّرًا لا يسير إلا مُسبِل الإِزار، وقد تجلى غروره في إعلانه الاستهانة بقوات المسلمين، هذه الاستهانة التي تجلت في قوله (ضمن كلمة ألقاها في جنده قبيل المعركة): (إن محمدًا لم يقاتل قط قبل هذه المرة، وإنما كان يلقى قومًا أغمارًا لا علم لهم بالحرب
فينصر عليهم) (1). مع أن دريد بن الصمة نصح مالكًا بأن يترك الغرور لأنه سيقاتل رجلًا لا كالرجال، حين قال له:(يا مالك إنك تقاتل رجلًا كريمًا وقد أصبحت رئيس قومك وإن هذا اليوم كائن لما بعده من الأيام)(2).
وغرور القائد واستهانته بجنود الجيش الإِسلامي، كان بمثابة إيحاء إلى جنده بأن يكونوا مثله، فسرب روح الاستهانة بين فصائلهم بجند الإِسلام لا سيما بعد أن انهزم المسلمون عند الصدمة الأولى، فكان هذا الغرور والاستهانة (دونما شك) من أهم أسباب انتكاسة هوازن بعد انتصارها، هذه الانتكاسة التي تحولت إلى هزيمة ساحقة شاملة.
د- الانشقاق بين هوازن:
بالرغم من أن هوازن كانت في حنين قوة جبارة (عشرين ألف محارب) إلا أنها كانت قد تعرَّضت (منذ اللحظة الأولى من التحشد) لانشقاق كان له الأثر السئ على معنوياتها فقد رفضت قبيلتان من هوازن الاشتراك في حرب المسلمين، وهاتان القبيلتان (وهما كعب (3) وكلاب (4)) من أشجع وأقوى قبائل هوازن، بل هما بشهادة المعمر الخبير دريد بن الصمة، أقوى قوة بين عشائر هوازن -وذلك بقوله - (لما أخبِر أنهما لن تشهدا حنينًا مع هوازن-:(غاب الجِدُّ والحد، ولو كان يوم رفعة وعلاء لم تغب عنه كعب ولا كلاب).
(1) مغازي الواقدي ج 3 ص 893.
(2)
مغازي الواقدي ج 3 ص 887.
(3)
هم كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن. كانوا بطنًا عظيمًا من هوازن، وكانت ديارهم منتشرة فيما بين تهامة والمدينة وأرض الشام. وكانوا مشهورين بالشجاعة والشرف بين العرب.
(4)
كلاب هؤلاء بطن من أعظم بطون هوازن، وهم من بني كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن، كانت من منازلهم سمى ضرية بنجد وهو حمى كليب، وحمى الربذة في جهات المدينة المنورة، وفدك والعوالى، وقد انتشروا في الشام. وكانوا شعبًا محاربًا فعظم شأنهم فملكوا حلب ونواحيها كثيرًا من مدن الشام، وإلى عظمة وشرف كعب وكلاب هؤلاء يقول الشاعر لآخر يهجوه:
فغض الطرف إنك من نمير
…
فلا كعبا بلغت ولا كلابا
ورغم امتناع كعب وكلاب أكثر بني هلال من الانضمام إلى حشد مالك بن عوف لم يحدث أي تردد بين أوساط عشائر هوازن الأخرى، إلا أن امتناع كعب وكلاب وبنى هلال كان له أثره الضَّار على معنويات العشائر الأخرى من هوازن، لأن جيش مالك بن عوف الذي يتكون من هذه العشائر قد خسر (بمختلف العشائر الثلاث عنه) عنصرًا من أهم عناصره القتالية، فأنقص ذلك من مستوى روح هذا الجيش المعنوية، حتى أن الخبير الحربى المعمر الذي بلغ مائة وستين سنة قضى معظمها في الحروب، توقع نزول الشر بجيش هوازن لما بلغه غياب كعب وكلاب وبنى هلال عن مقاتلة المسلمين، حين قال:(لو كان خيرًا ما سبقتموهم إليه، ولو كان ذكرًا أو شرفًا ما تخلَّفوا عنه فأطيعونى يا معشر هوازن وارجعوا وافعلوا ما فعل هؤلاء)(1).
وفعلًا (وكما توقع دريد بن الصمة) فإن هوازن لم تلق في حربها ضد المسلمين إلا الشر كل الشر وهو الهزيمة الشاملة الساحقة.
هـ- الرعب المفاجئ:
لقد أظهرت هوازن (وخاصة في المرحلة الأولى من المعركة) مقدرة قتالية كبيرة، وعندما تراجع المسلمون المنهزمون وشنوا هجومهم المعاكس الضارى، قاتلت أيضًا هوازن قتالًا شديدًا، وثبت قائدها مالك بن عوف في الميدان يجالد المسلمين بثبات وضراوة حتى كادت قبيلته الخاصه أن تفنى لثباتها إلى جانبه.
ولكنَّ جند هوازن -ساعة استئناف المسلمين القتال واشتداد هذا القتال- تعرّضوا لسلاح خفى كان له أكبر الأثر في التعجيل بهزيمة هوازن .. وهذا السلاح هو الرعب المفاجئ الذي قذفه الله في قلوب جند هوازن، بالإضافة إلى جنود مجهولين كان جند هوازن يشاهدونهم على هيئة مفزعة إلى جانب العسكر الإسلامي، وقد ذكر مؤرخو الإسلام (استنادًا إلى نصوص موثوق بها) أن هؤلاء الجنود الذين يشاهدهم جند هوازن على هيئة خيالة، هم من الملائكة لبث الرعب في نفوس المشركين، وقد أكد حقيقة هذا الرعب المفاجئ رجال من ثقيف ممن شهدوا حنينا مع المشركين ثم هداهها الله
(1) مغازي الواقدي ج 3 ص 887.