الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فكم هي إذن الضحايا بين العشائر الأخرى من هوازن؟ لا شك أنها تعد بالمئات أيضًا، وهذا غير مستغرب، لأن طبيعة المعركة تفرض أن تكون الضحايا كثيرة جدًّا، لأنها معركة لم يدر مثلها (بعد مؤتة) في الضراوة والشراسة والعنف حيث صبر الفريقان فيها صبرًا عظيمًا كما تقدم وصفه في هذا البحث.
تعليق على عدد القتلى المسلمين:
وإذا كان يستشف من حديث أصحاب السير والمغازى أن هوازن قد فقدت (تقريبًا) أكثر من ألف قتيل، فإن أصحاب السير، المغازي هؤلاء قد وضعوا جدولًا لقتلى المسلمين لم يذكروا فيه (كما تقدم) أكثر من أربعة شهداء، ونحن -واستنادًا إلى نظرية فيلسوف التاريخ الإِمام ابن خلدون الذي ذكرها في مقدمته- نرى أن هذا العدد (بالنسبة لمستوي المعركة الضارية قليل) فنقول:
مما لا جدال فيه ولا اختلاف بين أصحاب السير والمغازى أن معركة حنين هي (بعد معركة مؤتة) أعنف معركة يخوضها الجيش النبوي، وقد شهد بذلك الصادق المصدوق النبي صلى الله عليه وسلم حين قال -بعد أن عاد المنهزمون المسلمون إلى الميدان: الآن سمى الوطيس، وهذا قول يصوِّر شدة القتال وضراوته، وهو قول، لم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم مثله في وصف أية معركة من المعارك التي خاضها طيلة حياته .. قول يجسد ويصوِّر صبر الفريقين في القتال العنيف الضارى، لأن الوطيس في القتال لا يحمى إلا إذا تصافح المحاربون بالسيوف وتداسروا بالرماح وتراشقوا بالنبل على أعلى مستؤيات القتال في ثبات وصبر وعناد.
وهوازن قبيلة محاربة على مستوى ممتاز وقواتها المشتركة في المعركة قوات كثيفة حددها المؤرخون بعشرين ألف مقاتل، كما أن هذه القوات الكثيفة كانت تحت قيادة ملك فتى باسل هو في القمة من حيث الشجاعة والخبرة بالحرب وأساليبها، وكان جيشه الكثيف شديد الانضباط، إلى درجة رأينا معها كيف أطاع عامة الجيش وسمعوا لقائدهم الشاب، رغم الغلطة التعبوية التي ارتكبها، والمتمثلة في إجبار جند هوازن على أن يصطحبوا معهم إلى ميدان القتال النساء
والأطفال والأموال، وهي الغلطة التي نبه المحارب المجرب دريد بن الصمَّة الجشمى القائد مالكًا إليها وطالبه بشدة أن يتراجع عنها. فرفض استنادًا إلى ما ترسخ في اعتقاده أن ما أقدم عليه بهذا الشأن سيكون من أكبر الحوافز للجند على الثبات وعدم التفكير في الهرب. وفعلًا ثبت جند هوازن حتى فقدوا (وهم صابرون) ما لا يقل عن ألف قتيل في تقديرنا استنادًا إلى إشارات أصحاب المغازي والسير.
ثم إننا (كما شهد المؤرخون أنفسهم) رأينا كيف نزلت الهزيمة المروِّعة بجيش الإِسلام في المرحلة الأولى من المعركة حتى وصلت طلائعه المنهزمة قريبًا من مكة، والمنهزم الهارب يكون القتل فيه كثيرًا دونما جدال، لا سيما إذا كان عدوّه المنتصر يطارده لينزل به أكبر خسارة ممكنة في الأرواح، وهو ما فعلته هوازن المنتصرة (بشهادة أصحاب المغازي والسير) في أول المعركة، وكانت هوازن عشرين ألفًا والمسلمون اثنى عشر ألفًا.
يضاف إلى ذلك (وهو الأهم) نجاح كمائن هوازن في هجومها الصاعق على المسلمين، فقد انقضت الكمائن بأسلوب صاعق مباغت عند الفجر على الجيش النبوي وهاجمته بمختلف الأسلحة بما في ذلك الخيل، كما قصف رجال الكمائن الهوازنية المسلمين من مختلف الجهات بوابل من النبال وصفها بعض المؤرخين لكثافتها كأنما أرجال الجراد. وهذه النبال لا بد وأن تصيب مقاتل كثير من الذين تعرَّضوا لها لاسيما وأنهم كانوا مكشوفين لرماة النبل الذين كانوا يتربصونهم وراء التلال دون أن يعلموا عنهم شيئًا.
وقد رأينا -أثناء حصار الطائف- كيف قُتل أربعة عشر من المسلمين بنبال الثقفيين الذين كانوا في حصونهم، رغم أن المسلمين كانوا على استعداد وحذر، وكانوا بعيدين عن مرمى النبال ومستترين بمختلف، الآلات والوسائل.
فكيف إذن (ومع كل الذي أوضحناه) يكون كل قتلى المسلمين في معركة حنين من أولها إلى آخرها أربعة قتلى فقط؟ .
إن الذي نراه (وهذا مجرد استنتاج وتقييم) أن شهداء المسلمين في معركة حنين أكثر بكثير من الذي ذكره الواقدي وابن إسحاق والطبرى، ولا ندرى (طبعًا) بالتحديد كم هم عدد الشهداء الذين نعتقد أنهم سقطوا في ميدان
الشرف بحنين، ولكنهم (في نظرنا) يبلغون المئات، وهو عدد لا بد وأن يسلم به كل خبير عسكرى درس وصف المؤرخين لمراحل معركة حنين الطاحنة.
ونحن بهذا لا نتهم الأئمة الأعلام من أصحاب السير والمغازى بإخفاء الحقائق، كلا وألف كلا. بل نؤكد أنهم مثال النزاهة والأمانة والصدق، فهم (كما ذكرنا في كتابنا غزوة مؤتة) أمناء ثقات يقدِّرون مسؤولية ما يكتبون لمن بعدهم من الأجيال، وانطلاقًا من قاعدة الأمانة في النقل التي التزموها لم يذكروا من شهداء معركة حنين إلا ما وصل إلى علمهم عن طريق الثقات، وهم أربعة شهداء فقط.
ولكن هؤلاء المؤرخون الأعلام أثبتوا بالتفصيل ضراوة المعركة وشدتها وطول وقتها وذكروا ما يشير إلى أن قتلى المشركين بلغوا المئات دون أن يضعوا جدولًا سوى لأسماء أربعة منهم على رأسهما قائد قوات ثقيف عبد الله بن عثمان.
ثم إننا (مع ترجيحنا القوى بأن قتلى المسلمين في حنين قد وصلوا المئات) وترجيحنا هذا مبنى على ما درسناه من مراحل القتال الشرس والضارى ابتداء من انهزام إثنى عشر ألف مقاتل (أول الأمر) وهم المسلمون وملاحقة عشرين ألف مقاتل لهم يخبطونهما بالسيوف ويطعنونهما بالرماح ويرمونهم بالنبال، وهم المشركون، مدة من الزمن، ثم رجوع المنهزمين المسلمين والتحامهم مع المنتصرين المشركين في قتال شرس ضار لم يصف الرسول مثله في الضراوة بسبب صبر الفريقين وذلك بقوله صلى الله عليه وسلم:"الآن حمى الوطيس". إننا مع ترجيحنا هذا نعتز بنزاهة وأمانة أئمتنا المؤرخين الأعلام الذين لم يكتبوا لنا في مؤلفاتهم إلا أسماء ما وصل إلى علمهم من شهداء المسلمين وهم أربعة .. كما لم يذكروا أيضًا إلا أربعة فقط من القتلى وكلهم من ثقيف.
ثم إن عدم حصول أئمة المغازي والسير على أعداد تفصيلية أو إجمالية لعدد شهداء المسلمين في معركة حنين وفي غيرها مثل معركة مؤتة (وهي في نظرنا أعداد كثيرة) يرجع إلى عدة أمور.
1 -
أنه لم يكن هناك (لا في قيادات المسلمين ولا في قيادات المشركين) قسم إدارى مهمته إحصاء القتلى وتقديم قوائم بأسمائهم كما هو النظام السائد في الجيوش العصرية.
2 -
ليس هناك (كما قلنا في كتابنا غزوة مؤتة) ديوان إحصاء للجند يسجل فيه المنخرطون في سلك الجيش بحيث يمكن الرجوع إلى هذا السجل لعرفة عدد وأسماء الشهداء فيسهل على المختصين بأخبار المغازي والسير وضع قوائم بأسماء هؤلاء الشهداء في مؤلفاتهم.
3 -
يؤلف أبناء البادية من مختلف القبائل الأغلبية في الجيش النبوي يوم حنين، وهؤلاء بعد معركة حنين وحصار الطائف تفرقوا راجعين إلى قمم الجبال وبطون الوديان في بواديهم المنتشرة في طول الجزيرة وعرضها، ولا شك أن كل عشيرة علمت بشهدائها، ولكن من الصعب على المختصين بتدوين أخبار المغازي والحروب في العهد النبوي، الحصول من هؤلاء البدو على عدد وأسماء الشهداء من أبناء هذه العشائر، لا سيما إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الاهتمام بتدوين أخبار الحروب الإسلامية في العهد النبوي لم يكن من المؤرخين إلا في أواسط أواخر القرن الثاني الهجرى.
من هنا جاء تقديرنا واستنتاجنا بأن هناك للإسلام جنودًا كثيرين استشهدوا في معركة حنين لم يصل إلى علم المؤرخين الأوائل عددههم وأسماؤهم، وأكثرهم (علي الأرجح) من أبناء البادية الذين يمثلون أكثرية الجيش المحارب في حنين.
هذا كما قلنا (في تعقيبنا على شهداء غزوة مؤتة) مجرد استنتاج وتقييم جعلنا نبديها استساغتنا -بل والتزامنا- للقاعدة الفلسفية التاريخية التي وضعها فيلسوف التاريخ والاجتماع الأول الإِمام عبد الرحمن بن خلدون الكندى الحضرمي في مقدمته الذائعة الصيت، والقائلة: إن على المؤرخ الباحث أن لا يجمد على النصوص المتعلقة بالتاريخ، بل عليه (مع فحص النصوص) أن يقيم الأحداث ويزن الأمور بميزان العقل فيرفض تصديق ما لا يقبله العقل والوجدان (كقصة العبّاسة أخت الرشيد) كما عليه أن يستخرج الحقائق على ضوء الواقع التاريخي والتي قد لا تكون النصوص التاريخية المسطورة قد ذكرتها ولكنَّ سياق هذه النصوص تُستشف منه هذه الحقائق كالترجيح بأن عدد شهداء المسلمين في معركتى حنين ومؤتة أكثر مما أورده أصحاب المغازي في كتبهم رضي الله عنهم.