الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الانكسار والتراجع، تعرَّض الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يواجه ذلك الموقف الصعب - لمحاولة اغتيال شريرة، فقد اغتنم أحد الموتورين من قريش فرصة انكشاف المسلمين فقرر اغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم انتقامًا لمقتل أبيه يوم أحد على أيدى المسلمين، وكان أبوه حامل لواء المشركين يوم أحد.
وهذا الرجل الذي أضمر اغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم هو شيبة بن عثمان بن أبي طلحة العبدرى حامل مفتاح الكعبة وكان ضمن من أسلم يوم الفتح ولمَّا يدخل الإِيمان في قلبه. ولكن الله تعالى منع رسوله صلى الله عليه وسلم من تلك المؤامرة الشريرة وحماه منها.
فقد تحدث المخطِّط لهذه المؤامرة نفسه بعد أن حسن إسلامه فقال: قلت: اليوم أدرك ثأر أبي. اليوم أقتل محمدًا. قال: فأردت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأقتله، فأقبل شيء حتى تغشَّى فؤادى فلم أطق ذلك وعلمت أنه قد مُنع منى (1).
حديث المؤرخين عن الهزيمة
أما هزيمة المسلمين عند الصدمة الأولى وقت الفجر فقد أجمع المؤرخون وأصحاب الحديث على أنها كانت هزيمة مخيفة لم يثبت عندها أحد من المسلمين إلا الرسول صلى الله عليه وسلم ومائة فقط من هيئة أركان حربه وهم خلصاء أصحابه كلهم من سادات المهاجرين والأنصار. وكان وصف المؤرخين والحديث للهزيمة مقتضيًا ليس فيه كثير تفصيل. ونحن نذكر هنا ما جاء فيما بين أيدينا من أمهات التاريخ من وصف لهذه الهزيمة:
قال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن عبد الرحمن بن جابر عن أبيه جابر بن عبد الله قال:
لما استقبلنا وادي حنين انحدرنا في واد من أودية تهامة أجوف خَطوط (2)، إنما ننحدر فيه انحدارًا. قال: وفي عماية الصبح، وكان القوم قد سبقونا إلى الوادي، فكمنوا لنا في شعابه وأحنائه ومضائقه، وقد أجمعوا وتهيأوا وأعدوا
(1) تاريخ الطبري ج 3 ص 75 وسيرة ابن هشام ج 4 ص 87.
(2)
خطوط: بفتح الخاء: منحدر.
فوالله ما راعنا ونحن منحطون إلا الكتائب قد شدّوا علينا شدة رجل واحد .. وانشمر (1) الناس راجعين لا يلوي أحد على أحد، وانحاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات اليمين ثم قال: أين الناس؟ هلموا إليّ، أنا رسول الله. قال: فلا شيء، حملت الإبل بعضها على بعض، فانطلق الناس إلا أنه بقى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته.
وعن يونس بن بكر، قال: فخرج مالك بن عوف بمن معه إلى حنين فسبق رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها فأعدوا وتهيأوا في مضايق الوادي وأحنائه. وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انحط بهم الوادي في عماية الصبح، فلما انحط الناس ثارت في وجوههم الخيل فشدّت عليهم وانكفأ الناس منهزمين لا يقبل أحد على أحد، وانحاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات اليمين يقول:(أين الناس؟ هلموا إليّ أنا رسول الله أنا محمد بن عبد الله). قال: فلا شيء. وركبت الإبل بعضها بعضًا (2).
وقال ابن حزم يصف الهزيمة: ثم نهض (أي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أتى وادي حنين وهو واد حَدور (3) من أودية تهامة، وهوازن قد كمنت جنبتى الوادي، وذلك في عماية الصبح (4) فحملوا على المسلمين حملة رجل واحد فولى المنهزمون لا يلوى أحد على أحد، فناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرجعوا (5).
وقال الطبري في تاريخه -بعد سرد أسانيده عن جابر بن عبد الله عن أبيه-: لما استقبلنا وادي حنين انحدرنا في واد من أودية تهامة أجوف حطوط، إنما ننحدر فيه انحدارًا، قال: وفي عماية الصبح، وكان القوم قد سبقوا إلى الوادي، فكمنوا لنا في شعابه وأحنائه ومضائقه، قد أجمعوا وتهيأوا وأعدوا-، فوالله ما راعنا -ونحن منحطون- إلا الكتائب قد شدَّت علينا
(1) انشمروا: انهزموا.
(2)
البداية والنهاية ج 4 ص 326.
(3)
الحدور: المكان الذي ينحدر منه.
(4)
عماية الصبح: ظلامه قبل أن يتبين.
(5)
جوامع السيرة ص 239.
شدة رجل واحد، وانهزم الناس فانشمروا لا يلوى أحد على أحد، وانحاز رسول الله ذات اليمين، ثم قال: أين الناس؟ هلمّ إليَّ أنا محمد بن عبد الله، فلا شيء احتملت الإِبل بعضها بعضًا، فانطلق الناس (1).
وقال محمد بن سعد في طبقاته: وانحدر رسول الله صلى الله عليه وسلم في وادي الحنين على بغلته البيضاء دلدل، ولبس درعين والمغفر والبيضة، فاستقبلهم من هوازن شيء لم يروا مثله قط من السواد والكثرة، وذلك في غبش الصبح، وخرجت الكتائب من مضيق الوادي وشعبه فحملوا حملة واحدة، وانكشفت الخيل خيل بني سليم مولية وتبعهم أهل مكة وتبعهم الناس منهزمين، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا أنصار الله وأنصار رسوله أنا عبد الله ورسوله (2).
وقال محمود شيت خطاب (وهو من المؤرخين العسكريين الإِسلاميين المعاصرين): دخلت قوات المسلمين وادي حنين فجرًا، وكان واديا أجوف منحدرًا ينحط فيه الركبان كلما أوغلوا، كأنهم يسيرون إلى هاوية، فلما استقرت أكثر قوات المسلمين في الوادي، رماهم المشركون بوابل من سهامهم، فلم يعرف المسلمون مصدر ذلك الرمي، لأن الظلام كان سائدًا وقتذاك، ولأن مواضع المشركين كانت مخفية تمامًا، فانسحبت مقدمة المسلمين وجرفت أمامها المسلمين (3) الأخر، فانقلب انسحاب المسلمين إلى هزيمة. ورأى أبو سفيان هزيمة المسلمين فقال:(لا تنتهي هزيمتهم دون البحر). وقال آخرون ممن أسلموا حديثًا مثل قوله، بل إن عثمان بن طلحة الذي قتل أبوه في غزوة أحد حاول اغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف العصيب ليدرك ثأر أبيه من محمد، وترك المشركون مواضعهم للقيام بالمطاردة بعد انسحاب المسلمين، وكان يتقدم هوازن رجل على جمل أحمر بيده راية سوداء في رأس رمح طويل، وهو كلما أدرك المسلمين طعن برمحه، وهوازن وثقيف منحدرون وراءه يطعنون. وانتشر الفزع بين المسلمين وازدحمت المسالك بالسابلة، وارتبكت الصفوف واختلطت القبائل ببعضها، وركبت الإبل بعضها بعضًا وهي مولية
(1) الطبري ج 3 ص 74.
(2)
الطبقات الكبرى ج 1 ص 150.
(3)
كانت مقدمة المسلمين ألف فارس، وللخبير العسكري أن يتصور كيف تصنع ألف حصان وهي فارة بمن أمامها من المشاة وراكبي الجمال.