الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبعد أن تمت كل الإِجراءات الخاصة باعتناق ثقيف الإِسلام، كتب الرسول صلى الله عليه وسلم بينه وبينهم كتابهم وعيَّن أميرهم، غادروا المدينة قاصدين بلادهم الطائف ليعلموا قومهم بنتيجة محادثتهم ويدعونهم إلى الدخول في الإِسلام.
وقد لاقى رجال الوفد الثقفى من قومهم في الطائف بعض المتاعب وشيئًا من المقاومة فلم يتقبلوا الإِسلام بسهولة، ولكن رجال الوفد اطمأنوا من نفارهم ولا ينوهم وروّضوهم حتى تم التغلب على كل المتاعب، ودخل الثقفيون في الإِسلام جميعهم.
هدم الطاغية اللات وما صاحبه من متاعب:
كان إسلام ثقيف في السنة التاسعة الهجرية آخر مسمار دق في نعش الوثنية في منطقة الحجاز وغربى نجد حيث تسكن قبائل هوازن العظيمة والكثيرة العدد. حيث لم يعد للوثنية أي وجود في هذه المناطق.
لقد كان يومًا مشهودًا ذلك اليوم الذي تحطم فيه صنم ثقيف (اللات) وهو صنم قد اتخذته ثقيف إلهًا من دون الله ليقرِّبها إلى الله زلفى.
وقد جاء ذكر هذا الصنم في كتاب الله العزيز، فقال تعالى {أَفَرَأَيتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إلا أَسْمَاءٌ سَمَّيتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} (1).
تاريخ اللات ومن هو
ومن الجدير بالذكر أن اللات هو اسم رجل صالح، كان منذ القدم -قد أتخذ له مكانا طريق الحاج يطعم فيه المحتاجين من الحجاج عندما يمرون به، وكان يلتُّ لهم السويق (أي يعجنه) بنفسه، ويطعمهم تقربًا إلى الله تعالى، ولهذا أطلق عليه لقب (اللات) نسبة إلى قيامه بلت العجين.
كان اللات يفعل المعروف هذا والناس على الحنفية دين إبراهيم عليه السلام، فلما مات هذا الرجل الصالح (اللات) اتخذ قومه على قبره مشهدا فصاروا
(1) سورة النجم آية 23.
يختلفون إليه للتكريم والتبرك، وبمرور الزمن وتكاثف الجهل وتفلّت الناس من الحنفية دين إبراهيم عليه السلام تحوَّل اللات إلى صنم يُعْبَد من دون الله (1) بالدعاء والطواف والتقديس والذبح والنذر، لا بالاعتقاد أن اللات يخلق أو يرزق أو يحيى أو يميت، وإنما بالاعتقاد أنه لقربه من الله (بزعمهم) يتوسط لهم عند الله على أساس قاعدتهم التي أشار إليها القرآن {مَا نَعْبُدُهُمْ إلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (2).
ولقد روى الإِمام ابن جرير الطبري بسنده عن سفيان عن منصور عن مجاهد: {أَفَرَأَيتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} قال: كان يلتُّ لهم السويق (3) فمات فعكفوا على قبره، وكذا قال أبو الجوزاء عن ابن عباس:(كان يلت السويق للحجاج) وعن سعيد بن منصور: (فيطعم من يمر من الناس فلما مات عبدوه، وقالوا: هو اللات)(4).
كان اللات أكبر الأوثان عند العرب (5). وقال الإمام هشام الكلبى في كتابه (الأصنام): واللات بالطائف، هو أحدث من مناة، وكان صخرة مربعة، وكان يهودى يَلتُّ عندها السويق، وكانت سدنتها من ثقيف بنو عتّاب بن مالك، وكانوا قد بنوا عليها بناءً وكانت قريش وجميع العرب تعظِّمها، وبها كانت العرب تسمّى (زيد اللات وتيم اللات)، وكانت في موضع منارة مسجد الطائف اليسرى اليوم (أي في عهد الكلبى)، وهو الذي ذكره الله في القرآن فقال:{أَفَرَأَيتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} .
وله يقول عمرو بن الجعد:
فإني وتركى وصلَ كأس كالذي
…
تبرأ من لات وكان يدينُها
(1) انظر فتح المجيد شرح كتاب التوحيد ص 248 مطبعة السنة المحمدية، وانظر كتاب الأصنام للإمام الكلبى ص 16 وما بعدها.
(2)
سورة الزمر آية 3.
(3)
السويق: دقيق الحنطة أو الشعير. وله: بله بالماء أو السمن، والحاج بمعنى الحجاج.
(4)
فتح المجيد شرح كتاب التوحيد ص 249.
(5)
فتح المجيد ص 254.
وله يقول المتلمس في هجائه عمرو بن المنذر:
أطردتنى حذَرَ الهُجاء
…
واللات والأنصاب لا تئل
فلم تزل كذلك حتى أسلمت ثقيف، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة فهدمها وحرقها بالنار. وفي ذلك يقول ابن عارض الجُشَمى حين هُدِّمت وحُرِّقت ينهى ثقيفًا عن العود إليها والغضب لها.
لا تنصروا اللاتَ إنَّ الله ملكُها
…
كيف نصركموا من ليس ينتصرُ
إنَّ التي حرقت بالنار فاشتعلت
…
ولم تقاتِل لدى أحجارها هَدَرُ
إن الرسول متى ينزل بساحتكم
…
يظعن وليس بها من أهلها بَشرُ
وقال أوس بن حجر يحلف باللات.
وباللات والعزّى ومن دانَ دينَها
…
وبالله إن الله منهن أكبر (1)
كان صنم اللات أعظم أصنام العرب شأنًا في نفوس ثقيف خاصة والعرب عامة، وكأننا قد مرَّت آلاف السنين والأعراب في الطائف يتوارثون تقديس وتعظيم هذا الصنم جيلًا بعد جيل، وكان وفد ثقيف الذي ذهب إلى المدينة برئاسة عبد ياليل يعرف ما لهذا الصنم الطاغية من منزلة في نفوسِ ثقيف الذين قتلوا سيدهم عروة بن مسعود لأنه عندما عاد من المدينة مسلمًا لم يحلق رأسه عند هذا الصنم كما هي عادتهم، بل رفع شعار التوحيد وهو الأذان.
وحتى بعد أن أسلم رجال الوفد في المدينة وحسن إسلامهم فقد كانوا يتصورون الصعوبات التي سيلاقونها لإِقناع قومهم باعتزال الصنم اللات والقبول بتحطيمها كشرط أساسى لصحة إسلامهم.
لهذا كان وفد المفاوضة من ثقيف (وهو يفاوض الرسول صلى الله عليه وسلم للدخول في الإِسلام) أفصح عن تخوّفه من التحطيم الفورى للطاغية (اللات) وكان هذا التخوّف ناتجًا عَمَّا يتوقعونه من النقمة التي سيتعَرضون لها من جماهير ثقيف
(1) كتاب الأصنام ص 17.
إن هم رأوا زعماءهم من رجال الوفد، يعودون من المدينة وهم يحملون مشروع تحطيم اللات التي ظلت إلهًا عبر آلاف السنين.
لذا طلب عبد ياليل وبقية أعضاء وفده، طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يسمح ببقاء (اللات) ويتجاوز عن بقائها لمدة ثلاث سنوات، على أساس أن يسعى زعماء ثقيف خلالها للتطمين من نفار نفوس الثقفيين وترويضها حتى يدخلوا في الإسلام ويرضوا (بدون متاعب) بتحطيم (اللات) صنمهم الأكبر.
غير أن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي ما جاء إلا لمحو كل أثر من آثار الوثنية رفض طلب الوفد الثقفى وأصر (إقامة للتوحيد) على أن يهدم صنم اللات في الحال وبمجرد التمكن من هدمه، لأن بقاء هذا الصنم يبقى ما له من تقديس في نفوس جاهير ثقيف، وهذا لا يساعد على نشر الإِسلام بينهم، بل على العكس يشكل عائقًا كبيرا في هذا السبيل.
ولأن السماح (من جهة أخرى) ببقاء هذا الصنم مع وجود سلطان الإسلام على ثقيف، يعني موافقة الرسول صلى الله عليه وسلم على أن تمارس طقوس الشرك إلى جانب قيام التوحيد، وهو تناقض ترفضه طبيعة الإِسلام وأبى القبول به الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في أشد أيام محنته عندما كان بمكة قبل الهجرة في قلة قليلة جدًّا من أصحابه، وعندما لم تكن له أية قوة عسكرية تقف إلى جانبه، فكيف يوافق (إذن) علي هذا التناقض وقد دانت كل الجزيرة العربية وأصبحت كلها عسكرًا للتوحيد.
لهذا رفض الرسول صلى الله عليه وسلم السماح ببقاء اللات، وأصر على أن أول عمل يجب أن يتم عند عودة وفد ثقيف إلى الطائف هو تحطيم صنم (اللات) فلم يسع الوفد الثقفى (وقد دان بالإسلام إلا أن يوافق على ذلك).
إلا أن رجال الوفد الثقفى تقدموا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بالتماس يطلبون فيه إعفاءهم من أن يحطموا صنم اللات وبقية الأصنام بأيديهم، ولما لم يكن في تحقيق هذا الطلب أي أثر صار على دعوة التوحيد أو على إسلام رجال الوفد، فقد وافق الرسول صلى الله عليه وسلم الوفد الثقفي على التماسهم قائلًا: (أما كسر أوثانكم
بأيديكم فسنعفيكم منه (1)، وقال أنا آمر أصحابي أن يكسروها).
وقد عاد الوفد الثقفى إلى الطائف، بعد أن أعلنوا دخول ثقيف في الإِسلام، أما مهمة تحطيم اللات وبقية أصنام ثقيف فقد أوكلها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أبي سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة الثقفى، وقد توجه أبو سفيان والمغيرة إلى الطائف لتنفيذ أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم بشأن هدم الطاغية اللات وبقية الأصنام.
وعندما وصلا الطائف طلب المغيرة من أبي سفيان أن يتقدم ويشرع في هدم (اللات) ولكنَّ أبا سفيان -وقد علم ما أصاب عروة بن مسعود على يد قومه حين قتلوه لما لم يقدّس اللات- طلب هو من المغيرة أن يبدأ هو الهدم قائلًا: (ادخل على قومك أنت (2)) فاتجه المغيرة بنفسه إلى صنم قومه اللات يصحبه بضعة عشر رجلًا، ليتولى نسف اللات وما حولها من أبنية تابعة لها، فوجد المغيرة حشدًا كبيرًا من عامة ثقيف حول صنم (اللات)، ولكنهم عندما شرع الغيرة في هدم اللات، لم يبدوا أية مقاومة مسلحة، إلا أن بني معتّب من ثقيف (قوم المغيرة) حاولوا إقناعه بعدم توريط نفسه في هدم اللات، فنصحوه بأن لا يُقدِم على الهدم خوفًا عليه (بزعمهم) من أن يُصيبه مكروه من ذلك الصنم، لما بقى في نفوسهم من رواسب الاعتقاد الجاهلى في هذا الصنم.
إلا أن المغيرة (وهو المكين في الإِسلام) سخر من تحذير قومه السخيف، ثم حمل المعول -أمام الجماهير المحتشدة- وتسلق- بناية صنمهم (اللات) حتى بلغ رأسه والعامة لا تشك- لما في نفوسهم من اعتقاد وثنى في اللات- في أن اللات ستدافع عن نفسها، فتطيح بالمغيرة وتقضى كل حياته، إلا أن شيئًا من ذلك لم يحدث، فقد أخذ المشاهدون ينظرون إلى المغيرة بن شعبة في ذهول، وهو يضرب ذلك الصنم الذي يُعبَدُ من دون الله في الطائف آلاف السنين، فيهدمه حجرًا حجرًا، حتى أتى عليه من القواعد دون أن يناله أىُّ مكروه.
(1) سيرة ابن هشام ج 4 ص 185 ومغازي الواقدي ج 3 ص 968.
(2)
مغازي الواقدي ج 3 ص 971.