الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أهم أسباب انتصار المسلمين بعد انهزامهم:
أ- ثبات الرسول صلى الله عليه وسلم:
يأتي (دونما شك) وفي الدرجة الأولى، من أسباب انتصار المسلمين الساحق بعد هزيمتهم المنكرة في حنين: يأتي في الدرجة الأولى، ثبات الرسول صلى الله عليه وسلم عند الهزيمة، حيث انحاز في الميدان إلى مكان مناسب وثبت فيه، وصار يناشد المنهزمين ليعودوا إلى ميدان الشرف وينضمُّوا إليه.
الأمر الذي جعل هزيمة المسلمين غير شاملة، بعد أن كادت تكون كاملة ومدمرة وساحقة، فقد انتاب المنهزمين (وخاصة الأنصار) الخجل من أنفسهم، عندما علموا أن نبيهم وقائدهها الأعلى ثابت في الميدان يقاتل المشركين مقبلًا غير مدبر، فعادوا إلى الميدان وأعادوا تشكيل وحداتهم كلها من جديد وشرعوا بقيادة نبيِّهم صلى الله عليه وسلم في القيام بهجوم مضاد كاسح جديد، فضيَّعتْ عودتهم إلى الميدان ثمرة الانتصار التي كاد أن يقطفها قائد هوازن وملكها الداهية.
وهذه حقيقة واقعة يقرها -في كل عصر وزمان- المختصون بدراسة الشؤون العسكرية. فثبات القائد العام وهيئة أركان حربه، عندما يتعرّض الجيش لهزة عنيفة أو هزيمة، يكون له أحسن النتائج في تصحيح الأوضاع على الأقل، وتحويل الهزيمة إلى نصر مؤزر، وهذا ما حدث بالفعل للجيش النبوي بسبب ثبات قيادته، حين عاد هذا الجيش المنهزم والتف من جديد حول قائده الأعلى النبي صلى الله عليه وسلم الذي بثباته يوم حنين ضرب أروع الأمثلة في الشجاعة والاستبسال.
ولا غرو، فتاريخ الرسول العسكري قبل حنين وبعدها، هو من أروع الصفحات في تاريخ العسكريين الشجعان، فما تعرّض المسلمون لروع أو فزع إلا وكان الرسول صلى الله عليه وسلم في مقدمتهم أثبت من الرواسى، يحميهم ويثبّت من أفئدتهم، فكانوا يلوذون به عندما تدلهمُّ الخطوب، ولقد وصف هذه الحقيقة الناصعة البراء بن عازب حين قال: ولقد كنا، إذا حمى البأس، نتقى برسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه الشجاع الذي يحاذى به (1).
(1) البداية والنهاية ج 4 ص 328.
وهزيمة المسلمين في حنين ليست أول هزيمة منكرة تنزل بالمسلمين، فيكون ثبات الرسول صلى الله عليه وسلم العامل الرئيسى والأول في إنقاذ الموقف وتجنُّب عواقب الهزيمة الوخيمة بإعادة المسلمين إلى الميدان، ومقاتلتهم العدو، بعد أن فرُّوا أمامه.
ففي معركة أُحد نزلت بالمسلمين (كما حدث في حنين) هزيمة مروِّعة، ووصلت طلائع المنهزمين منهم أطراف المدينة، ولكن ما أن علموا بثبات نبيهم وقائدهم الأعلى النبي صلى الله عليه وسلم في مكانه من الميدان حتى كرّوا راجعين للتجمع حوله، ومن أجل تحقيق هذا الغرض اشتبكوا مع طوابير المشركين المحيطة به في قتال شرس ضار، فقدوا أثناءه سبعين من خيرة رجالهم، ولكن ذلك -بفضل الله ثم بفضل ثبات نبيهم ساعة الهزيمة- مما أعاد لهم السيطرة على مكان المعركة في أُحد، فامتنعوا بسيوفهم وضيّعوا على قريش النصر الذي يسرته لهم غلطة فصيلة الرُّماة المسلمين، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم نصر قريش نصرًا تعبويًا محدودًا، بعد أن كاد أن يكون سَوَقيًا (1) له آثاره المدمرة على مصير المسلمين.
فلولا ثبات الرسول صلى الله عليه وسلم ساعة انكسار المسلمين يوم أحد لكانت هزيمتهم كاملة شاملة، وعندما تصبح هزيمتهم هكذا فإنه من السهل على قائد جيش مكة أبي سفيان أن يحتل المدينة، وبهذا يكون نصر المشركين في أُحد نصرًا سَوَقيًا شاملًا لا نصرًا تعبويًا محدودًا.
ونفس الشيء فعله الرسول صلى الله عليه وسلم في حنين .. فقد انتصرت هوازن في الصفحة الأولى من المعركة انتصارًا كاد يكون انتصارًا سَوَقيًا كاملًا شاملًا مدمرًا، لولا ثبات الرسول صلى الله عليه وسلم مكانه في الميدان منذ اللحظة الأولى التي تعرض فيها جيشه لتلك الهزيمة المزلزلة.
فكانت ثمرة ثبات سيد الشجعان الرسول القائد صلى الله عليه وسلم، حصر انتصار هوازن بجعله (فقط) تعبويًا محدودًا غير ذي أثر مصيرى، حيث كان ثباته
(1) الفرق بين الانتصار التعبوى والسوقى، هو أن الانتصار التعبوى محدود في موضع محدود لوقت محدد، لا أثر له مصيري، أما الانتصار السوقى قله أثره الحاسم في نتائج المعركة كأن يحقق المنتصر أهدافه كلها.
- صلى الله عليه وسلم السبب الرئيسى في عودة أصحابه إلى الميدان، هذه العودة المحمودة التي قلبت موازين القوى في المعركة لصالح المسلمين.
غير أن مما تجدر الإشارة إليه أن الوضع المتحرّج الذي عالجه الرسول القائد صلى الله عليه وسلم بثباته وشجاعته يوم حنين يختلف عن الوضع الخطر الذي عالجه بثباته وشجاعته يوم أُحد من حيث النتائج النهائية لكل من المعركتين.
في معركة أحد كانت مكاسب الرسول صلى الله عليه وسلم ساعة انهزام أصحابه:
1 -
حرمان المشركين من توسيع انتصارهم حيث كان ذلك الثبات سببًا في حصر ذلك الانتصار في دائرة الانتصار التعبوى الضيق الذي يتمثل (فقط) في تمكن المشركين مِنْ قتل سبعين من الصحابة رضي الله عنهم مع إصابة الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه بجراحات بليغة.
2 -
إجبار قريش على الاكتفاء بما حققت من نصر تعبوى محدود ورضاها من الغنيمة بالإياب حيث انسحبت من الميدان وتركته تحت سيطرة المسلمين، مخلفة فيه أربعة وعشرين قتيلًا من جيشها، الذي انهزم ثم انتصر نتيجة غلطة حماة مؤخرة المسلمين وهم الرماة الذين وضعهم القائد الأعلى النبي في الجبل الذي يشرف على ميدان القتال، ولكن قريشًا عندما عاد المسلمون إلى الميدان بعد هزيمتهم المنكرة -لم تتعرض لأية هزيمة نتيجة انتصار سَوَقى حققه المسلمون بعد رجوعهم إلى الميدان، فقد انسحبت قريش إلى بلادها من الميدان بقواتها سليمة ما عدا 24 قتيلا فقدتهم مقابل 70 فقدهم المسلمون.
أ- أما مكاسب المسلمين من ثبات الرسول صلى الله عليه وسلم يوم حنين فقد كانت أعظم، ذلك أن ثبات الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقتصر على أن كان سببًا في حصر انتصار هوازن عند الصدمة الأولى في دائرة الانتصار التعبوى، بل جعل هذا الانتصار التعبوى المحدود يتحول إلى انتصار سَوَقى كامل للمسلمين الذين نزلوا بهوازن هزيمة كاملة شاملة لم تقم للمشركين بعدها قائمة.
فعندما عاد المسلمون إلى الميدان في حنين لم يكتفوا بتجميع صفوفهم وإعادة تنطيمهم ومنع هوازن من تحقيق مزيد من الانتصارات كما حدث في
أحد، بل قاموا بهجوم معاكس قوى صاعق، كانت نتيجته انهزام جند هوازن المشركين انهزامًا مروّعًا شاملًا ونهائيًا، تمثل في فرار جند هوازن وتركهم نساءهم وأموالهم وأطفالهم في الميدان غنيمة للمسلمين.
ب- تسبب ثبات الرسول صلى الله عليه وسلم في تماسك مائة من صفوة أصحابه يوم حنين، وكان لثبات هذه المائة أحسن الأثر في تخفيف هزيمة المسلمين، حيث شكل هؤلاء المائة بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم -ساعة اشتداد النكبة- قوة حماية، حمت إلى حد كبير ساقة (مؤخرة) المسلمين المنهزمين، حيث قاد الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه المائة هجومًا عنيفًا مضادًا على عناصر هوازن التي كانت تشكل مقدمتهم لمطاردة المسلمين، فاستبسل الرسول صلى الله عليه وسلم والصفوة المائة من أصحابه في هذا الهجوم المضاد حتى أنزلوا ببعض وحدات هوازن خسائر فادحة، بدليل أن المنهزمين المسلمين لم يعودوا إلى الميدان من جديد إلا والأسرى من مشركي هوازن موثقين في الحبال بين يدي الرسول القائد صلى الله عليه وسلم.
ج - كان ثبات الرسول صلى الله عليه وسلم والمائة الصابرة من أصحابه ثم هجومهم المضاد على الوحدات المطاردة من هوازن -ساعة النكبة- عاملا رئيسيًا في انخفاض زخم هجوم هوازن الذي بدأته الكمائن، حيث من المرجح أن هوازن ظنت (لِمَا تعرَّضت مقدمتها له من هجوم قوى مضاد من الرتل الصغير الذي قاده الرسول صلى الله عليه وسلم أن جند الإسلام كله لم ينهزم، الأمر الذي خفف حدة هجوم هوازن الصاعق (بعض الشيء) فيسر ذلك إلى حد كبير- مهمة عودة الجيش الإِسلامي إلى الميدان، والذي كان في واقعه قد انهزم بأكمله عند الصدمة الأولى مع الفجر.
د - كذلك كان دور العباس بن عبد المطلب (عم الرسول صلى الله عليه وسلم وكان من المائة الثابتة) دورًا مهمًا فعالًا في إعادة المنهزمين، حيث قام (وبأسلوب يدل على الشجاعة) قام حسب أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وبصوته الجهورى الذي يسمع عبر عدة أميال- بإبلاغ المسلمين المنهزمين الحقيقة الرائعة التي ما كان الكثير منهم يتوقعها، وهي أن القائد صلى الله عليه وسلم ثابت مكانه في الميدان يجالد المشركين بسيفه، ثم ناشدهم (وخاصة الأنصار) أن يعودوا إلى الميدان.
فكان لسماع مناشدة الرسول القائد صلى الله عليه وسلم المنهزمين -عبر صوت عمه
العباس- أحسن الأَثر في تقوية روحهم المنهارة، وفي إثارة الشعور بالخجل من أنفسهم، حين أدركوا أنهم فروا وتركوا نبيهم والأحب إليهم من أنفسهم وأبنائهم وحيدًا في الميدان، فعطفوا راجعين، ثم تحوَّلوا إلى إعصار كاسح، عصف بهوازن وآلافها العشرين، حتى بعثروها بحنق وغيظ كما تبعثر العاصفة الورق اليابس.
فلولا سماع المنهزمين المسلمين صوت العباس يبلغهم ثبات نبيهم صلى الله عليه وسلم ويناشدهم باسمه العودة إلى ميدان القتال، لكانت هزيمتهم هزيمة ساحقة كاملة، ولتطور انتصار هوازن من انتصار تعبوى محدود إلى انتصار سَوَقى شامل قد تبيد فيه هوازن أكثر القوات الإسلامية المنهزمة.
وهكذا فأساس انتصار المسلمين الساحق بعد هزيمتهم المروِّعة وسببه الرئيسى هو ثبات سيد الشجعان وأشرفي الخلق محمد صلى الله عليه وسلم وبتلك الشجاعة التي لا مثيل لها.
هـ- العقيدة .. مما لا جدال ولا خلاف بين خبراء الحروب، أن العقيدة للجندى في أية حرب يخوضها، هي أكبر مصدر لقوته المعنوية التي هي أولى وأهم أسلحة الجندى المحارب.
والمسلمون الحقيقيون. ومنذ سطع نور الإِسلام- وهم يجعلون الحفاظ على عقيدتهم في المقام الأول، ولعله من تحصيل الحاصل وتكرار القول، التصريح بأن عقيدة الإِسلام كانت في مقدمة العوامل التي حققت لقوات محمد صلى الله عليه وسلم النصر الكامل في حنين.
ولقد رأينا كيف انتصر المسلمون في حروبهم التاريخية بعقيدتهم على أعداء يتفوقون عليهم في كل شيء مادى .. انتصروا لا في العهد النبوي داخل الجزيرة فحسب، بل وخارجها .. انتصروا انتصارات لا يكاد العقل يصدقها، وذلك عندما كانوا يحملون عقيدة التوحيد الراسخة التي يعتقدون أن الموت في سبيل الدفاع عنها وحمايتها أسمى ما يتوق إليه المسلم الصادق .. هذه حقيقة أكدها واعترف بها الباحثون حتى من غير المسلمين.
ولا أدل على هذه الحقيقة من أن المسلمين -بعد أن ضعفت في نفوسهم