الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
- 4 -
حملة عُرنَة: أواخر رمضان سنة ثمان للهجرة:
وعرنة هو الوادي المشهور اليوم بحذاء عرفات، وليس منها، وفي هذا الوادي ألقى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في طريقه إلى عرفات - خطبته المشهورة بخطبة حجة الوداع.
وكان سكان عرنة عند ظهور الإسلام بطنا من هُذيل، شديدى العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا في السنة الرابعة من الهجرة قد حشدوا جيشًا في عرنة يقصدون به غزو النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة.
إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل أحد الفدائيين من أصحابه وهو عبد الله بن أنيس الجهني، ففتك (في عرنة) بقائد الجيش خالد بن سفيان الهذلى. ففشل غزو هذيل إذ ألغوا مخطط الغزو بعد مصرع قائدهم (1).
أما القوة التي تحركت من مكة إلى عرنة في السنة الثامنة من الهجرة عقيب الفتح فقد كانت مكونة من ثلاثمائة مقاتل، أعطى النبي صلى الله عليه وسلم قيادتهم لخالد بن سعيد بن العاص (2)، لإنهاء الوجود الوثنى في عرنة، غير أن أحدًا من المؤرخين كذلك (فيما وصل إلى علمنا) لم يعط أية تفاصيل عن عمليات القوة العسكرية التي قادها خالد بن سعيد بن العاص إلى عرنة .. إلا أنه مما لا جدال فيه أنها موجهة إلى قبيلة هذيل التي بقى الكثير منهم على الوثنية عقب فتح مكة، والتي موطنها (عرنة) التي وجهت إليها الحملة.
- 5 -
غزوة بني جذيمة (3)، أواخر شهر رمضان سنة ثمان للهجرة:
ومن أهم الأحداث العسكرية التي حدثت بعد فتح مكة وقبل غزوة
(1) انظر كتابنا (غزوة الأحزاب) ص 30.
(2)
انظر ترجمة خالد بن سعيد فيما يأتي من هذا الكتاب.
(3)
جذيمة. بطن من كنانة، وهم بنو جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة. كانوا يسكنون =
حنين. تلك الوقعة التي أوقع فيها خالد بن الوليد ببنى جذيمة، وتعرض فيها للوم من رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب خطأ وقع فيه لم يكن عن سوء نية منه. حيث قتل مجموعة من بني جذيمة وهم مسلمون ظنًّا منه أنهم لا يزالون مشركين.
وتفصيل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كلف خالدًا بن الوليد قائد الفرقة الرابعة التي تولت الزحف على مكة من جنوبيها كلفه بالتوجه إلى ديار بني جذيمة داعيًا إلى الإِسلام، ولم يبعثه مقاتلًا (1).
فقد ذكر المؤرخون أن النبي صلى الله عليه وسلم عقد لخالد بن الوليد لواء القيادة على ثلاثمائة وخمسين رجلًا من المجاهدين والأنصار وبنى سليم. وبعثه من مكة إلى بني جذيمة أسفل مكة.
وكان خالد (كقائد عسكرى حازم) معروفًا بسرعة اتخاذ القرارات وسرعة تنفيذها .. ونتيجة ذلك تسرع في أمور (مجتهدًا) فارتكب أعمالًا تبرأ منها الرسول صلى الله عليه وسلم وغضب لها على خالد، وذلك أنه (باجتهاد منه) أمر رجاله بأت يعدموا بعض الأسرى من بني جذيمة الذين اتضح أنهم مسلمون وليسوا مشركين. ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم عقب التحقيق الذي أجراه مع خالد رضي الله عنه بعد أن استغفر له ثم دفع ديات القتلى من بني جذيمة. لأنهم مسلمون ولأن قتلهم كان عن طريق الخطأ في الاجتهاد من القائد المسؤول خالد بن الوليد.
قال الواقدي: لما رجع خالد بن الوليد من هدم العزى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مقيم بمكة، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني جذيمة، وبعثه داعيًا لهم إلى الإسلام ولم يبعثه مقاتلًا فخرج في المسلمين من المجاهدين والأنصار وبنى سليم، فكانوا ثلاثمائة وخمسين رجلًا، فانتهى إليهم بأسفل مكة، فقيل لبنى جذيمة هذا خالد بن الوليد معه المسلمون. قالوا: ونحن قوم مسلمون، قد صلينا وصدقنا بمحمد، وبنينا المساجد وأذنا فيها. فانتهى إليهم خالد وقال:
= الغميصا (معجم قبائل العرب) ج 1 ص 176.
(1)
مغازي الواقدي ج 3 ص 875.
الإِسلام. فقالوا: نحن مسلمون. قال: فما بال السلاح عليكم؟ قالوا: إن بيننا وبين قوم من العرب عداوة فخفنا أن تكونوا هم. فأخذنا السلاح لكى ندفع عن أنفسنا من خالف دين الإِسلام. قال: فضعوا السلاح فقال لهم رجل منهم يقال له جحدم: يا بني جذيمة، إنه والله خالد وما يطلب محمد من أحد أكثر من أن يقر بالإِسلام، ومخن مقرون بالإسلام، وهو خالد لا يريد بنا ما يراد بالمسلمين، وأنه ما يقدر مع السلاح إلا الإِسار، ثم بعد الإِسار السيف .. قالوا نذكرك الله، تسومنا. فأبى يلقى سيفه حتى كلموه جميعًا، فألقى سيفه وقالوا: إنا مسلمون والناس قد أسلموا، وفتح محمد مكة، فما نخاف من خالد؟ فقال: أما والله ليأخدنكم بما تعلمون من الأحقاد القديمة. فوضع القوم السلاح، ثم قال لهم خالد: استأسروا. فقال جحدم: يا قوم ما يريد من قوم مسلمين يستأسرون. إنما يريد ما يريد، فقد خالفتموني وعصيتم أمرى، وهو والله السيف، فاستأسر القوم، فأمر بعضهم يكتِّف بعضًا، فلما كتفوا دفع إلى كل رجل من المسلمين الرجل والرجلين، وباتوا في وثاق، فكانوا إذا جاء وقت الصلاة يكلمون المسلمين فيصلون ثم يربطون، فلما كان في السحر، والمسلمون قد اختلطوا بينهم، فقائل يقول: ما نريد بأسرهم، نذهب بهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقائل يقول: ننظر هل يسمعون أو يطيعون، ونبلوهم ونخبرهم، والناس على هذين القولين، فلما كان في السحر نادى خالد بن الوليد: من كان معه أسير فليذافِّه - والمذافة الإجهاز عليه بالسيف - فأما بنو سليم فقتلوا كل من كان في أيديهم، وأما المهاجرون والأنصار فأرسلوا (أطلقوا) أساراهم.
وقد جرت مشادة بين القائد خالد بن الوليد وأحد كبار الأنصار - أبو أسيد الساعدى -، حين غضب خالد إذ أطلق الأنصار والمهاجرون أسراهم ولم يعدموهم. فقال أبو أسيد: اتق الله يا خالد والله ما كنا لنقتل قومًا مسلمين. قال خالد: وما يدريك؟ قال (أبو أسيد): نسمع إقرارهم بالإِسلام، وهذه المساجد بساحتهم.
وعند عودة خالد من ديار جذيمة - بعد الذي فعل - لامه كبار الصحابة، عبد الرحمن بن عوف وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان، وكان
يدافع عن نفسه مبررًا ما صنع.
إلا أن عمر بن الخطاب استطاع أن يكشف له أنه قد أخطأ في تصرفه، فاعترف خالد وطلب من عمر أن يذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويطلب منه أن يستغفر له.
فقد قال عمر لخالد وهو يناقشه في الأمر-: ويحك يا خالد أخذت بني جذيمة بالذي كان من الجاهلية، أو ليس الإِسلام قد محا ما كان قبله في الجاهلية؟ فقال: يا أبا حفص، ما أخذتهم إلا بالحق، أغرت على قوم مشركين وامتنعوا فلم يكن لي بد من قتالهم إذ امتنعوا فأسرتهم، ثم حملتهم على السيف. فقال عمر أيُّ رجل تعلم عبد الله بن عمر؟ قال أعلمه والله رجلًا صالحًا، قال فهو أخبرني غير الذي أخبرتنى وكان معك في ذلك الجيش. قل خالد. فإني أستغفر الله وأتوب إليه. قال: فانكسر عنه عمر، وقال: ويحك إيت رسول الله يستغفر لك (1).
قالوا: فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنع خالد رفع يديه حتى رؤى بياض إبطيه، وهو يقول: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد، وقدم خالد بن الوليد والنبي صلى الله عليه وسلم عاتب.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بعد الذي بلغه، وبعد ما أثبتت التحقيقات خطأ خالد فيما صنع، قرر أن يدفع ديات قتلى بني جذيمة الذين أعدمهم خالد باعتبار أن قتلهم كان خطأ، فاستدعى علي بن أبي طالب وأعطاه مالًا. فقال: انطلق إلى بني جذيمة واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك. فَدَلَّهم ما أصاب خالد بن الوليد.
فخرج على بذلك المال حتى جاءهم، فشرع في دفع ديات قتلاهم، فلم يكف المال الذي اصطحبه معه، فاستزاد من رسول الله مالًا جديدًا ليكمل دفع حقوق بني جذيمة، حيث بعث أبا رافع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يطلب منه مده بالمال فأجاب طلبه ودفع المال المطلوب إلى رافع، الذي عاد بدوره إلى على بديار بني جذيمة، فوَدَى (أي دفع دية) كل ما أصاب خالد حتى أنه
(1) مغازي الواقدي ج 3 ص 880 - 881.