الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذه المُخدِّرات كشارب الخَمْر، باعتبار أنَّها أشدُّ خُبثاً وضرراً من الخَمْر، واستحسن الشيعة الإماميَّة القول بإلحاق المُخدِّرات بالمُسْكِرات في وجوب الحدِّ ثمانين جَلْدَة، وأفتى بعض فقهاء مذهب الإمام أبي حنيفة بالحدِّ أيضاً.
وممَّا تقدَّم يتَّضح أنَّ هذا الخلاف قد ثار فيما إذا كانت المُخدِّرات تعتبر بذاتها خَمْراً يقام الحدُّ على متعاطيها مطلقاً، أم أنَّها تعتبر من قبيل الخَمْر عِلَّة، باعتبار أنَّها تُثبِّط العَقْل وتُورِث الضرر به وبالجسد، شأنها في ذلك شأن الخَمْر أو أشدُّ.
ولمَّا كانت الحدود مُسمَّاة من الشارع، والعقوبات عليها مقدَّرة كذلك، إمَّا بنصٍّ في القرآن الكريم، أو بقولٍ أو فعلٍ من الرسول صلى الله عليه وسلم، كان إيثار القول بدخول تعاطي المُخدِّرات في التعازير هو الأَوْلى والأحوط في العقوبة، باعتبار أنَّ الخَمْر تُطلَق عادةُ على الأشربة المُسْكِرة، وإذا دخل تعاطي المُخدِّرات ضمن المنكرات التي يُعاقَب عليها بالتعزير كان للسلطة المنوط بها التشريع تقنينُ ما تراه من عقوبات على الاتِّجار فيها أو تعاطيها تعزيزاً، ومن العقوبات المشروعة عقوبة الجَلْد باعتبارها أجدى في الرَّدْع والزَّجْر. والله سبحانه وتعالى أعلم.
[الفتاوى الإسلاميَّة من دار الإفتاء المصرية (10/ 3593 - 3594)]
* * *
تَحْرِيمُ كُلِّ مُسْكِر ومُفَتِّر
(906) السؤال: ما يقول سيِّدُنا وشيخُنا
…
في الزَّعفران والجَوْز الهِنْديِّ ونوعٍ من القَاتِ، هل [يحرُم] قياساً على الحشيشة بجامع التَّفتير؛ لنهي النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ وَمُفَتِّر
؟ وهل التَّفتير العِلَّةُ الجامِعَةُ بين الحَشيشَة والخَمْر، فإن حُكِمَ بتحريم ذلك فهل يَحرُم القليل وإن لم يُفتِّر كما تَحرُم القَطْرةُ
من الخَمْر وإن لم تُسْكِر؟ وهل يجوزُ بيعُه والانتفاع به في غير مَأْكولٍ؟ جزاكم الله خيراً، ونفع بعلومكم
…
الجواب: الحمد لله وحده، وصلاتُه وسلامُه على رسوله وآله، ورضي الله عن الصحابة الراشدين، والتابعين لهم بإحسان أجمعين -كثَّر الله فوائدكم، ونفع بعلومكم-.
…
إنَّ الذي قامت عليه الأدلَّةُ هو تحريمُ ما يَصْدُقُ عليه اسمُ المُسْكِر؛ لما في حديث ابن عمر أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ) أخرجه مسلمٌ وأحمدُ وأهلُ السُّنن، إلَّا ابن ماجه. وفي لفظٍ:(كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ) أخرجه مسلمٌ والدَّارقُطنيُّ.
وأخرجه الشيخان وأحمدُ عن أبي موسى أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: (كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ)، وأخرج أحمد ومسلم والنَّسائيُّ عن جابرٍ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قال:(كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ)، وأخرج أبو داود عن ابن عبَّاس عن النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قال:(كُلُّ مَخَمَّرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ).
وأخرج أحمدُ، والتِّرمذيُّ وصحَّحه، والنَّسائيُّ، وابنُ ماجَه، من حديث أبي هريرة عن النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قال:(كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ).
وأخرج ابن ماجه من حديث ابن مسعودٍ، وأخرج أحمد، وأبو داود، والتِّرمذيُّ وحسَّنه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَمَا أَسْكَرَ الفَرَقُ مِنْهُ فَمِلْءُ الكَفِّ مِنْهُ حَرَامٌ).
وأخرج أحمد، وأهل السُّنن، وابن حِبَّان في صحيحه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:(مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ)، وحسَّنه التِّرمذيُّ، ورجالُ إسناده ثقاتٌ.
وأخرج النَّسائيُّ، والبَزَّار، وابن
حِبَّان، والدَّارقطنيُّ عن سعد بن أبي وقَّاصٍ:(نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَلِيلِ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ).
وفي الباب عن عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه عند الدَّارقُطنيِّ، وعن ابن عمر -غير حديثه المُتقدِّم عند الطَّبرانيِّ-، وعن خَوَاتِ بن جُبَيرٍ عند الدَّارقطنيِّ والحاكم والطَّبرانيِّ، وعن عبد الله بن عمر عند الدَّارقُطنيِّ، وكُلُّها مُصرِّحَةٌ: بأنَّ (مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ).
وقد تقرَّر بهذا أنَّ الشارع لم يُحرِّم نوعاً خاصًّا من أنواع المُسْكِر دون نوعٍ، بل حَرَّمها على العموم، وسَمَّى كُلَّ ما يتَّصفُ بوصْف الإسْكار خَمْراً؛ فيتناول النصُّ القرآنيُّ -أعني قوله تعالى:{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90]- كُلَّ ما صَدُقَ عليه أنَّه مُسْكِرٌ؛ فيكون تحريمه ثابتاً بنصِّ الكتاب، وما تواتر من السُّنَّة.
ويؤيِّد هذا أنَّ جماعةً من أئمَّة اللُّغة جزموا بأنَّ الخَمْرَ إنَّما سُمِّيت خَمْراً لمُخامَرَتِها للعَقْل وسَتْرها له؛ منهم الدَّينَوَريُّ، والجَوهَريُّ، وابن الأَعرابيِّ، وصاحب (القاموس)، والرَّاغب في (مفردات القرآن)، وغيرهم، ولكنَّه وقع الخلاف: هل الخَمْرُ حقيقةٌ في عصير العِنَب فقط، ومجازٌ فيما عداه؟ أو هي حقيقةٌ في كُلِّ مُسْكِرٍ، أو في بعض المُسْكِرات دون بعض؟
قال الرَّاغب في (المفردات): سُمِّي الخَمْرُ لكَوْنِه خامِراً للعَقْل؛ أي ساتراً له، وهو عند بعض الناس: اسمٌ لكُلِّ مُسْكِرٍ، وعند بعضهم: المُتَّخَذُ من العِنَبِ خاصَّةً، وعن بعضهم: للمُتَّخَذِ من العِنَبِ والتَّمْرِ، وعند بعضهم: لغَيرِ المَطْبوخ. ثمَّ رجَّحَ أنَّ كُلَّ شيءٍ يَسْتُرُ العَقْل يُسمَّى خَمْراً. وبذلك جَزَمَ مَنْ قَدَّمنا ذِكْرَه من أئمَّة اللُّغة؛ قال في (القاموس): «الخَمْرُ ما أَسْكَرَ من
عصير العِنَبِ، أو عَامٌّ كالخَمْرَة». قال: «والعموم أصحُّ؛ لأنَّها حُرِّمت وما بالمدينة خَمْرُ عِنَبٍ، وما كان شرابهم إلَّا البُسْرُ والتَّمْرُ
…
». انتهى.
زعم الحنفيَّة في تسمية الخَمْر للمُعتَصَر من العِنَبِ حقيقةً ومجازاً في غيره وردُّ المؤلِّف عليهم
قال: وجزم ابن سِيدَه في (المُحْكَم) بأنَّ الخَمْرَ حقيقةً إنَّما هي العِنَبُ، وغيرها من المُسْكِرات يُسمَّى خَمْراً مجازاً. وحكى صاحبُ (فتح الباري) عن صاحب (الهداية) من الحنفيَّة أنَّ الخَمْرَ عندهم ما اخْتَمَر من ماء العِنَبِ إذا اشتدَّ. قال: وهو المعروف عند أهل اللُّغةِ وأهل العِلْم. قال: وقيل: اسمٌ لكُلِّ مُسْكِرٍ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(الخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَينِ)، ولأنَّه مُخامَرةُ العَقْل، وذلك موجودٌ في كُلِّ مُسْكِرٍ. قال: ولنا إطباقُ أهل اللُّغة على تخصيص الخَمْرِ بالعِنَبِ؛ ولهذا اشتُهِر استعمالُها فيه، ولأنَّ تحريم الخَمْرِ قطعيٌّ، وتحريم ما عدا المُتَّخَذِ من العِنَبِ ظَنِّيٌّ. قال: وإنَّما سُمِّي الخَمْر خَمْراً لتَخَمُّرِه لا لمُخامَرَةِ العَقْل. قال: ولا يُنافي ذلك كَوْنُ الاسم خاصًّا فيه؛ كما في النَّجْم، فإنَّه مُشتقٌّ من الظُّهور، ثمَّ هو خاصٌّ بالثُّريَّا اهـ.
قال الحافظ: والجواب عن الحُجَّة الأُولى: ثُبوت النَّقل عن بعض أهل اللُّغة بأنَّ غير المُتَّخَذ من العِنَب يُسمَّى خَمْراً.
وقال الخطَّابيُّ: زعم قومٌ أنَّ العَرَب لا تعرف الخَمْر إلَّا من العِنَب، فيقال لهم: إنَّ الصَّحابةَ الذين سَمُّوا غير المُتَّخَذ من العِنَب خَمْراً فُصحاءُ، فلِمَ لا يكون هذا الاسم صحيحاً لما أطلقوه؟ قال ابن عبد البرِّ: قال الكوفيُّون: الخَمْرُ من العِنَب؛ لقوله تعالى: {أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36]، قالوا: فدلَّ على أنَّ الخَمْرَ هو ما يُعتَصَر لا ما يُنبَذ، قال: ولا دليل فيه على
الحَصْرِ.
وقال أهل المدينة، وسائر أهل الحجاز، وأهل الحديث كُلُّهم: كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وحُكمه حُكم المُتَّخَذ من العِنَب.
ومن الحُجَّة لهم: أنَّ القرآنَ لمَّا نَزَلَ بتحريم الخَمْرِ، فَهِمَ الصَّحابةُ -وهم أهل اللِّسان- أنَّ كُلَّ شيءٍ يُسمَّى خَمْراً يدخل في النَّهي؛ فأراقوا المُتَّخَذَ من التَّمْر والرُطَب، ولم يَخُصُّوا ذلك بالمُتَّخَذ من العِنَب. وعلى تقدير التَّسليم؛ فإذا ثبت تسمية كُلِّ مُسْكِرٍ خَمْراً من الشَّارع، كان حقيقةً شرعيَّةً، وهي مُقدَّمةٌ على الحقيقة اللُّغويَّة، كما تقرَّر في الأصول.
والجواب عن قوله: إنَّ تحريمَ الخَمْرِ قطعيٌّ، وتحريم ما عدا المُتَّخَذِ من العِنَب ظنيٌّ: بأنَّ اختلاف مُشْتَرِكَيْنِ في الحُكْمِ في الغِلَظ لا يلزم منه افتراقهما في التَّسمية؛ كالزِّنا مثلاً؛ فإنَّه يَصدُقُ على مَنْ وَطِئَ أجنبيَّةً، وعلى مَنْ وَطِئَ امرأة جارِه، والثاني أغلظ من الأوَّل، كما ثبت في الحديث الصَّحيح أنَّ ذلك من أكبر الكبائر، وكذلك يَصدُق اسم الزِّنا على وَطْء المَحْرَم، وهي أغلظ من وَطْء من ليست كذلك.
وأيضاً: الأحكام الشرعيَّة لا يُشترَط فيها الأدلَّة القطعيَّة، ولا يلزم من القَطْع بتحريم المُتَّخَذ من العِنَب وعدم القَطْع بتحريم المُتَّخَذ من غيره أنْ لا يكون حَراماً، بل يُحْكَم بتحريمه إذا ثبت بطريقٍ ظَنِّيٍّ، فكذلك يُحكم بتسميته إذا ثبت بمثل تلك الطريق. وقد تقرَّر أنَّ اللُّغة ثبتت بالآحاد، وكذلك الأسماء الشَّرعيَّة.
وأمَّا قولُه: إنَّ الخَمْر إنَّما سُمِّي خَمْراً لتَخَمُّره لا لمُخامَرَة العَقْل؛ فهذا مع كونه مُخالفاً لأقوال أئمَّة اللُّغة -كما تقدَّم- هو أيضاً مُخالفٌ لما أسلفنا عنه صلى الله عليه وآله وسلم من الحُكْم على كُلِّ مُسْكِر بأنَّه خَمْرٌ، ومُخالفٌ لما أخرجه أحمد ومسلم وأهل السُّنن
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ: النَّخْلَةُ وَالعِنَبَةُ)، وما أخرجه الشيخان عن أنسٍ قال:(إنَّ الخَمْرَ حُرِّمَتْ وَالخَمْرُ يَوْمَئِذٍ البُسْرُ وَالتَّمْرُ)، وفي لفظٍ قال:(حُرِّمَتْ عَلَيْنَا حِينَ حُرِّمَتْ وَمَا نَجِدُ خَمْرَ الأَعْنَابِ إِلَّا قَلِيلًا، وَعَامَّةُ خَمْرِنَا البُسْرُ وَالتَّمْرُ) رواه البخاريُّ. وفي لفظٍ: (لَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ الَّتِي حَرَّمَ فِيهَا الخَمْرَ وَمَا في المَدِينَةِ شَرَابٌ إِلَّا مِنْ تَمْرٍ) أخرجه مسلم.
وأخرج البخاريُّ عن أنسٍ أيضاً قال: (كُنْتُ أَسْقِي أَبَا عُبَيْدَةَ [وَأَبَا طَلْحَةَ] وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ مِنْ [فَضِيخٍ] وَتَمْرٍ، فَجَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ: إِنَّ الخَمْرَ حُرِّمَتْ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: قُمْ يَا أَنَسُ فَأَهْرِقْهَا). وأخرج البخاريُّ عن ابن عمر قال: (نَزَلَ تَحْرِيمُ الخَمْرِ وَإِنَّ بِالمَدِينَةِ يَوْمَئِذٍ لَخَمْسَةُ أَشْرِبَةٍ مَا فِيهَا شَرَابُ العِنَبِ).
وأخرج الشيخان عن عمر أنَّه قال على منبر النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم: (أَمَّا بَعْدُ؛ أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ نَزَلَ تَحْرِيمُ الخَمْرِ، وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ: مِنَ العِنَبِ، وَالتَّمْرِ، وَالعَسَلِ، وَالحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالخَمْرُ مَا خَامَرَ العَقْلَ).
وأخرج أحمد وأبو داود والترمذيُّ وابن ماجه عن النُّعمان بن بَشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إِنَّ مِنَ الحِنْطَةِ خَمْراً، وَمِنَ الشَّعِيرِ خَمْراً، وَمِنَ الزَّبِيبِ خَمْراً، وَمِنَ التَّمْرِ خَمْراً، وَمِنَ العَسَلِ خَمْراً)، زاد أحمدُ وأبو داود:(وَأَنَا أَنْهَى عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ).
فإن قيل: هذه الإطلاقات لا تنافي أنْ يكون ما عدا عصير العِنَب من المُسْكِرات خَمْراً مجازاً.
فيقال: وأيُّ أمرٍ سوَّغ المصير إلى المجاز مع ثبوت إطلاق اسم الخَمْر على كُلِّ مُسْكِرٍ بنَقْل الجماهير من أئمَّة اللُّغة، وثبوت ذلك عنه صلى الله عليه وسلم، وعن
أصحابه، وجمهور أهل العلم، وقد تقرَّر أنَّ (الأصلُ في الإطلاق الحقيقةُ)، فما الذي نقل عن هذا الأصل وأوجب المصير إلى المجاز؟!
ولو سلَّمنا أنَّ ذلك إطلاقُ مجازٍ عند أهل اللُّغة، فلا نُسلِّم أنَّه مجازٌ عند الشَّارع وأهل الشَّرع، والحقائقُ الشرعيَّةُ مُقدَّمة.
وبالجملة؛ فالأدلَّة المتقدِّمة قد دلَّت على تحريم كلِّ مُسْكِرٍ، وذلك هو المطلوب؛ قال القُرطبيُّ: الأحاديث الواردة عن أنس وغيره على صحَّتها وكثرتها تُبطِل مذهب الكوفيِّين القائلين بأنَّ الخَمْر لا تكون إلَّا من العِنَب، وما كان من غيره لا يُسمَّى خَمْراً، ولا يتناوله اسم الخَمْر. وهو قولٌ مخالفٌ للُغة العَرَب والسُّنَّة الصَّحيحة وللصَّحابة؛ لأنَّهم لمَّا نزل تحريم الخَمْر فهموا من الأمر باجتناب الخَمْر تحريم كُلِّ مُسْكِر، ولم يُفرِّقوا بين ما اتُّخذ من العِنَب وبين ما يُتَّخذ من غيره، بل سوَّوا بينهما وحرَّموا كُلَّ مُسْكِر، ولم يتوقَّفوا ولا استفصلوا، ولم يُشكِل عليهم شيءٌ من ذلك، بل بادروا إلى إتلاف ما كان من غير عصير العِنَب، وهم أهل اللِّسان وبِلُغَتِهم نزل القرآن، فلو كان عندهم فيه تردُّد لتوقَّفوا عند الإراقة حتَّى يستكشفوا ويستفصلوا ويتحقَّقوا التحريم؛ لِمَا كان مُقَرَّراً عندهم من النهي عن إضاعة المال، فلمَّا لم يفعلوا ذلك، بل بادروا إلى الإتلاف، عَلِمْنا أنَّهم فهموا التَّحريم نصًّا؛ فصار القائل بالتفريق سالكاً مسلكاً غير سليم، ثمَّ انضاف إلى ذلك خُطبة عمر بما يوافقه، وهو مَنْ جَعَلَ اللهُ الحقَّ على لسانه وقلبه، وسَمِعَهُ الصَّحابة وغيرهم، فلم يُنقَل عن أحدٍ منهم إنكار ذلك.
قال: وإذا ثبت أنَّ كُلَّ ذلك يُسمَّى خَمْراً لَزِمَ تحريم قليله وكثيره، وقد ثبتت الأحاديث الصَّحيحة في ذلك، ثمَّ ذَكَرَها.
قال: وأمَّا الأحاديث التي تمسَّك بها المخالف عن الصَّحابة فلا يصحُّ منها شيءٌ على ما قال عبد الله بن المبارك وأحمد وغيرهما. وعلى تقدير ثبوت شيء منها؛ فهو محمولٌ على نقيع الزَّبيب والتَّمر من قبل أن يدخل حدَّ الإسْكار؛ جَمْعاً بين الأحاديث
…
انتهى.
قال ابن المنذر: قال إنَّ الخَمْر من العِنَب ومن غير العِنَب: عمر، وعليٌّ، وسعد، وابن عمر، وأبو موسى، وأبو هريرة، وابن عبَّاس، وعائشة.
ومن التابعين: ابن المُسيِّب، وعُرْوة، والحسن، وسعيد بن جُبَيْر، وآخرون.
قال: وهو قول مالك، والأَوْزاعِيِّ، والثَّوريِّ، وابن المبارك، والشَّافعيِّ، وأحمد، وإسحاق، وعامَّة أهل الحديث.
قال الحافظ في (فتح الباري): يمكن الجَمْع بأنَّ من أطلق الخَمْر على غير المُتَّخذ من العِنَب حقيقةً يكون أراد الحقيقة الشَّرعيَّة، ومن نفى أراد الحقيقة اللُّغويَّة. وقد أجاب بهذا ابن عبد البرِّ وقال: إنَّ الحُكْم إنَّما يتعلَّق بالاسم الشَّرعيِّ دون اللُّغويِّ. انتهى.
وأيضاً يقال: ما وقع من مبادرة الصَّحابة إلى إراقة ما لديهم من غير عصير العِنَب من المُسْكِرات وعدم استفصالهم عن ذلك، إمَّا لفهمهم أنَّ الخَمْر حقيقةٌ في الكُلِّ، أو يكون فِعْلُهم على تقدير أنَّه حقيقةٌ في البعض، مجازٌ في البعض، دليلاً على جواز استعمال اللَّفظ في جميع معانيه الحقيقيَّة والمَجازيَّة، لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قرَّرهم على ذلك ولم يُنْكِر عليهم؛ فجاز إطلاق الخَمْر على كُلِّ مُسْكِر بذلك، وهو المطلوب؛ فيكون تحريم كُلِّ مُسْكِر ثابتاً بنصِّ القرآن، كما هو ثابتٌ بنصِّ السُّنَّة كما تقدَّم.
وإذا تقرَّر لك هذا، وعرفت قيام الدَّليل على تحريم كلِّ مُسْكِر من غير تقييد؛ فاعلم أنَّ كُلَّ نوعٍ ثبتت له
خاصيَّة الإسْكَارِ فهو مُحرَّمٌ، من غير فرقٍ بين المائع والجامد، وما كان بعلاجٍ، وما كان بأصل الخِلْقَة. انتهى.
تعريفُ المُسْكِر والإسْكار لُغةً
والمُسْكِر: هو ما حصل به السُّكْر، والسُّكْر نقيض الصَّحْو؛ قال في (القاموس): سَكِرَ كفَرِحَ سُكْراً وسَكْراً وسَكَرَاناً؛ نَقيضُ صَحَا
…
انتهى.
وقد حقَّق معنى السُّكْر جماعةٌ من أهل العِلْم؛ فمنهم من قال: هو الطَّرَب والنَّشاة، ومنهم من قال: هو زوال الهموم وانكشاف السِّرِّ المكتوم، ومنهم من قال بغير ذلك ممَّا هو في الحقيقة راجعٌ إليه.
قال المحقِّق الشريف في (التعريفات): السُّكْر غَفْلةٌ تَعْرِضُ بغَلَبَة السُّرور على العَقْل؛ لمُباشَرَة ما يوجِبُها من الأَكْل والشُّرْب. والسُّكْر من الخَمْر عند أبي حنيفة: أنْ لا يَعْلَم الأرض من السَّماء، وعند أبي يوسف ومحمَّد والشَّافعيِّ: هو أنْ يختلِط كلامُه، وعند بعضهم: أن يختلِطَ في مَشْيِه بحركةٍ. انتهى.
وقال في (شرح الفتح) لابن حُمَيد: السُّكْر مُخامَرة العَقْل وتشويشه، مع حصول طَرَب وسُلُوٍّ مخصوصَيْن، قال: وإن لم يذهب إلَّا بعض علوم العَقْل، أو بعض المستعملين له دون بعض، فإنَّه لا يَخرُج بذلك عن كونه مُسْكِراً
…
انتهى.
فما كان يُؤثِّرُ أيَّ هذه التأثيرات -على الخلاف-، أو يُؤثِّرُها كُلَّها، ولو لم يحصل إلَّا باستعمال الكثير منه دون القليل، فهو حَرامٌ؛ لما سلف من الأدلَّة.
وإلى ذلك ذهب جمهور الصحابة والتابعين، والعِتْرةُ جميعاً، وأحمد وإسحاق والشافعيُّ ومالك.
قول من قال بحِلِّ ما دون المُسْكِر من غير عصير العِنَبِ والتَّمْر
وذهبَ النَّخَعِيُّ، والثَّوريُّ، وابن
أبي لَيْلَى، وشَريكٌ، وابن شُبْرُمة، وأبو حنيفة وأصحابه، وسائر الكوفيِّين، وأكثر عُلماء البصرة؛ إلى أنَّه يَحِلُّ دون المُسْكِر من غير عصير العِنَبِ والرُّطَبِ.
واستدلُّوا بما أخرجه البيهقيُّ في حديث عبد القَيْس أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قال لهم في النَّبيذ: (فإنِ اشْتَدَّ فَاكْسِرُوهُ بِالمَاءِ، فإنْ أَعْيَاكُمْ فَأَهْرِيقُوهُ).
وقال البيهقيُّ بعد إخراجه الروايات الثابتة عن وفد عبد القَيْس خاليةً عن هذه اللَّفظة: وأخرج نحو ذلك من حديث ابن عبَّاس، وفي ألفاظه أنَّه من قول ابن عبَّاس.
وأُخْرِج نحوه أيضاً عن عائشة من قولها، وفي إسناده مجهولٌ.
وأُخْرِج نحوه أيضاً عن أبي هريرة مرفوعاً نحوه، وهو من طريق عِكْرمة ابن عمَّار عن أبي كثير [السُّحَيْميِّ] عنه، وهو إسناد ضعيف؛ لأنَّ عكرمة اختلط.
وأُخْرِج أيضاً من حديث الكَلْبيِّ نحوه، والكَلْبيُّ متروكٌ.
وأُخْرِج نحوه أيضاً عن ابن عبَّاس من طريقٍ أُخرى، وفي إسنادها يزيدُ ابن أبي زياد، وهو ضعيفٌ لا يُحتجُّ به.
ونحوه من حديث ابن عمر، وفي إسناده عبد الملك بن نافع ابن أخي القَعْقَاع، قال يحيى بن مَعينٍ: هم يُضعِّفونه. وقال البخاريُّ: لم يُتابَع عليه. وقال النَّسائيُّ: لا يُحتجُّ بحديثه.
وكُلُّ ما في هذا الباب فلا يخلو من ضَعْفٍ؛ حتَّى قال إسحاق بن رَاهَوَيْه: سمعتُ عبد الله بن إدريس الكوفيَّ يقول: «قلتُ لأهل الكوفة: يا أهل الكوفة؛
…
إنَّما حديثكم الذي تحدِّثونه في النَّبيذ عن العُمْيان والعُوران، أين أنتم من أبناء المهاجرين والأنصار؟!».
وأيضاً هذه الأحاديث لا تدلُّ على مطلوبهم؛ فإنَّ كَسْرَ النَّبيذ لا يَتعيَّن أن يكون لأجل الشِّدَّةِ المستلزمة
للسُّكْر؛ فإنَّه قد يكون الكَسْر لاشتداد الحلاوة أو الحموضة، ومع الاحتمال لا تنتهض للاستدلال على فرض تجرُّده عن المُعارِض، فكيف إذا كان ذلك الضعيفُ معارَضاً بالأحاديث الصحيحة الكثيرة، والقاضية بأنَّ ما أَسْكَر كثيرُه فقليلُه حرامٌ -كما تقدَّم-؟! فإذا كان الكثير من الزَّعفران، والجَوْز الهِنْديِّ، ونوع من القَاتِ يبلُغ بمُستعمِلِه إلى السُكْر؛ حَرُمَ عليه قليلُه كما يَحرُمُ عليه كثيرُه، وإذا كان يؤثِّر ذلك التأثير مع بعض المُستعمِلِين له دون البعض الآخر، كان التَّحريم مُختصًّا بمن يحصل معه ذلك الأثر دون مَنْ عَدَاه.
فإن قيل: إنَّ هذه الأمور المذكورة إنَّما يحصل بها التَّفتير دون السُّكْر.
فيقال: إنْ بَلَغَ هذا التَّفتير إلى حدِّ السُكْر -كما يحصل من أَكْل الحَشيش وشُرْبِها- فلا نزاع في أنَّ ذلك من المُحرَّمات وإنْ لم يبلغ إلى ذلك الحدِّ، بل مُجرَّدُ التَّفتير؛ فقد ورد ما يدلُّ على تحريم كُلِّ مُفَتِّر؛ فأخرج أبو داود عن أمِّ سَلَمَة قالت:(نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم عَنْ كُلِّ مُسْكِر ومُفَتِّر). وهذا حديثٌ صالحٌ للاحتجاج به؛ لأنَّ أبا داود سكت عنه، وقد رُوِي عنه أنَّه لا يسكت إلَّا عمَّا هو صالحٌ للاحتجاج، وصرَّح بمثل ذلك جماعةٌ من الحُفَّاظ؛ كابن الصَّلاح، وزَيْن الدِّينِ، والنَّوويِّ، وغيرهم، وإذا [أردنا] الكَشْف عن حقيقة رجال إسناده؛ فليس فيهم من هو مُتكلَّمٌ عليه إلَّا شَهْر بن حَوْشَب، وقد اختَلَف في شأنه أئمَّة الجرح والتعديل؛ فوثَّقه الإمام أحمد ويحيى بن مَعِين، وهما إماما الجرح والتعديل، ما اجتمعا على توثيق رَجُلٍ إلَّا وكان ثقةً، ولا على تضعيف رَجُلٍ إلَّا وكان ضعيفاً، فأقلُّ أحوال حديث شَهْرٍ المذكور أن يكون حَسَناً، والترمذيُّ يُصحِّحُ حديثَه كما يعرف ذلك من له
ممارسةٌ لجامِعِه.
تعريفُ المُفَتِّر
قال ابن رَسْلان في (شرح السُّنَن): والمُفَتِّر -بضمِّ الميم وفتح الفاء وتشديد المُثنَّاة فوق المكسورة، ويجوز فتحُها، ويجوز تخفيف التاء مع الكسر-، وهو كُلُّ شَرابٍ يُورِثُ الفُتورَ والخَدَرَ في أطراف الأصابع، وهو مُقدِّمة السُّكْرِ
…
انتهى.
قال في (النِّهاية): المُفْتِر الذي إذا شُرِبَ أَحْمَى الجَسَدَ، وصار فيه فُتُورٌ، وهو ضَعْفٌ وانكسارٌ؛ يقال: أَفْتَرَ الرَّجُلُ فهو مُفْتَرٌ، إذا ضَعُفَتْ جُفُونُه وانكَسَرَ طَرْفُه، فإمَّا أنْ يكون أفْتَرَهُ بمعنى فَتَرَه؛ أي جَعَلَه فاتِراً، وإمَّا أنْ يكونَ أَفْتَرَ الشَّرابُ إذا [فَتَرَ شارِبُه]؛ كأَقْطَفَ الرَّجُلُ إذا قَطَفَت دابَّتُه.
ويقتضي هذا سكونَ الفاءِ، وكَسْرَ المُثنَّاة فوقُ مع التَّخفيف.
وقال الخَطَّابيُّ: المُفَتِّرُ: كُلُّ شَرابٍ يُورِثُ الفُتُورَ والخَدَرَ في الأعضاء.
قال في (القاموس): فَتَرَ يَفْتُرُ فُتُوراً وفُتَاراً: سَكَنَ بعدَ حِدَّة، وَلَانَ بعدَ شِدَّةٍ، وفَتَّرَهُ تَفْتِيراً. وفَتَرَ الماءُ: سَكَنَ حَرُّهُ؛ فهو فَاتِرٌ وفَاتُورٌ. وجِسْمُهُ فُتُوراً: لَانَتْ مَفاصِلُه وَضَعُفَ. والفَتَرُ مُحرَّكَةً: الضَّعْفُ، قال: والفُتَاُر كغُرابٍ: ابتداءُ النَّشْوَةِ. وطَرْفٌ فَاتِرٌ: ليس بِحَادِّ النَّظَرِ. قال: وَأَفْتَرَ: ضَعُفَتْ جُفُونُهُ، [فانْكَسَرَ] طَرْفُهُ. والشَّرابُ: فَتَرَ شَارِبُهُ. انتهى.
وعَطْفُ المُفَتِّر على المُسْكِر يدلُّ على أنَّه غيرُه؛ لأنَّ العطف يقتضي المُغايرة؛ قال ابن رَسْلان: فيجوز حَمْلُ المُسْكِر على الذي فيه شِدَّةٌ مُطْرِبَةٌ؛ وهو مُحرَّمٌ يجب فيه الحَدُّ، ويُحمَلُ المُفَتِّر على النَّبات؛ كالحشيش الذي يتعاطاه السَّفَلَة. وقد نقل الرَّافعيُّ والنَّوويُّ في باب الأطمعة عن الرُّويانيِّ أنَّ النبات الذي يُسْكِر وليس فيه شِدَّةٌ مُطْربَةٌ يَحرُم أَكْلُه، ولا
حَدَّ فيه.
حُكْمُ البَنْجِ والزَّعْفَرانِ والجَوْزِ الهِنْديِّ
قال ابنُ رَسْلان: يقال: إنَّ الزَّعفران يُسْكِر إذا استُعمِل مُفْرداً، بخلاف ما إذا استُهلِك في الطعام، وكذا البَنْج شُرْبُ القليل من مائه يُزيل العَقْل، وهو حَرامٌ إذا زال العَقْلُ، لكن لا حَدَّ فيه
…
انتهى.
وإذا ثبت أنَّ الزَّعفران مُسْكِرٌ إذا استُعمِل مُفْرداً -كما ذكره-؛ فيَحرُم استعماله مخلوطاً بغيره من الأطعمة وغيرها؛ لما تقدَّم أنَّ ما [أَسْكَر] كثيرُه فقليلُه حرامٌ، سواء كان مُفْرَداً أو مُختَلِطاً بغيره، وسواء كان يُقوِّي على الإسْكار بعد الخلط، أو لا يُقوِّي.
وأمَّا إذا لم يكن الزَّعفران ونحوه من جنس المُسْكِرات، بل من جنس المُفَتِّرات؛ فلا يَحرُم منه إلَّا ما وُجِد فيه ذلك المعنى؛ أعني التَّفتير بالعَقْل، ولا يَحرُم القليل منه، كما يُخلَط منه بين بعض الأطعمة؛ وذلك لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم حَرَّم المُفَتِّر، ولم يقل: ما أَفْتَرَ كثيرُه فقليلُه حرام. اللَّهُمَّ إلَّا أن يُقالَ: يَحْرُم قليل المُفَتِّر قياساً على قليل المُسْكِر؛ بجامع تحريم الكثير مِنْ كُلِّ واحدٍ منهما. ولكن هذا إنَّما يتمُّ بعد تصحيح هذا القياس، وعدم وجود فارقٍ يَقْدَح في صحَّته.
قال الإمام المهدي في (البحر) ما لفظه: وما أَسْكَر بأصل الخِلْقَة؛ كالحشيشة، والبَنْج، والجَوْزَة؛ فطاهرٌ، وعن بعضهم: نَجِسٌ. قلت: وهو القياسُ إنْ لم يَمْنَع إجماعٌ. انتهى
…
فهذا الكلام يدلُّ على أنَّ الأمور المذكورة مُسْكِرةٌ، وهكذا يدلُّ على ذلك قوله رحمه الله في (الأزهار): والمُسْكِر وإن طُبِخَ إلَّا الحشيشة والبَنْج ونحوهما. وفَسَّرَهُ شارحُه بالجَوْز الهِنْديَّ والقُرَيط، وظاهر الاستثناء من المُسْكِر أنَّ الحشيشة وما معها مُسْكِرةٌ.
وقال الجلال في (ضوء النَّهار):
إنَّه استثناءٌ منقطعٌ؛ لأنَّ المذكورات لا تُسْكِر، وإنَّما تُخَدِّر أو تُفَتِّر؛، لأنَّ السُّكْر عبارةٌ عن الطَّرَب المثير للنَّخْوَة، ولو كانت من السُّكْر لافتقر تَخصيصها إلى دليل شرعيٍّ. انتهى.
تحريمُ الحَشيشَة
قال الحافظ ابن حَجَرٍ -مُجيباً على من قال: إنَّ الحَشيشَةَ ليست بمُسْكِرةٍ بل مُخَدِّرة-: إنَّ ذلك مكابرةٌ؛ لأنَّها تُحدِثُ ما يُحدِثُ الخَمْرُ من الطَّرَبِ والنَّشاةِ
…
انتهى.
وعلى الجُملَة: إنَّه إذا سُلِّم أنَّها غير مُسْكِرةٍ فهي مُفَتِّرةٌ، وكُلُّ واحدٍ من الأمرين يقتضي تحريمها، وقد حَكَى الفِرْيابيُّ وابن تيمية الإجماع على تحريم الحشيشة، قال: ومن استحَلَّها فقد كَفَر. قالا: وإن لم يتكلَّم فيها الأئمَّة الأربعة؛ لأنَّها لم تكن في زمنهم، وإنَّما ظهرت في آخر المائة السادسة وأوَّل المائة السابعة، حين ظهرت دولة التَّتار.
وذكر ابن تيمية في كتاب (السياسة) أنَّ الحدَّ واجبٌ في الحشيشة كالخَمْر، وحَكَى الماورديُّ أنَّ النبات الذي فيه شِدَّةٌ مُطْرِبَةٌ يجب فيه الحَدُّ.
وقال ابن البِيطَار -وإليه انتهت الرِّياسة في معرفة خواصِّ النبات-: إنَّ الحشيشة مُسْكِرةٌ جدًّا، إذا تناول الإنسان منها قَدْرَ دِرْهمٍ أو دِرْهَمَين أخرجَتْهُ إلى حَدِّ الرُّعونة، وقد استعملها قومٌ فاختلَّت عُقولُهم.
وقال ابن دقيق العيد في الجَوْزَة: إنِّها مُسْكِرةٌ. ونقله عنه المتأخِّرون من الحنفيَّة والشافعيَّة والمالكيَّة واعتمدوه.
وذكر ابن القَسْطَلَّاني في (تكريم المعيشة) أنَّ الحشيشة مُلْحَقةٌ بجَوْزَة الطِّيب والزَّعفران والأَفْيون والبَنْج، وهذه من المُسْكِرات المُخدِّرات.
وقال الزَّرْكَشي: إنِّ هذه الأمور المذكورة تُؤثِّر في متعاطيها المعنى الذي يُدخِلُه في حَدِّ السَّكْران؛ فإنَّهم
قالوا: السَّكْران هو الذي اختلَّ كلامُه المنظوم، وانكشفَ سِرُّه المكتوم، وقال بعضهم: هو الذي لا يعرف السماء من الأرض. ثمَّ نُقِلَ عن الغزاليِّ الخلاف في ذلك.
قيل: والأَوْلَى أن يُقال: إنْ أُريد بالإسْكار تغطية العَقْل؛ فهذه كُلُّها صادقٌ عليها معنى الإسْكَار، وإن أُريد بالإسْكار تغطية العَقْل مع الطَّرَب فهي خارجةٌ عنه؛ فإنَّ إِسْكار الخَمْر يتولَّد منه النَّشاةُ والنَّشاطُ والطَّرَبُ والعَرْبَدَة والحَمِيَّة. والسَّكرانُ بالحشيشة ونحوها يكون ممَّا فيه ضِدُّ ذلك؛ فتقرَّر من هذا أنَّها تَحْرُم لمَضَرَّتها العَقْل، ودخولها في المُفَتِّر المنهيِّ عنه، ولا يجب الحدُّ على متعاطيها؛ لأنَّ قياسها على الخَمْر مع الفارق -وقد انتفى بعض الأوصاف- لا يصحُّ. كذا قيل.
والحاصل: أنَّ الحشيشة وما في حُكْمها ممَّا له عملُها، لا شكَّ ولا ريب في تحريمها؛ لأنَّها إن كانت من المُسْكِرات فهي داخلةٌ في عموم أدلَّة تحريم المُسْكِر، وقد عَرَفْتَ من جَزَم بأنَّها مُسْكِرةٌ، وإن كانت من المُفَتِّرات والمُخَدِّرات فهي مُحرَّمةٌ بالحديث المتقدِّم في تحريم كُلِّ مُفَتِّر، ولا يخرج عن هذين الأمرين أصلاً.
تعريفُ الخَدَر
والخَدَرُ ليس أمراً غير الفُتُور، بل هو فُتورٌ مع زيادة. قال في (القاموس): الخَدَرُ -بالتَّحريك-: امْذِلالٌ يغْشَى الأعضاءَ. خَدِرَ كفَرِحَ فهو خَدِرٌ، وفُتُورُ العَيْنِ أو ثِقَلٌ فيها مِنْ قَذًى .... انتهى. ومع هذا فقد عَرَفْتَ الإجماع على تحريمها بحكاية الإمامين الفِرْيابيِّ وابنِ تيمية، فلم يَبْقَ ارتيابٌ في التحريم ....
وقد سُقْنا في هذه الورقات من الأدلَّة ونصوص العُلماء الأكابر على مسألة السؤال ما فيه كفاية لمن له هداية.
فالزَّعفران والجَوْز الهِنْديُّ والأَفْيون ونحوها لاحِقَةٌ بالمُسْكِرات، إنْ صَحَّ قول من قال: إنَّها تُسْكِر ولو في حالٍ من الأحوال. وإنْ صَحَّ قول من قال: إنَّها مُفَتِّرةٌ؛ فهي أيضاً مُحرَّمةٌ لذلك؛ لما سَلَفَ؛ فهي مُشارِكَةٌ للمُسْكِر على أحد التَّقديرَيْن، وللمُفَتِّر على الآخر، وكُلُّ واحدٍ منهما يقتضي التحريم.
وإن لم يصحَّ فيها وَصْف الإِسْكار، ولا وَصْف التَّفْتير والتَّخْدير مُطلَقاً؛ فلا وَجْه للحُكْم بتحريمها. فمن أراد العثور على الحقيقة؛ فليسأل من له اختبارٌ عن التأثير الذي يحصل بالأمور المذكورة، وبعد ذلك يَحكُم على كُلِّ واحدٍ [منها] بما أودعناه في هذه الرسالة، وهذا إن لم يَكتَف بما نقلناه عن العُلماء في وصف تلك الأمور كما سَلَفَ.
وقد ثبت في الصَّحيح عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (الحَلَالُ بَيِّنٌ، وَالحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ، وَالمُؤْمِنُونَ وَقَّافُونَ عِنْدَ الشُّبُهَاتِ؛ فَمْنْ تَرَكَهَا فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِعِرْضِهِ وَدِينِهِ). وأقلُّ أحوال الجَوْز الهِنْديِّ وما ذُكِرَ معه أن يكون من الأمور المشتبهات، وثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال:(دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ)، صحَّحه ابن حِبَّان والحاكم والتِّرمذيُّ.
وقد حَكَى في (شرح الأثمار) عن الإمام شرف الدِّين أنَّ الجَوْز الهِنْديَّ والزَّعفران ونحوهما يَحرُمُ الكثير منه لأَضرارِه، لا لكونه مُسْكِراً، وكذلك القُرَيط؛ وهو الأفيون. انتهى.
حُكْمُ القَاتِ عند المُؤَلِّفِ، وتَفْنيدُه لما قال ابنُ حَجَرٍ فيه
قال: وأمَّا القات فقد أَكَلْتُ منه أنواعاً مختلفةً وأكثرتُ منها، فلم أجد لذلك أثراً في تفتير، ولا تخديرٍ، ولا تغيير، وقد وقَعَتْ فيه أبحاثٌ طويلة بين جماعةٍ من عُلماء اليمن عند أوَّل ظهوره، وبلغت تلك المذاكرةُ إلى عُلماء مكَّة، وكتب ابن حجرٍ الهيتميُّ
في ذلك رسالةً طويلة سمَّاها (تحذيرُ الثِّقاتِ مِنْ أَكْلِ الكُفْتَةِ وَالقَاتِ)، ووقفتُ عليها في أيَّامٍ سابقةٍ، فوجدتُه تكلَّم فيها بكلام من لا يعرف ماهيَّةَ القات.
وبالجملة؛ أنَّه إذا كان بعض أنواعِه تبلغ إلى حدِّ السُّكْر أو التَّفْتير من الأنواع التي لا نعرفها، تَوجَّه الحُكْمُ بتحريم ذلك النوع بخصوصه، وهكذا إذا كان يَضُرُّ بعض الطِّباع من دون إسْكارٍ وتَفْتيرٍ؛ حَرُمَ لإِضْراره، وإلَّا فالأصلُ الحلُّ، كما يدلُّ على ذلك عمومات القرآن والسُّنَّة.
وأمَّا قولكم: وهل يجوز بيعه؟
فالظاهر من الأدلَّة تحريم بيع كُلِّ شيءٍ انحصرت منفعته في مُحَرَّم لا يُقصَدُ به إلَّا ذلكَ المُحَرَّم، أو لم ينحصر، ولكنَّه كان الغالب الانتفاع به في مُحرَّم، أو لم يكن الغالب ذلك، ولكنَّه وقع البيعُ لقصد الانتفاع به في أمرٍ مُحرَّم، فما كان على أحد هذه الثلاث الصور كان بيعه مُحرَّماً، وما كان خارجاً عنها كان بيعه حلالاً.
ومن أدلَّة الصورة الأُولَى: أحاديث النهي عن بيع الخَمْر والمَيْتَة والخِنزير؛ لأنَّ هذه الأمور لا يُنتَفَع بها إلَّا في مُحرَّم، ولا يُتصوَّر الانتفاع بها في أمرٍ حلالٍ. ومن هذا القبيل الحشيشة؛ فإنَّ منفعتها مُنْحَصِرَةٌ في الحَرام.
ومن أدلَّة الصورة الثانية: ما أخرجه التِّرمذيُّ من حديث أبي أُمامَة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لَا تَبِيعُوا القَيْنَاتِ وَالمُغَنِّيَاتِ، وَلَا تَشْتَرُوهُنَّ، وَلَا تُعَلِّمُوهُنَّ، وَلَا خَيْرَ فِي تِجَارَةٍ فِيهِنَّ، وَثَمَنُهُنَّ حَرَامٌ). ومن المعلوم أنَّ منفعة القَيْنَات لم تَنْحَصِر في الحَرام، ولكن لمَّا كان الغالب الانتفاع بهنَّ في الحَرام، جَعَلَ الشَّارع حُكمَهُنَّ في تحريم البيع حُكْمَ ما لا يُنتفعُ به في غير الحَرام، تنزيلًا للأكثر منزلة الكُلِّ. ومن هذا القبيل البَنْج والجَوْز الهِنْديُّ، وما [شابههما].
ومن أدلَّة الصورة الثالثة: ما أخرجه الطَّبَرانيُّ في (الأوسط) بإسنادٍ حَسَّنه الحافظ ابن حجر، من حديث عبد الله بن بُرَيْدَة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (مَنْ حَبَسَ العِنَبَ أَيَّامَ القِطَافِ حَتَّى يَبِيعَهُ مِمَّنْ يَتِّخِذُهُ خَمْراً، فَقَدْ تَقَحَّمَ النَّارَ عَلَى بَصِيرَةٍ). ولا شكَّ أنَّ العِنَب في الغالب يُنتَفَع به في الأمور الجائزة، ولكنَّه لمَّا كان القصد بيعُه إلى من يستعملُه في أمرٍ مُحرَّمٍ، كان بيعُه مُحرَّماً؛ لأنَّ وسيلة الحَرَام حَرامٌ، وأمَّا [مع] عَدَم القصد فلا تحريم. ومن هذا الزَّعفران؛ فمن باعه إلى من يستعملُه في أمرٍ جائز، أو مع عدم القصد؛ فبيعه حلالٌ، ومن باعه إلى من يستعملُه في أمرٍ غير جائزٍ؛ نحو أنْ يبيعه إلى من يعلم أنَّه يأْكُل منه مقداراً يحصُل به التَّفْتير أو الإِضْرار بالبَدَن، قاصداً للبيع إلى من كان كذلك؛ فبيعُه غير جائز.
وإذا تقرَّر هذا التفصيل ارتفع ما يَرِدُ من الإشكالات على حديث ابن عبَّاس عند الحاكم والبيهقيِّ بإسنادٍ صحيحٍ، أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قال:(إِنَّ اللهَ إِذَا حَرَّم عَلَى قَوْمٍ أَكْلَ شَيءٍ، حَرَّمَ ثَمَنَهُ)؛ فإنَّه قال بعض أهل العِلْم: إنَّه يلزم من الأخذ بظاهر هذا الحديث تحريمُ بيع الحُمُر الأهليَّة وغيرها ممَّا يصلُحُ لحلالٍ وحَرامٍ.
ويُجابُ: بأنَّ الحُمُرَ الأهليَّة إذا باعها البائع إلى من يأكُلُها، كانَ البيعُ مُحرَّماً مع القصد؛ لما سَلَفَ من أنَّ وسيلةَ الحَرام حَرامٌ، وإنْ باعَها إلى من لا يأكُلُها، أو مع عدم القصد، فلا وجه للتَّحريم، وهكذا كلُّ ما كان من هذا القبيل.
وقال ابن القَيِّم: إنَّه يُرادُ بحديث ابن عبَّاسٍ المذكور أمران:
أحدهما: ما هو حرامُ العَيْن والانتفاع جُملةً؛ كالخَمْر، والمَيْتَة، والدَّم، والخِنزير، وآلات الشِّرْك؛ فهذه ثَمَنُها حَرامٌ كيفما اتَّفَقَت.