الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وغيره؛ فإنَّه لا يُنْشي ولا يُشْتَهَى، وقاعدة الشَّريعة:(أنَّ ما تشتهيه النُّفوسُ مِنَ المُحرَّمات؛ كالخَمْر والزِّنا ففيه الحَدُّ، وما لا تشتهيه؛ كالمَيتَة؛ ففيه التَّعزير). والحشيشةُ ممَّا يشتهيها آكِلُوها، ويمتنعون عن تركها، ونصوص التَّحريم في الكتاب والسُّنَّة على من يتناولُها كما يتناول غير ذلك، وإنَّما ظَهَر في النَّاس أَكْلُها قريباً من نحو ظهور التَّتار؛ فإنَّها خرجت وخرج معها سيف التَّتار.
[مجموع فتاوى ابن تيمية (34/ 213 - 214)]
* * *
(915) السؤال: ما حُكمُ شُرْب الحَشِيشِ
؟
الجواب: لم تُعْرَف هذه الحشيشة في الصدر الأوَّل، ولا في عهد الأئمَّة الأربعة، وإنَّما عُرِفَت في فتنة التَّتار بالمشرق، وقد سُئِلَ عنها شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية، فأفاض في بيان حكمها في غير موضع من فتاواه؛ حيث أفتى بأنَّ جمهور الأئمَّة يرون أنَّها نَجِسَةٌ مُحرَّمةٌ، لا فَرْق بين قليلها وكثيرها، ولا بين القَدْر المُسْكِر منها وغير المُسْكِر، فهي كالخَمْر، وأنَّ المُسْكِر منها حَرامٌ باتِّفاق المسلمين، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(كُلُّ مُسْكِرٍ خَمرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ).
وهذه مُسْكِرة ولو لم يشملها لفظه بعَيْنِها، فإنَّ فيها من المفاسد ما حُرِّمت الخَمْر لأجلها، فكثيرُها يصُدُّ عن ذِكْر الله وعن الصَّلاة، ويُسْكِر متعاطيه ويُفَتِّر قُوَاه، بل فيها مفاسد أخرى غير مفاسد الخَمْر توجب تحريمها؛ فهي تُورِث قِلَّة الغَيْرة وزوال الحَمِيَّة، وتُفسِد الأَمْزِجَة حتَّى يُصاب خلقٌ كثيرٌ ممَّن يتعاطونها بالجنون، ومن لم يُصَب به يُصاب بضَعْف العَقْل وبالخَبَل، وتُكْسِب آكِلَها مَهانةً ودَناءةَ نَفْسٍ، وضررها على نفسه أشدُّ من ضرر الخَمْر، وضررها على
الناس أشدُّ، فحُكْم قليلها وكثيرها كحُكْم قليل الخَمْر وكثيره، فمن تناولها وَجَبَ إقامة الحَدِّ عليه إذا كان مسلماً يعتقد حُرْمَتها، فإن اعتقد حِلَّها حُكِمَ برِدَّته وبجَرَيان أحكام المُرتدِّين عليه، والقاعدة الشرعيَّة أنَّ (ما تشتهيه النفوس من المُحرَّمات؛ كالخَمْر والزنا ففيه الحدُّ، وما لا تشتهيه كالميتة ففيه التعزير).
والحشيشة ممَّا يشتهيها آكِلُوها ويمتنعون عن تركها، فيجب فيها الحدُّ وهو ثمانون سَوْطاً. وآكِلُها تبطُل صلاتُه إذا لم يغتسل منها، ولو اغتسل فهي خَمْر.
وفي الحديث: (مَنْ شَرِبَ الخَمْرَ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ يومًا، فَإِنْ تَابَ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ، فَإِنْ عَادَ فَشَرِبَها لَمْ تُقْبَلْ، فَإِنْ عَادَ فَشَرِبَها في الثالثة والرَّابِعَةَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الخَبَالِ. قيل: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا طِينَةُ الخَبَالِ؟ قَالَ: عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ)، فصلاتُه باطلةٌ تارةً، وغير مقبولةٍ تارةً أخرى.
ويجب الإنكار عليه باتِّفاق المسلمين، فمن لم يُنْكِر عليه كان عاصياً لله ولرسوله، ومن مَنَعَ المُنْكَر عليه -أي حال بينه وبين العِقَاب بشفاعةٍ أو دِفاعٍ أمام الحاكم- فقد حادَّ الله ورسوله، ففي (سنن أبي داود) عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:(مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ عز وجل، فَقَدْ حَادَّ اللهَ أَمْرَهُ، وَمَنْ قَالَ: فِي مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ حُبس في رَدْغَةِ الخَبَالِ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ -[الرَّدْغَة] مثل البيت يُصَاد به الضَّبُع- وَمَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُهُ، لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللهِ حَتَّى يَنْزِعَ)(يقلع). ا هـ.
فالمخاصمون عنه مخاصمون في باطل، وهم في سخط الله، وكُلُّ من عَلِمَ ولم يُنْكِر عليه بحسب قُدْرته فهو عاصٍ لله ورسوله. ا هـ. ملخصاً.
ومذهب الحنفيَّة حُرْمَةُ أَكْل الحشيشة والأَفْيون، لكن دون حُرْمَة الخَمْر؛ لأنَّ حُرْمَة الخَمْر قطعيَّة يَكْفُر مُنْكِرُها، بخلاف هذه، ولو سَكِرَ بأَكْلِها
لا يُحدُّ، بل يُعزَّر بما دون الحدِّ. وقد اتَّفق الحنفيَّة والشافعيَّة -كما في (الفَتْح) و (البَحْر) و (الجَوْهَرة) - على وقوع طلاق من غاب عَقْلُه بالحشيشة، وهي وَرَق القُنَّب بضمِّ القاف وكَسْرها، ونونٍ مشدَّدةٍ مفتوحةٍ؛ لفَتْواهم بحُرْمَتِها وتأديب باعَتِها، بعد أن اختلفوا فيها قبل أن يظهر أمرها من الفساد، وقالوا فيمن رأى حِلَّها: إنَّه زنديق. أمَّا الأفيون فحَرامٌ إذا لم يكن للتداوي.
والتعزير كما ذكره فُقهاء الحنفيَّة تأديبٌ دون الحَدِّ، وليس فيه شيء مُقَدَّر، وإنَّما هو مُفوَّض إلى رأي الإمام (السلطة التشريعية الآن) على حسب المصلحة، وما تقتضيه الجناية، فإنَّ العقوبة يجب أن تختلف باختلافها، وعليه أن ينظر في أحوال الناس، فإنَّ منهم من ينزجر باليسير، ومنهم من لا ينزجر إلَّا بالكثير، وله أن يجمع في العقوبة بين الضَّرْب والحَبْس، وأن يبلغ غاية التعزير في الجريمة الكبيرة؛ فيحكم بالقتل سياسةً في الجرائم التي تعظَّمت بالتكرار وشرع القتل في جنسها، وقالوا في السارق: إذا تكرَّرت منه السرقة (العائد)، وفيمن يخنق الناس إذا تكرَّر منه الخَنْق، وفي السَّاحر، وفي الزِّنديق الدَّاعي، أنَّهم يُقتَلون سياسةً.
أمَّا تعاطي الحشيشة والاتِّجار فيها فضررها في العقول والأخلاق والأموال ضررٌ فادحٌ عظيمٌ يقتضي أن تكون العقوبة عليهما من أشدِّ العقوبات وأكثرها رَدْعاً وزجراً. والله أعلم.
[فتاوى شرعية - حسنين مخلوف (رقم 56) (ص 102)]
* وانظر: فتوى رقم (286، 912)