الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خامساً: القات:
تَحْرِيمُ أَكْلِ القَاتِ
(924) السؤال: ورد علينا سؤال عن حِلِّ أَكْل القات وتحريمه، وهو الشجر الذي يُزرَع في أرض اليمن، ويُؤكَلُ على الصِّفة المعروفة عندهم، وما فيه من المنافع والمضار
؛ نظراً لما يرى السائل من اضطراب أقوال الناس فيه. وحيث إنَّ هذه المسألة حادِثةُ الوقوع، والحُكمُ عليها يتوقَّف على معرفة خواصِّ هذه الشجرة، وما فيها من المنافع والمضار، وأيُّهما يغلب عليه؛ فيُحكَم عليها بموجِبِه.
الجواب: وحيث إنَّنا لا نعرف حقيقتها؛ لعدم وجودها لدينا، فقد تتبَّعنا ما أمكننا العثور عليه من كلام العُلماء فيها، فظهر لنا بعد مزيدٍ من البحث والتحرِّي، وسؤال من يُعتدُّ بقولهم من الثِّقات، أنَّ المُتعيِّن فيها المنعُ من تعاطي زراعتها وتوريدها واستعمالها؛ لما اشتملت عليه من المفاسد والمضارِّ في العقول والأديان والأبدان، ولما فيها من إضاعة المال، وافتتان الناس بها، ولما اشتملت عليه من الصَّدِّ عن ذِكْر الله وعن الصَّلاة، فهي شرٌّ، ووسيلةٌ لعِدَّة شرور، (والوسائلُ لها أحكامُ الغايات). وقد ثبت ضررها وتفتيرها وتخديرها، بل وإسْكارها، ولا التفات لقول من نفى ذلك؛ فإنَّ (المُثْبِتَ مُقَدَّم على النَّافي)، وقياساً لها على الحشيشة المُحرَّمة؛ لاجتماعهما في كثير من الصفات، وليس بينهما تفريقٌ عند أهل التحقيق.
والدليل على ما قلناه من كتاب الله وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم وكلام العُلماء ما يأتي:
قال الله تعالى: {وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89]، وفي الحديث: (لَقَدْ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا مِنْ طَائِرٍ
يُقَلِّبُ جَنَاحَيْهِ فِي السَّمَاءِ إِلَّا ذَكَرَ لَنَا مِنْهُ عِلْماً)؛ فنصوص الكتاب والسُّنَّة كفيلةٌ بتبيان ما يحتاجه الناس في أمور دِينِهم ودُنْياهم.
ومن حِكْمة الله ورحمته أنَّه أحَلَّ لنا الطيِّبات وكُلَّ ما منفعته خالصة أو راجحة، وحَرَّم علينا الخبائث وكُلَّ ما كانت مفسدته خالصة أو راجحة؛ قال الله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219]؛ فحرَّم تعالى الخَمْر والمَيْسِر وما فيهما من المنافع، وقال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:90 - 91]، وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد في (مسنده)، وأبو داود في (سننه) بسندٍ صحيح، عن أمِّ سَلَمَة رضي الله عنها قالت:(نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ وَمُفَتِّر)، قال العُلماء:(المفتِّر) كُلُّ ما يدرك الفتور في البدن، والخَدَر في الأطراف. وهذا القات لو فرضنا أنَّ فيه بعض النفع، فإنَّ ما فيه من المضارِّ والمفاسد المتحقِّقة تربو وتزيد على ما فيه من النفع أضعافاً مضاعفة.
ولهذا جزم بتحريمه جملةٌ من العُلماء الذين عرفوا خواصَّه، واستدلَّ كُلُّ منهم على تحريمه بما ظهر له؛ فمن جملة من نهى عنه وحذَّر عنه وأفتى بمنعه: الشيخ أحمد بن حَجَر الهَيْتَمِي، وقاسه على الحشيشة وجَوْزَة الطِّيب، وعَدَّ استعمال ذلك من كبائر الذنوب، كما ذَكَرَه في الكبيرة السبعين بعد المائة في كتابه (الزَّواجِر عن اقتراف الكبائر) في كتاب الأطعمة، ثمَّ إنَّه صنَّف فيه رسالةً مُستقِلَّةً سمَّاها:(تحذيرُ الثِّقات، من استعمال الكُفْتَةِ والقَات) وقال:
إنَّه ورد عليه بمكَّة المُشرَّفة ثلاث رسائل من عُلماء صنعاء وزَبيد؛ اثنتان بتحريمه، وواحدةٌ بتحليله.
ومن جملة ما ذُكِر في تلك الرسالة قوله: وممَّن قال بتحريمه الفقيه أبو بكر بن إبراهيم المُقْري الحَرَازي الشافعي في مؤلَّفِه في (تحريم القات) قال: كنت آكُلُها في سِنِّ الشَّباب، ثمَّ اعتقدُتها من المتشابهات، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(مَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ)، ثمَّ إنِّي رأيت مِنْ أَكْلِها الضرر في بَدَني، فتركتُ أَكْلَها، فقد ذكر العُلماء رحمهم الله أنَّ القاتَ من أشهر المُحرَّمات؛ فمن ضررها أنَّ آكِلَها يرتاح ويَطْربُ، وتطيبُ نَفْسُه، ويذهب حُزْنُه، ثمَّ يعتريه قَدْر ساعتين من أَكْلِه همومٌ متراكمةٌ، وغمومٌ متزاحمة، وسوء أخلاق، وكنت في هذه الحالة إذا قرأ عليَّ أحدٌ يشقُّ عليَّ مراجعته، وأرى مراجعته جَبَلاً، وأرى لذلك مشقَّةً عظيمةً ومَلَلاً، وأنَّه يذهب بشهوة الطعام ولذَّته، ويطرد النوم ونعمته. ومن ضرره في البدن أنَّه يخرج مِنْ آكِلِه شيءٌ بعد البول كالوَدْي، ولا ينقطع إلَّا بعد حين، وطالما كنتُ أتوضَّأ فأحسُّ بشيءٍ منه فأُعيد الوضوء، وتارةً أحسُّ به في الصلاة فأقطعها، أو عقب الصلاة بحيث أتحقَّق خروجه فيها فأعيده، وسألتُ كثيراً [من] يأْكُلُها فذكروا ذلك عنها، وهذه مصيبة في الدِّين وبَلِيَّة على المسلمين.
وحدثني عبد الله بن يوسف المَقْري عن العلَّامة يوسف بن يونس المَقْري، أنَّه كان يقول: ظهر القات في زمن فقهاء لا يجسرون على تحريم ولا تحليل، ولو ظهر في زمن الفقهاء المتقدِّمين لحرَّموه. ودخل عراقيُّ اليمن كان يُسمَّى الفقيه إبراهيم، وكان يجهر بتحريم القات، وينكر على آكِلِه، وذكر أنَّه إنَّما حَرَّمه على ما وُصِفَ له من أحوال مستعمليه، ثمَّ إنَّه أَكَلَه مَرَّةً
ومِراراً لاختباره، قال: فجزم بتحريمه؛ لضرره وإسْكاره، وكان يقول: ما يخرج عقب البَوْل بسببه مَنِيٌّ، ثمَّ اجتمعت به فقلت له: نسمع عنك أنَّك تُحرِّم القات. قال: نعم. فقلت له: وما الدليل؟ قال: ضرره وإسْكاره، فضرره ظاهر، وأما إسْكاره فهل هو مطرب؟ فقلت: نعم. فقال: فقد قالت الشافعيَّة وغيرهم في الردِّ على الحنفيَّة في إباحتهم ما لم يُسْكِر من النَّبيذ: النَّبيذ حَرامٌ قياساً على الخَمْر، بجامع الشدَّة المُطْرِبَة. فقلتُ له: يَرْوُون عنك أنَّك تقول: ما يخرج عنه مَنِيٌّ. وليس فيه شيء من خواص المَنِيِّ. فقال: إنَّه يخرج قبل استحكامه. وقد رأيت مَنْ أكثرَ مِنْ أَكْلِه فَجُنَّ. هذا كُلُّه ملخَّص كلام الحَرَازي.
وهذا الرَّجُلُ العِراقِيُّ الذي أشار إليه ونقل عنه حُرْمَة القات أخبرني بعض طلبة العِلْم أنَّه جاء إلى مكَّة المُشرَّفة، ودرس بها كثيراً، وأنَّه قرأ عليه، وزاد في مدحه والثناء عليه.
ووافق هؤلاء القائلين بحُرْمَة القات قول الفقيه العلَّامة حمزة النَّاشِري، وهو ممَّن يُعتمَد عليه نَقْلاً وإفْتاءً، كما يدلُّ عليه ترجمة المذكور في (تاريخ الشمس السَّخاوي) في منظومته المشهورة، وقد أخبرني مُحدِّث مكَّة -شرَّفها الله- أنَّه قرأها على مؤلِّفها حمزة المذكور، وأجازه بها:
ولَا تَأْكُلَنَّ القَاتَ رَطْباً وَيَابِساً
…
فَذَاكَ مُضِرٌّ دَاؤُهُ فِيهِ أَعْضَلَا
فَقَدْ قَالَ أَعْلَامٌ مِنَ العُلَمَاءِ إِنَّ
…
هَذَا حَرَامٌ لِلتَّضَرُّرِ مَأْكَلاً
ومنها: أنَّه صلى الله عليه وسلم نَهَى عن كُلِّ مُسْكِر ومُفَتِّر؛ قال في (النهاية) ما معناه: أنَّ المُفَتِّر ما يكون منه حرارةٌ في الجسد وانكسارٌ. وذلك معلومٌ ومُشاهدٌ في القات ومستعمليه كسائر المُسْكِرات، وإن كان يحصل منها توهيم نشاط أو تحقُّقُه فإنَّ ذلك ممَّا فَضُل من الانتشاء والسُّكْر الحاصل من التخدير
للجسد، وكذلك يحصل من الإكثار والإدمان على المُسْكِر -حتَّى الخَمْر- خَدَرٌ يخرج إلى الرَّعْشَة والفالِج ويُبْس الدِّماغ ودوام التغيُّر للعَقْل، وغير ذلك من المضارِّ، لكنَّ القات لم يكن فيه من الطبع إلَّا ما هو مضرَّة دِينيَّة ودُنْيَويَّة؛ لأنَّ طَبْعَه اليُبْس والبَرْد، فلا يصحبه شيءٌ من الحرارة واللِّين، فلا يظهر الضرر فيها إلَّا مع الإدمان عليها، وهذا مُحصِّلٌ من الضرر في الأغلب ما في الأَفْيون من مَسْخ الخِلْقة، وتغيير الحال المُعتَدِلَة في الخَلْقِ والخُلُقِ، وهو يزيد في الضرر على الأَفْيون؛ حيث إنَّه لا نَفْع فيه يُعْلَمُ قَطُّ، وأنَّ ضرره أكثر، وفيه كثرة يُبْس الدِّماغ، والخروج عن الطَّبْع، وتقليل شهوة الغذاء [والباه]، ويُبْس الأَمْعاء والمَعِدَة وبردها، وغير ذلك.
ومنها: أنَّ جميع الخصال المذمومة التي ذكرها في الحشيشة موجودة في القات، مع زيادة حصول الضرر فيما به قِوامُ الصحَّة، وصلاح الجسد من إفساد شهوة الغذاء [والباه] والنسل، وزيادة التهالك عليه الموجب لإتلاف المال الكثير الموجب للسَّرف.
ومنها: أنَّه إن ظنَّ أنَّ فيه نفعاً فهو لا يقابل ضرره.
ومنها: أنَّه شارك كُلَّ المُسْكِرات في حقيقة الإسْكار وسببه؛ من التخدير، وإظهار الدم، وترقيقه ظاهر البشرة، مع نَبْذ الدُّسومة من الدِّماغ والجسد إلى الظاهر، وليس فيه حرارةٌ ولينٌ يبدلان ما نَبَذَه من الحرارة واللِّين إلى ظاهر الجسد، بخلاف الخَمْر والحشيش؛ فلهذا أكثر ضرراً.
إلى أن قال: وقال بعض مُدرِّسي الحنفيَّة: زُرْتُ بعض متصوِّفة اليمن بالمسجد الحرام، فأعطاني قليلاً من القات، وقال لي: تبرَّك بأَكْل هذا فإنَّه مُباركٌ. فأَكَلْتُ منه فوجدت فيه تخديراً، فذكرتُ له كلام من ينفي ذلك، فقال: إنَّ عندي معرفةً بالطبِّ، وبَدَنِي
معتدلُ المزاج والطَّبْع. فالذي أُدْرِكُه بواسطة ذلك لا يُدْرِكُه غيري، وقد أَدْرَكْتُ منه التخدير ودوران الرأس، ولا أعود لأَكْلِه أبداً.
كذلك قال بعض الأشراف: إنَّ فيه غَيْبةً عن الحِسِّ، وإنَّه استعمله فغاب مدَّةً طويلةً لا يدري السماء من الأرض، ولا الطُّولَ من العَرْض. هذا كُلُّه كلامُ ابن حَجَر في (تحذير الثقات [من] استعمال الكُفْتَة والقَات).
وقال أيضاً فيه في كلامٍ على الحشيشة وجَوْزَة الطِّيب: وهذا يستدعي ذِكْرَ أوصافهما لتُقاسَ بهما شجرة القات، ثمَّ ذَكَر أنَّه استُفْتِيَ عن جَوْزَة الطِّيب فأفتى بتحريمها؛ لإسْكارها كالحشيشة. ثمَّ قال: فثبت بما تقرَّر أنَّها حَرامٌ عند الأئمَّة الأربعة؛ الشافعيَّة، والمالكيَّة، والحنابلة بالنصِّ، والحنفيَّة بالاقتضاء. إلى أن قال: وذلك أنَّ الإسْكار يُطْلَق ويُراد به مُطْلَق تغطية العَقْل. وهذا إطلاقٌ أعمُّ، ويُطْلَق ويُراد تغطية العَقْل مع نَشْوةٍ وطَرَبٍ. وهذا إطلاقٌ أخصُّ، وهو المراد من الإسْكار حيث أُطْلِق. فعلى الإطلاق الأوَّل بين المُسْكِر والمُخدِّر عمومٌ مُطْلَقٌ، إذ كُلُّ مُخدِّرٍ مُسْكِرٌ، وليس كُلُّ مُسْكِرٍ [مُخدِّراً].
فإطلاق الإسْكار على الحشيشة والجَوْزَة ونحوهما المراد منه التخدير، ومن نفاه عنهما أراد به معناه الأخصُّ. وتحقيقه: أنَّ مِنْ شأن السُّكْر بنحو الخَمْر أنَّه يتولَّد عنه النشوة والطَّرَب والعَرْبَدة والغَضَب والحَمِيَّة، ومِنْ شأن السُّكْر بنحو الحشيشة والجَوْزَة أنَّه يتولَّد عنه ضدُّ ذلك من تخدير البدن وفتوره، ومن طول السكوت والنوم، وعدم الحَمِيَّة. إلى أن قال: انتهى جوابي في الجَوْزَة، وهو مشتمل على نفائس تتعلَّق بهذا القات، بل هو ظاهر في حُرْمَة القات؛ لأنَّ الناس مختلفون في تأثير الجَوْزَة؛ فبعض آكِلِيها يُثبِتُ لها تخديراً، وبعضهم لا يُثبِتُ لها ذلك،
فإذا حَرَّمها الأئمَّة مع اختلاف آكِلِيها، فليُحَرِّموا القات، ولا نظر للاختلاف في تأثيره. انتهى كلام ابن حجر رحمه الله. وقد استقصى صفات القات ووصَفَه بصفات المُسْكِر المُضِرِّ بالعَقْل والأديان والأبدان. وصرَّح في بعض عباراته بالمنع والنهي و [التحذير]، بل والتحريم، وجَبُنَ في موضع آخر عن إطلاق التحريم. فإمَّا أن يكون ذلك توقُّفاً منه وتأدُّباً؛ لعدم وقوفه على نصٍّ في ذلك، أو أنَّه قَوِيَ على القول بالتحريم بعد ذلك.
وقال الشيخ محمَّد بن سالم البَيْحاني في كتابه (إصلاح المجتمع) في الكلام على حديث ابن عمر أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ وَمَنْ شَرِبَ الخَمْرَ فِي الدُّنْيَا فَمَاتَ وَهُوَ يُدْمِنُهَا لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الآخِرَةِ) رواه البخاري ومسلم؛ فقال بعد الكلام على هذا الحديث: وهنا أجد مناسبة وفرصة سانحة للحديث عن القات والتنباك، والابتلاء بهما عندنا كثير، وهما من المصائب والأمراض الاجتماعيَّة والفتَّاكة، وإلَّا يكونا من المُسْكِر؛ فضررهما قريب من ضرر الخَمْر والميسر؛ لما فيهما من ضياع المال، وذهاب الأوقات، والجناية على الصحَّة، وبهما يقع التشاغل عن الصلاة وكثير من الواجبات المهمَّة. إلى أن قال: ومعلوم من القات أنَّه يؤثِّر على الصحَّة البدنيَّة، ويُحطِّم الأضراس، ويُهيِّج الباسور، ويُفسِد المَعِدَة، ويُضعِف شهيَّة الأَكْل، ويُدِرُّ السَّلَاس؛ وهو الوَدْي، وربَّما أهلك الصُّلْب، وأَضْعَف المَنِيَّ، وأظهر الهُزَال، وسَبَّب القَبْض المُزْمِن، ومَرَض الكُلَا، وأولادُ صاحب القات غالباً يخرجون ضعاف البِنْية، صغار الأجسام، قِصَار القامَة، قليلاً دَمُهُم، مصابين بعدَّة أمراض خبيثة، وهذا مع ما يبذل أهله فيه من الأثمان الغالية المحتاج إليها، ولو أنَّهم صرفوها في الأغذية
الطيِّبة، وتربية أولادهم، أو تصدَّقوا بها في سبيل الله لكان خيراً لهم، وصدق شاعرنا القائل:
عَزَمْتُ عَلَى تَرْكِ التَّنَاوُلِ لِلْقَاتِ
…
صِيَانَةَ عِرْضِي أَنْ يَضِيعَ وَأَوْقَاتِي
وَقَدْ كُنْتُ مِنْ هَذَا المُضِرِّ مُدَافِعاً
…
زَمَاناً طَويلاً رَافِعاً فِيهِ أَصْوَاتِي
فَلَمَّا تَبَيَّنَتِ المَضَرَّةُ وَانْجَلَتْ
…
حَقِيقَتُهُ بَادَرْتُهُ بِالمُنَاوَاتِ
طَبِيعَتُهُ اليُبْسُ المُلِمُّ بِبَرْدَةٍ
…
أَخَا المَوْتِ كَمْ أَفْنَيْتَ مِنَّا الكَرَامَاتِي
وَقِيمَةُ شَارِبِي القَاتِ فِي أَهْلِ سُوقِهِ
…
كَقِيمَةِ مَا يَدْفَعُهُ فِي ثَمَنِ القَاتِي
وإنَّهم ليجتمعون على أَكْلِه من منتصف النهار إلى غروب الشمس، وربَّما استمرَّ الاجتماع إلى منتصف اللَّيل، يأكلون الشجر، ويَفْرُون أعراض الغائبين، ويخوضون في كُلِّ باطل، ويتكلَّمون فيما لا يعنيهم.
ويزعم بعضهم أنَّه يستعين به على قيام اللَّيل، وأنَّه قوت الصالحين. ويقولون: جاء به الخَضِرُ من جبل قاف للملك ذي القَرْنَين، ويَرْوُون فيه من الحكايات والأقاصيص شيئاً كثيراً، وربَّما رفع بعضهم عقيرته بقوله:
صَفَتْ وَطابَتْ بأَكْلِ القَاتِ أَوْقاتِي
…
كُلْهُ لِمَا شِئْتَ مِنَ دُنْيَا وَآخِرَةِ
وَدَفْع ضُرٍّ وَجَلْبٍ للمَسَرَّاتِ
ومن الشيوخ الذين قضى القات على أضراسهم من يَدُقُّه ويَطْرَبُ لسماع صوت المَدَقِّ، ثمَّ يَلُوكُه ويَمُصُّ ماءه، وقد يُجفِّفونه ثمَّ يحملونه معهم في أسفارهم، وإذا رآهم من لا يعرف القات سَخِرَ بهم وضَحِكَ منهم، وإنَّ أحد المصريِّين ليقول في قصيدةٍ يهجو بها اليمنيِّين:
أُسَارَى القَاتِ لا تَبْغُوا عَلَى مَنْ
…
يَرَى فِي القَاتِ طِبًّا غَيْرَ شَافِي
أمَّا (التِّنْباك): وهو التَّبْغ فضَررُه أكبر، والمصيبة به أعظم، ولا يبعدُ أن يكون من الخبائث التي نهى الله عنها، ولو لم يكن فيه من الشرِّ إلَّا ما تشهد به
الأطبَّاء لكان كافياً في تجنُّبه والابتعاد عنه، وقد أفرط جماعات من المسلمين في حُكْمِه حتَّى جعلوه مثل الخَمْر، وحاربوه بكُلِّ وسيلةٍ، وقالوا: يَفسُقُ متعاطيه، كما أنَّ آخرين قد بلغوا في استعماله إلى حَدٍّ بعيد.
وهو شجرةٌ خبيثةٌ دخلت بلاد المسلمين في حوالي عام 1012 هـ، وانتشر في سائر البلاد.
إلى أن قال: وأخبثُ من ذا وذاك من يمضغ التِّنْباك ويجمعه مطحوناً مع موادَّ أخرى، ثمَّ يضعه بين شفتيه وأسنانه، ويُسمَّى ذلك (بالشَّمَّة) فيبصق متعاطيها حيث كان بصاقاً تعافه النفوس، ويتقذَّر به المكان، ولربَّما لَفَظَها من فمه كسَلْحَة
(1)
الدِّيك في أنظف مكان، وللناس فيما يعشقون مذاهب.
وبعضهم يستنشق التِّنْباك بعد طَحْنِه وهو البَرْدَقان، يصبُّه في أنفه صبًّا يُفسِد به دماغه، ويجني به على سمعه وبصره، ثمَّ لا ينفكُّ عاطِساً، ويتمخَّط بيده، وفي منديله أو على الأرض، وأمام الجالسين.
أخبرني أحد أصدقائي أنَّ قريبه الذي كان يستعمل البَرْدَقان لمَّا مات مكث ثلاث ساعات وأنفه يتصبَّب خَبَثاً. ولو اقتصر الناس على ما لا بُدَّ منه للحياة لاستراحوا من التكاليف والنفقات الشاقَّة، ولما عرَّضوا أنفسهم لشيء من هذه الشرور.
وأنا لا أقيس القات والتِّنْباك بالخَمْر في التحريم وما يترتَّب عليه من عقاب الآخرة، ولكن أقول: هذا قريب من هذا، وكُلُّ مُضرٍّ لصحَّة الإنسان في بَدَنِه أو عَقْلِه أو مَالِه فهو حَرامٌ، والبرُّ ما اطمأنَّت إليه النَّفْس، واطمأنَّ إليه القلب، والإثم ما حاك في النَّفْس، وتَردَّد في الصَّدْر، وإن أفتاك المفتون. والله تعالى يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
(1)
أي روثه؛ قال في المعجم الوسيط (1/ 441): «سَلَحَ سَلْحاً وسلاحاً: راث» .
إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 90 - 91]. انتهى كلام الشيخ محمَّد بن سالم البَيْحاني في ذلك، وقد ذَكَر صفات القات وحَكَمَ عليها بالضرر والنهي والتحريم.
لكنَّ قوله: وأنا لا أقيس القات والتِّنْباك بالخَمْر. إلى آخره - الظاهرُ أنَّ مراده أنَّ غِلَظَ تحريم القات والتِّنْباك ليس كغِلَظِ تحريم الخَمْر وما يجب عليه من حَدٍّ في الدنيا وعِقابٍ في الآخرة، مع اتِّفاقهما في أصل التحريم.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في (الاختيارات): فصل: وإذا شككتَ في المطعوم والمشروب هل يُسْكِر أم لا؟ لم يَحرُم عليك بمُجرَّد الشكِّ، ولم يُقَمِ الحَدُّ على شاربه، ولا ينبغي إباحته للناس إذا كان يجوز أن يكون مُسْكِراً؛ لأنَّ إباحة الحَرام مثل تحريم الحلال، فيكشف عن هذا بشهادة من تُقْبَل شهادته؛ مثل أن يكون طَعِمَه ثُمَّ تاب منه، أو طَعِمَه غير معتقدٍ تحريمه، أو مُعتقدٍ حِلَّه لتداوٍ ونحوه، أو مذهب الكوفيِّين في تناول يسير النَّبيذ، فإن شَهِدَ به جماعة ممَّن تناوله معتقداً تحريمه، فينبغي إذا أخبر عددٌ كثيرٌ لا يمكن تواطؤهم على الكذب أن يُحكَم بذلك، فإنَّ هذا مثل التواتر والاستفاضة، كما استفاض بين الفُسَّاق والكُفَّار الموت، والنَّسَب، والنكاح، والطلاق، فيكون أحد الأمرين إمَّا الحُكْم بذلك؛ لأنَّ التواتر لا يُشترط فيه الإسلام والعدالة، وإمَّا الشهادة بذلك بناء على أنَّ الاستفاضة يحصل بها ما يحصل بالتواتر، وإمَّا أن يُمتَحَن بعضُ العدول بتناوله؛ لوجهين:
أحدهما: أنَّه لا يُعلَم تحريم ذلك قبل التأويل، فيجوز الإقدام على