الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مثلاً، وقال الأطبَّاء: إنَّه لا يمكن وَقْف انتشار هذا المرض إلَّا بقَطْع عضوٍ، ومعلومٌ أنَّ قَطْع الأعضاء حَرامٌ، لا يجوز للإنسان أن يقْطَع ولا أُنْمُلَةً من أَنامِلِه، فإذا قالوا: لا بُدَّ من قَطْع العضو، كانت هذه ضرورة، إذا تأكَّدوا أنَّه إذا قُطِع انقطع هذا الدَّاء الذي هو السَّرَطان.
أمَّا البَنْجُ: فلا بأس به، لأنَّه ليس مُسْكِراً، السُّكْرُ زَوال العَقْل على وَجْه اللَّذَّة والطَّرَب، والذي يُبَنَّج لا يتلذَّذ ولا يَطْرَبُ، ولهذا قال العُلماء: إنَّ البَنْج حلالٌ ولا بأس به، وأمَّا ما يكون من موادِّ الكُحول في بعض الأدْوية، فإن ظهر أثر ذلك الكُحول بهذا الدَّواء بحيث يَسْكَرُ الإنسانُ منه فهو حَرامٌ، وأمَّا إذا لم يظهر الأثر، وإنَّما جُعِلَت فيه مادَّة الكُحول من أجل حِفْظِه، فإنَّ ذلك لا بأس به؛ لأنَّه ليس لمادَّة الكُحول أثرٌ فيه.
[مجموع فتاوى ورسائل الشيخ ابن عثيمين (17/ 30 - 31)]
* * *
اسْتِعْمَالُ الكُحُولِ فِي تَعْقِيمِ الجُرُوحِ وَخَلْطِهِ بِالأَدْوِيَةِ
(1043) السؤال: ما حُكْمُ استعمال الكُحول في تعقيم الجروح وخَلْط بعض الأدْوية بشيءٍ من الكُحول
؟
الجواب: استعمال الكُحول في تعقيم الجروح لا بأس به؛ للحاجة لذلك، وقد قيل: إنَّ الكُحول تُذْهِب العَقْل بدون إسْكار، فإن صحَّ ذلك فليست خَمْراً، وإن لم يصحَّ وكانت تُسْكِر فهي خَمْر، وشُرْبُها حَرامٌ بالنَّص والإجماع.
وأمَّا استعمالها في غير الشُّرْب، فمَحَلُّ نَظَر؛ فإن نَظَرْنا إلى قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)} [المائدة: 90]. قُلنا: إنَّ استعمالها في غير الشُّرْب حَرامٌ؛ لعموم قوله: {فَاجْتَنِبُوهُ} .
وإن نَظَرْنا إلى قوله تعالى في الآية التي تليها: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91]. قلنا: إنَّ استعمالها في غير الشُّرْب
جائزٌ؛ لعدم انطباق هذه العِلَّة عليها.
وعلى هذا؛ فإننا نرى أنَّ الاحتياط عدم استعمالها في الروائح. وأمَّا في التعقيم فلا بأس به لدعاء الحاجة إليه، وعدم الدليل البَيِّن على منعه؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى (ص 270 ج 24 من مجموع الفتاوى): التَّداوي بأَكْل شَحْم الخنزير لا يجوز، وأمَّا التَّداوي بالتَّلطُّخ به ثُمَّ يغسله بعد ذلك، فهذا مبنيٌّ على جواز مباشرة النجاسة في غير الصَّلاة، وفيه نزاعٌ مشهورُ. والصحيح أنَّه يجوز للحاجة، وما أُبِيحَ للحاجة جاز التَّداوي به. اهـ.
فقد فرَّق شيخ الإسلام رحمه الله تعالى بين الأَكْل وغيره في ممارسة الشيء النَّجِس، فكيف بالكُحول التي ليست بنَجِسَة؟ لأنَّها إن لم تكن خَمْراً فطهارتها ظاهرةٌ، وإن كانت خَمْراً فالصواب عدم نَجاسَةِ الخَمْر؛ وذلك من وجهين:
الأوَّل: أنَّه لا دليل على نجاستها، وإذا لم يكن دليلٌ على ذلك فالأصل الطهارة، ولا يلزم من تحريم الشيء أن تكون عَيْنُه نَجِسَةً؛ فهذا السُّمُّ حَرامٌ وليس بنَجِس، وأمَّا قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} . فالمراد الرِّجْس المَعْنَوي لا الحِسِّي، لأنَّه جُعِل وَصْفاً لما لا يمكن أن يكون رِجْسُه حِسِّياً؛ كالمَيْسِر والأَنْصاب والأَزْلام، ولأنَّه وَصَفَ هذا الرِّجْس بكونه من عمل الشيطان، وأنَّ الشيطان يريد به إيقاع العداوة والبغضاء؛ فهو رِجْسٌ
عَمَليٌّ مَعْنَويٌّ.
الثاني: أنَّ السُنَّة تدلُّ على طهارة الخَمْر طهارةً حِسِّيَّةً، ففي (صحيح مسلم، ص 1206، ط. الحلبي، تحقيق محمَّد فؤاد عبد الباقي): عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما (أَنَّ رَجُلًا أَهْدَى لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَاوِيَةَ خَمْرٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: هَلْ عَلِمْتَ أَنَّ اللهَ قَدْ حَرَّمَهَا؟ قَالَ لَا. فَسَارَّ إِنْسَانًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: بِمَ سَارَرْتَهُ؟ قَالَ: أَمَرْتُهُ بِبَيْعِهَا. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا. قَالَ: فَفَتَحَ المَزَادَةَ حَتَّى ذَهَبَ مَا فِيهَا). وفي (صحيح البخاري، ص 112 ج 5 من الفتح ط. السلفيَّة): عن أنس بن مالك رضي الله عنه (أَنَّهُ كَانَ سَاقِيَ الْقَوْمِ فِي مَنْزِلِ أَبِي طَلْحَةَ -وهو زَوْجُ أُمِّهِ- فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُنَادِيًا يُنَادِي: أَلَا إِنَّ الخَمْر قَدْ حُرِّمَتْ. قَالَ: فَقَالَ لِي أَبُو طَلْحَةَ: اخْرُجْ فَأَهْرِقْهَا، فَخَرَجْتُ فَهَرَقْتُهَا، فَجَرَتْ فِي سِكَكِ المَدِينَةِ). ولو كانت الخَمْر نَجِسَةً نجاسة حِسِّيَّة لأمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم صاحب الرَّاوية أن يغسل راويته، كما كانت الحال حين حُرِّمت الحُمُر عام خبير، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:(أَهْرِيقُوهَا وَاكْسِرُوهَا -يعني القُدور-، فَقَالُوا: أَوْ نُهَرِيقُهَا وَنَغْسِلُهَا؟ فَقَالَ: أَوْ ذَاكَ). ثمَّ لو كانت الخَمْر نَجِسَةً نجاسةً حِسِّيَّة ما أراقها المسلمون في أسواق المدينة؛ لأنَّه لا يجوز إلقاء النَّجاسة في طُرُق المسلمين.
قال الشيخ محمَّد رشيد رضا في فتاواه (ص 1631 من مجموعة فتاوى المنار): وخلاصة القول: أنَّ الكُحول مادَّة طاهرةٌ مُطَهِّرةٌ ورُكنٌ من أركان الصَّيدلة، والعلاج الطبِّي، والصناعات الكثيرة، وتدخل فيما لا يُحصَى من الأدْوية، وأنَّ تحريم استعمالها على المسلمين يَحُولُ دون إتقانهم لعلوم وفنون وأعمال كثيرة، هي من أعظم أسباب تَفَوُّق الإفرنج عليهم؛ كالكيمياء والصَّيدلة والطبِّ والعلاج
والصِّناعة، وإن تحريم استعمالها في ذلك، قد يكون سبباً لموت كثير من المَرْضى والمجروحين، أو لطول مَرَضِهم وزيادة آلامهم اهـ.
وهذا كلامٌ جيِّدٌ متينٌ. رحمه الله تعالى.
وأمَّا خَلْط بعض الأدْوية بشيءٍ من الكُحول، فإنَّه لا يقتضي تحريمها، إذا كان الخَلْط يسيراً لا يظهر له أثرٌ مع المخلوط، كما أنَّ على ذلك أهل العِلْم؛ قال في (المغني، ص 306 ج 8، ط المنار): وإن عُجِنَ به -أي بالخَمْر- دقيقاً ثمَّ خَبَزَه وأَكَلَه لم يُحَدَّ؛ لأنَّ النار أَكَلَت أجزاء الخَمْر، فلم يَبْق إلَّا أثرُه. اهـ.
وفي (الإقناع وشرحه، ص 71 ج 4، ط. مقبل): ولو خَلَطَه -أي المُسْكِر- بماءٍ فاستُهْلِكَ المُسْكِر فيه -أي الماء-ثمَّ شَرِبَه لم يُحَدَّ؛ لأنَّه باستهلاكه في الماء لم يَسْلِب اسمَ الماء عنه، أو داوى به -أي المُسْكِر- جُرْحَه لم يُحَدَّ؛ لأنَّه لم يتناوله شُرْباً ولا في معناه. اهـ.
وهذا هو مقتضى الأثر والنظر.
أمَّا الأثر؛ فقد رُوِيَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (المَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ، إلَّا إِنْ تَغيَّر رِيِحُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ لَوْنُهُ) بنجاسة تحدُث فيه. وهذا وإن كان الاستثناء فيه ضعيفاً، إلَّا أنَّ العُلماء أجمعوا على القول بمقتضاه، ووجه الدلالة: منه أنَّه إذا سقط فيه نجاسة لم تُغيِّره فهو باقٍ على طهوريَّته، فكذلك الخَمْر إذا خُلِطَ بغيره من الحلال ولم يُؤثِّر فيه فهو باقٍ على حِلِّه، وفي (صحيح البخاري -تعليقاً-، ص 64 ج 9، ط. السلفيَّة من الفتح): قال أبو الدَّرْدَاء في المُرِيِّ: (ذَبَحَ الخَمْرَ النِّينَانُ وَالشَّمْسُ) -جمع نون؛ وهو الحوت-، المُرِيُّ: أَكْلَةٌ تُتَّخَذ من السَّمَك المَمْلوح يُوضَع في الخَمْر ثمَّ يُلْقَى في الشمس فيتغيَّر عن طعم الخَمْر. فمعنى الأثر: أنَّ الحوت بما فيه من المِلْح، ووَضْعِه في الشمس أَذْهَب