الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حَرَّم الإسلام المباح إذا كان مِنْ شأنه أن يَغلِبَ ضررُه، بل نراه يُحرِّم العبادة المفروضة إذا تيقَّن أنَّها تضرُّ أو تضاعف الضرر.
أضرارُ الدُّخانِ في الصحَّة والمال تقتضي حَظْرَه:
وإذا كان التَّبْغ لا يُحدِثُ سُكْراً، ولا يُفسِدُ عَقْلاً، غير أنَّ له آثاراً ضارَّة، يَحُسُّها شاربُه في صحَّته، ويَحُسُّها فيه غير شاربه. وقد حلَّل الأطبَّاء عناصره وعرفوا فيها العنصر السامَّ الذي يقضي -وإن كان ببطء- على سعادة الإنسان وهنائه. وإذن فهو ولا شكَّ أذى وضارٌّ. والإيذاء والضرر خُبْثٌ يُحظَرُ به الشيءُ في نظر الإسلام، وإذا نظرنا مع هذا إلى ما يُنْفَقُ فيه من أموال، كثيراً ما يكون شاربه في حاجة إليها، أو يكون صَرْفُها في غيره أنفع وأجْدَى.
إذا نظرنا إلى هذا الجانب عرفنا له جهة ماليةً تقضي في نظر الشريعة بحَظْرِه وعدم إباحته.
ومن هنا نعلم -أخذاً من معرفتنا الوثيقة بآثار التَّبْغ السيِّئة في الصحَّة والمال- أنَّه ممَّا يمْقُته الشرع ويكرهه، وحُكْم الإسلام على الشيء بالحُرْمة أو الكراهة لا يتوقَّف على وجود نصٍّ خاصٍّ بذلك الشيء، فلِعِلَلِ الأحكام وقواعد التشريع العامَّة قيمتها في معرفة الأحكام، وبهذه العِلَل وتلك القواعد كان الإسلام ذا أهليَّة قويَّة في إعطاء كُلِّ شيءٍ يستحدثه الناس حكمه من حِلٍّ أو حُرْمة، وذلك عن طريق معرفة الخصائص والآثار الغالبة للشيء؛ فحيث كان الضرر كان الحَظْر، وحيث خَلُصَ النَّفْع أو غلب كانت الإباحة. وإذا استوى النَّفْع والضرر كانت الوقاية خيراً من العلاج.
[الفتاوى، محمود شلتوت (ص 383 - 385)]
* * *
(933) السؤال: [ما] حُكمُ تناول الدُّخَّان؟ [وما] الدليل على تحريمه
على فَرْض الإجابة بالتَّحريم؟
الجواب: لا شكَّ أنَّ تناول التَّبْغ (المعروف بالدُّخان) حَرامٌ؛ لإضراره بالصحَّة، وتَفْتِيره، وإيذاء مُستعمِله جُلَساءَه من بني آدم، والذين لا يستعملونه، ومن الملائكة في مواضع العبادة، ولما فيه من إضاعة المال، وبذلك تتناوله الأدلَّة التالية:
الأوَّل: قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]، من الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة تناوله المُضِرَّ. والدُّخان مُضِرٌّ بشهادات جهابذة الأطبَّاء، قال العلَّامة الشيخ محمَّد الطَّرابيشي الحَلَبي في كتابه (تبصرة الإخوان في بيان أضرار التَّبْغ المشهور بالدُّخان): أجمعت عُلماء الطبِّ قاطبةً من أهل القرون الثلاثة بعد الألف على أنَّ استعماله مُضرٌّ للأجسام الإنسانيَّة، وأنَّه يُعطِّل الشرايين الصَّدْريَّة، ويُحدِثُ أمراضاً صَدْريَّة يتعذَّر البُرءُ منها.
وقال: قد تحقَّق عند عامَّة المُحقِّقين من أئمَّة الطبِّ المُعتَبَرين أنَّ مضارَّ الدُّخان -أعمُّ من أن يكون توتوناً أو تنباكاً- كثيرةٌ جدًّا. قالوا: ويشعر بأعراضها الجُزْئيَّة كُلُّ من يباشر استعماله قبل الاعتياد عليه؛ وهي: دوارٌ، وغَثَيانُ الصَّدْر، وقَيْءٌ، وصُداعٌ، وارتخاءُ العَضَلات؛ أي الأعصاب، ثمَّ سُبَاتٌ؛ أي راحةٌ، وهي كنايةٌ عن حالة التخدير الذي هو من لوازم التَّبْغ المتَّفَق عليها من غير نكير.
وقال العلَّامة أبو عبد الله محمَّد عِلِّيش المالكي في مسائل النَّذْر من كتابه (فتح العَلِيَّ المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك): قد نصَّ حُذَّاق الأطبَّاء على أنَّه -أي الدُّخان- يَضرُّ، ولا ينفع شيئاً من العِلَل، وأنَّه يُحدِثُ عِللاً لا تَسْكُنُ إلَّا به، فنظير متعاطيه مَنْ مَزَّق ثوباً صحيحاً واحتاج إلى ترقيعه. قال: ويَدُلُّك على صحَّة ذلك أنَّ مِن شأن الدَّواء قَطْع وكراهة النَّفْس
له، وتركه بمجرَّد حصول الشفاء، وليس الدُّخان كذلك، إذ مَنْ اعتاده لا يستطيع تركه إلَّا إذا كان نائماً، فهو الدَّاء الذي لا دواء له إلَّا تركه واللَّهو عنه، كوسوسة الشيطان، استَجَرْتُ منه باسم الرحمن.
وقال في رسالة له في الدُّخان، ضمن تلك الفتاوى، وآخر مسائل الأذان: وأدنى ضرره -أي الدُّخان- إفساده العَقْل والبَدَن، وتلويث الظاهر والباطن المأمور بتنقيتهما شرعاً وعادة ومروءة، كما يُلوِّث آلة شُرْبه، والظاهر عنوان الباطن، واستعمال المُضرِّ حَرامٌ.
وذَكَرَ في هذه الرسالة: أنَّ أطباء الإنكليز شرَّحوا رجلاً مات باهتراء كَبِده وهو ملازمه -أي: الدُّخان- فوجدوه سارياً في عُروقه وعصبه ومُسَوِّداً مُخَّ عِظامِه، وقَلْبُه مثل سَفَنْجَةٍ يابسةٍ، وفيه ثُقَبٌ مختلفةٌ صُغْرى وكُبْرى، وكَبِدُه مَشْويَّة، فمَنَعوا -أي الأطبَّاء الإنكليز -عن مداواته.
الثاني: من أدلَّة تحريم الدُّخان؛ ما رواه أحمد في (مسنده) وأبو داود بسندٍ صحيح، عن أمِّ سَلَمَة رضي الله عنها، أنَّها قالت:(نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ وَمُفَتِّرٍ). وحصول التَّفْتِير باستعمال الدُّخان ثابتٌ بلا شكٍّ؛ قال الشيخ محمَّد فقهي العَيْني الحَنَفي في رسالته التي حَرَّم فيها الدُّخان: هو -أي الدُّخان - مُفَتِّر باتِّفاق الأطبَّاء، وكلامهم حُجَّة في ذلك وأمثاله باتِّفاق الفقهاء سَلَفاً وخَلَفاً.
الثالث: ما رواه الطبراني في (معجمه الأوسط) بإسناد حسن، عن أنس رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(مَنْ آذَى مُسْلِماً فَقَدْ آذَانِي، وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللهَ)، ووجه الاستدلال بهذا الحديث أنَّ في استعمال الدُّخان في مجالس المسلمين إذايتهم برائحة كريهة، وقد ثبت في رائحة الثوم والبصل من حديث جابر رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا فَلْيَعْتَزِلْنَا،
ولِيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا، وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ). فما دام الأمر هكذا في رائحة الثوم والبصل المُباحَيْن، فكيف إذاً؟! إنَّ رائحة الدُّخان المنهي عنه عن المسلمين في المجالس والمساجد من باب أَوْلى؛ ولذلك جزم أبو يحيى شيخ العلَّامة محمَّد بن عِلِّيش المالكي بأنَّه لا خلاف في تحريم الدُّخان في المساجد والمحافل؛ قال -كما في (الفتاوى) - تلميذُه محمَّد ابن عِلِّيش في باب المباح: أمَّا فيها -يعني في المساجد والمحافل- فلا شكَّ في التحريم، إنَّ له رائحة كريهة، وإنكارها عِنادٌ.
وقد ذكر في (المجموع) في باب الجمعة أنَّه يَحرُمُ تعاطي ما له رائحة كريهة في المساجد والمحافل، ومعلوم أنَّه عند قراءة القرآن يَشْتدُّ التحريم -أي تحريم تعاطي الدُّخان-؛ لما في ذلك من عدم التعظيم، ومن أنكر مثل هذا لا يُخاطَب؛ لجموده وعناده. اهـ.
وكما يتأذَّى المسلمون برائحة الدُّخان تتأذَّى بها الملائكة، كما في حديث جابر رضي الله عنه عند البخاري ومسلم، عن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:(إنَّ المَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ)، ومعلوم أنَّ بني آدم يتأذَّى من رائحة الدُّخان.
الرابع: ما رواه البخاري ومسلم في صحيحهما، عن المُغيرَة بن شُعْبَة رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:(إِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الأُمَّهَاتِ، وَوَأْدَ البَنَاتِ، وَمَنْعًا وَهَاتِ، وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ المَالِ).
وأقوى الأقوال في تفسير إضاعة المال كما في (باب عقوق الوالدين من الكبائر من (فتح الباري) أنَّه ما أُنْفِقَ في غير وجهه المأذون فيه شرعاً. وصرف المال في سبيل استعمال الدُّخان لا شكَّ أنَّه ممَّا ينطبق عليه هذا التعريف.
لهذه الأدلَّة وبغيرها ممَّا يطول الكلام باستقصائه جَزَم كثيرٌ من عُلماء