الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اللّغة صدقت، كما يقال: كذبت. وأمّا لفظ الإيمان فلا يستعمل إلّا في الخبر عن غائب، ولهذا يقال للشّهود صدّقناهم ولا يقال آمنّا لهم، ذلك أنّ الإيمان مشتقّ من الأمن (أو الأمانة) ولذلك فهو يستعمل في خبر يؤتمن عليه المخبر، ولم يستعمل لفظ آمن له في القرآن إلّا في هذا النّوع، والاثنان إذا اشتركا في معرفة الشّيء، يقال صدّق أحدهما صاحبه ولا يقال آمن له لأنّه لم يكن غائبا عنه، وعلى ذلك قوله سبحانه: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ أي يصدّقهم فيما أخبروا به ممّا غاب عنه، وهم مأمونون «1» عنده على ذلك فاللّفظ متضمّن مع التّصديق معنى الائتمان والأمانة.
(ومن وجوه الفرق أيضا) أنّ لفظ الإيمان في اللّغة لم يقابل بالتّكذيب كما قوبل به لفظ التّصديق، وإنّما قوبل به لفظ الكفر. يقال: هو مؤمن أو كافر، والكفر لا يختصّ بالتّكذيب، لأنّ قائلا لو قال: أعلم أنّك صادق لكن لا أتّبعك، بل أعاديك وأبغضك
…
لكان كفره أعظم، فلمّا كان الكفر المقابل للإيمان ليس هو التّكذيب فقط، وإنّما يكون تكذيبا ومخالفة وامتناعا بلا تكذيب، ولمّا كان الأمر كذلك لزم أن يكون الإيمان تصديقا مع موافقة وموالاة وانقياد لا مجرّد التّصديق، وهنا يكون الإسلام جزء مسمّى الإيمان، كما كان الامتناع مع التّصديق جزء مسمّى الكفر، ومن ثمّ وجب أن يكون كلّ مؤمن مسلما منقادا للأمر وهذا هو العمل.
ومن وجوه الفرق أيضا ما قال به بعضهم (بعض اللّغويّين) من أنّ الإيمان أصله في اللّغة من الأمن الّذي هو ضدّ الخوف، وعلى ذلك يكون معنى آمن: صار داخلا في الأمن وأنشدوا على ذلك بيت النّابغة «2» :
المؤمن العائذات الطّير يمسحها
…
ركبان مكّة بين الغيل والسّبد
وإذا سلّمنا بأنّ الإيمان أصله التّصديق، فهو تصديق مخصوص كما أنّ الصّلاة دعاء مخصوص، والحجّ قصد مخصوص، والصّيام إمساك مخصوص، وهذا التّصديق له لوازم تدخل في مسمّاه عند الإطلاق، لأنّ انتفاء اللّازم يقتضي انتفاء الملزوم «3» .
الإيمان ومكارم الأخلاق:
يقول ابن تيميّة- رحمه الله تعالى-: لفظ الإيمان إذا أطلق في القرآن والسّنّة يراد به ما يراد بلفظ البرّ، وبلفظ التّقوى، وبلفظ الدّين.
وقد بيّن صلى الله عليه وسلم أنّ الإيمان بضع وسبعون شعبة، أفضلها قول لا إله إلّا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطّريق، فكان كلّ ما يحبّه الله يدخل في اسم الإيمان «4» ، وإذا كان الإيمان أصله الإيمان الّذي في القلب، وأنّه لا بدّ فيه من شيئين: الأوّل تصديق بالقلب وإقراره ومعرفته وهذا هو التّوحيد، والآخر عمل القلب وهو
(1) في الأصل (292)«وهو مأمون عنده على ذلك» والسياق يقتضي ما أثبتناه.
(2)
في الفتاوى «وأنشدوا.. ثم بياض» في الأصل لم يستطع المحقق إكماله، وقد أكملناه بفضل الله تعالى اعتمادا على ما ذكرته المصادر الأخرى.
(3)
بتلخيص وتصرف من الفتاوى (7/ 286- 297) .
(4)
المرجع السابق (7/ 179) .
التّوكّل على الله وحده ونحوه مثل حبّ الله ورسوله، وحبّ ما يحبّه الله ورسوله، وبغض ما يبغضه الله ورسوله، وإخلاص العمل لله وحده «1» كانت أعمال القلب من الحبّ والإخلاص والخشية والتّوكّل ونحوها داخلة في الإيمان بهذا المعنى، وكانت هذه الأخلاق الفاضلة ونحوها داخلة في الإيمان، وأمّا البدن فلا يمكن أن يتخلّف عن مراد القلب، لأنّه إذا كان في القلب معرفة وإرادة سرى ذلك إلى البدن بالضّرورة، ولهذا قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم:«ألا إنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب» ، وقال أبو هريرة- رضي الله عنه: «القلب ملك والأعضاء جنوده فإذا طاب الملك طابت جنوده.
إنّه إذا كان عمل القلب من الأمور الباطنة، وعمل الجسد من الأمور الظّاهرة، فإنّ الظّاهر تابع للباطن لازم له، متى صلح الباطن صلح الظّاهر، وإذا فسد فسد، ولهذا قال من قال من الصّحابة عن المصلّي العابث: لو خشع قلب هذا خشعت جوارحه «2» ، وهكذا فإنّه لمّا كانت الطّاعات كلّها داخلة في الإيمان لم يفرّق الله عز وجل بينها وبينه في قوله سبحانه:
حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ (الحجرات/ 7) ، فأدخل في الإيمان جميع الطّاعات لأنّه سبحانه حبّب إليهم ذلك حبّ تديّن، وكرّه إليهم الكفر والفسوق وسائر المعاصي كراهة تديّن، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:«من سرّته حسنته وساءته سيّئته فهو مؤمن» لأنّ الله سبحانه حبّب إلى المؤمنين الحسنات وكرّه إليهم السّيّئات «3» .
إنّ الأخلاق الفاضلة من نحو صدق الحديث وأداء الأمانة وبرّ الوالدين وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، والجهاد للكفّار والمنافقين، والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين وابن السّبيل والمملوك من الآدميّين والبهائم، والدّعاء والذّكر وتلاوة القرآن، وكذلك حبّ الله ورسوله، وخشية الله والإنابة إليه، وإخلاص الدّين له، والصّبر لحكمه، والشّكر لنعمه، والرّضا بقضائه، والتّوكّل عليه والرّجاء لرحمته، والخوف من عذابه وأمثال ذلك، كلّها داخلة في مفهوم العبادة، وذلك أنّ العبادة هي الغاية المحبوبة لله والمرضيّة له «4» ، كما قال تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (الذاريات/ 56) وبها أرسل الله جميع الرّسل، كما قال نوح لقومه: اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ (المؤمنون/ 23) ، والدّين كلّه داخل في العبادة الّتي تتضمّن غاية الذّلّ لله بغاية المحبّة له «5» ، ومن هنا تكون فضائل الأخلاق ومكارمها داخلة في إطار الدّين وركنا أساسيّا من أركانه.
إنّ هذه الأخلاق الإيمانيّة- كما أطلق عليها
(1) الفتاوى (7/ 186) بتصرف.
(2)
المرجع السابق (7/ 187) .
(3)
المرجع السابق (7/ 42- 43) بتصرف واختصار.
(4)
المرجع السابق (10/ 149- 150) بتصرف يسير.
(5)
المرجع السابق (10/ 152) . وانظر صفة «العبادة» .