الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عبد الله، والحسن البصريّ وغيرهم، وزاد الحسن: وهي علينا واجبة، نقله عنهم ابن كثير.
وقال القرطبيّ في تفسيره: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ، والظَّالِمُونَ، والْفاسِقُونَ. نزلت كلّها في الكفّار ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث البراء، وعلى هذا المعظم «1» ، فأمّا المسلم فلا يكفّر وإن ارتكب كبيرة.
وقيل: فيه إضمار، أي وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ ردّا للقرآن وجحدا لقول الرّسول صلى الله عليه وسلم فهو كافر، قاله ابن عبّاس، ومجاهد، فالاية عامّة على هذا. قال ابن مسعود والحسن: هي عامّة في كلّ من لم يحكم بما أنزل الله من المسلمين واليهود والكفّار، أيّ معتقدا ذلك ومستحلّا له، فأمّا من فعل ذلك وهو معتقد أنّه مرتكب محرّم فهو من فسّاق المسلمين وأمره إلى الله تعالى إن شاء عذّبه وإن شاء غفر له «2» .
الحكم بغير ما أنزل الله:
قال ابن تيميّة- رحمه الله تعالى-: نزلت هذه الآيات بسبب الحكم في الحدود والقصاص والدّيات، أخبر أنّ التّوراة يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ (المائدة/ 44) وهذا عامّ في النّبيّين جميعهم، ثمّ لمّا ذكر الإنجيل قال:
وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ (المائدة/ 47) لأنّ الإنجيل بعض ما في التّوراة، والحكم بما أنزل الله فيه حكم بما في التّوراة أيضا، ثمّ قال (للرّسول صلى الله عليه وسلم : وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ.. (المائدة/ 49)، أمره أن يحكم بما أنزل الله إليه على من قبله «3» ونقل- رحمه الله عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما قوله الآية الكريمة وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (المائدة/ 44) .. عند ما قيل له: ما هذا الكفر؟ قال:
كفر لا ينقل عن الملّة، مثل الإيمان بعضه دون بعض، فكذلك الكفر «4» .
من العبادة الحكم بما أنزل الله:
قال الشّيخ عبد العزيز بن باز: وفسّر العلماء رحمهم الله العبادة بمعان متقاربة من أجمعها ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيميّة إذ يقول: العبادة اسم جامع لكلّ ما يحبّه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، وهذا يدلّ على أنّ العبادة تقتضي الانقياد التّامّ لله تعالى أمرا ونهيا واعتقادا وقولا وعملا، وأن تكون حياة المرء قائمة على شريعة الله يحلّ ما أحلّ الله ويحرّم ما حرّم، ويخضع في سلوكه وأعماله وتصرّفاته كلّها لشرع الله متجرّدا من حظوظ نفسه، ونوازع هواه، ليستوي في هذا الفرد والجماعة، والرّجل والمرأة فلا يكون عابدا لله من خضع لربّه في بعض جوانب حياته وخضع للمخلوقين في جوانب أخرى، وهذا المعنى يؤكّده قول الله تعالى فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى
(1) المعظم: أي معظم التابعين والمفسرين. وسنذكر هذه الآراء بشيء من التفصيل في «الآثار» الواردة في هذه الصفة.
(2)
أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشنقيطى (ج 2 90- 91) .
(3)
الفتاوى 19/ 113 (بتصرف يسير) .
(4)
الفتاوى 7/ 254.
يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً وقال سبحانه وتعالى أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وما روي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يؤمن أحدكم حتّى يكون هواه تبعا لما جئت به» . فلا يتمّ إيمان العبد إلّا إذا آمن بالله ورضي حكمه في القليل والكثير، وتحاكم إلى شريعته وحدها في كلّ شأن من شئونه في الأنفس والأموال والأعراض، وإلّا كان عابدا لغيره، كما قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فمن خضع لله سبحانه وتعالى، وأطاعه وتحاكم إلى وحيه فهو العابد له ومن خضع لغيره وتحاكم إلى غير شرعه فقد عبد الطّاغوت، وانقاد له كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً والعبوديّة لله وحده والبراءة من عبادة الطّاغوت والتّحاكم إليه من مقتضى شهادة أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له وأنّ محمّدا عبده ورسوله، فالله سبحانه هو ربّ النّاس وإلههم، وهو الّذي خلقهم، وهو الّذي يأمرهم وينهاهم ويحييهم ويميتهم ويحاسبهم، ويجازيهم وهو المستحقّ للعبادة دون كلّ ما سواه، قال تعالى أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ فكما أنّه الخالق وحده فهو الأمر سبحانه والواجب طاعة أمره، وقد حكى الله عن اليهود أنّهم اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، لمّا أطاعوهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال، قال الله تعالى اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (التوبة/ 31) ، وقد روي عن عديّ بن حاتم- رضي الله عنه أنّه ظنّ أنّ عبادة الأحبار والرّهبان إنّما تكون في الذّبح لهم، والنّذر لهم والسّجود والرّكوع لهم فقط وذلك عند ما قدم على النّبيّ صلى الله عليه وسلم مسلما وسمعه يقرأ هذه الآية فقال: يا رسول الله إنّا لسنا نعبدهم يريد بذلك النّصارى، حيث كان نصرانيّا قبل إسلامه قال صلى الله عليه وسلم:«أليس يحرّمون ما أحلّ الله فتحرّمونه ويحلّون ما حرّم فتحلّونه» . قال: بلى قال:
«فتلك عبادتهم» .
قال ابن كثير في تفسيره: ولهذا قال تعالى:
وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً أي الّذي إذا حرّم الشّيء فهو الحرام، وما حلّله فهو الحلال، وما شرعه اتّبع وما حكم به نفّذ لا إله إلّا هو سبحانه عمّا يشركون أي تعالى، وتقدّس، وتنزّه عن الشّركاء والنّظراء والأعوان والأضداد والأولاد، لا إله إلّا هو ولا ربّ سواه.
إذا علم أنّ التّحاكم إلى شرع الله من مقتضى شهادة أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّدا عبده ورسوله، فإنّ التّحاكم إلى الطّواغيت والرّؤساء والعرّافين ينافي الإيمان بالله- عز وجل وهو كفر وظلم وفسق يقول الله تعالى:
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ
ويقول: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ويقول وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ وبيّن تعالى أنّ الحكم بغير ما أنزل الله حكم الجاهلين، وأنّ الإعراض عن حكم الله تعالى سبب في حلول عقابه وبأسه الّذي لا يردّ عن القوم الظّالمين، يقول سبحانه: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ* أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ.
وإنّ القارى لهذه الآية والمتدبّر لها، يتبيّن له أنّ الأمر بالتّحاكم إلى ما أنزل الله أكّد بمؤكّدات ثمانية؛ الأوّل: الأمر به في قوله تعالى وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ الثّاني: أن لا تكون أهواء النّاس ورغباتهم مانعة من الحكم به بأيّ حال من الأحوال، وذلك في قوله وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ. الثّالث: التّحذير من عدم تحكيم شرع الله في القليل والكثير والصّغير والكبير، يقول سبحانه وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ. الرّابع: أنّ التّولّي عن حكم الله وعدم قبول شيء منه ذنب عظيم موجب للعقاب الأليم، قال تعالى فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ. الخامس: التّحذير من الاغترار بكثرة المعرضين عن حكم الله؛ فإنّ الشّكور من عباد الله قليل، يقول تعالى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ.
السّادس: وصف حكم بغير ما أنزل الله بأنّه حكم الجاهليّة يقول سبحانه أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ.
السّابع: تقرير المعنى العظيم بأنّ حكم الله أحسن الأحكام وأعدلها، يقول عز وجل وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً. الثّامن: إنّ مقتضى اليقين هو العلم بأنّ حكم الله هو خير الأحكام وأكملها وأتمّها وأعدلها وأنّ الواجب الانقياد له مع الرّضا والتّسليم، يقول سبحانه وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ.
وهذه المعاني الموجودة في آيات كثيرة من القرآن تدلّ عليها أقوال الرّسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله فمن ذلك قول الله سبحانه فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ
وقوله فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ الآية، وقوله: اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ، وقوله: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وروي عن الرّسول صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «لا يؤمن أحدكم حتّى يكون هواه تبعا لما جئت به» «1» .
وقوله صلى الله عليه وسلم لعديّ بن حاتم: «أليس يحلّون ما حرّم الله فتحلّونه ويحرّمون ما أحلّ الله فتحرّمونه قال: بلى، قال: فتلك عبادتهم» وقال ابن عبّاس- رضي الله عنهما لبعض من جادله في بعض المسائل:
«يوشك أن تنزّل عليكم حجارة من السّماء أقول قال
(1) قال النووي: حديث صحيح رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح.
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر» ، ومعنى هذا أنّ العبد يجب عليه الانقياد التّامّ لقوله تعالى، وقول رسوله وتقديمهما على قول كلّ واحد، وهذا أمر معلوم من الدّين بالضّرورة.
وإذا كان من مقتضى رحمته وحكمته سبحانه وتعالى أن يكون التّحاكم بين العباد بشرعه ووحيه؛ لأنّه المنزّه عمّا يصيب البشر من الضّعف والهوى والعجز والجهل، فهو سبحانه الحكيم العليم اللّطيف الخبير، يعلم أحوال عباده وما يصلحهم، وما يصلح لهم في حاضرهم ومستقبلهم، ومن تمام رحمته أن تولّى الفصل بينهم في المنازعات والخصومات وشئون الحياة، ليتحقّق لهم العدل والخير والسّعادة بل والرّضا والاطمئنان النّفسيّ، والرّاحة القلبيّة، ذلك أنّ العبد إذا علم أنّ الحكم الصّادر في القضيّة الّتي يخاصم فيها، هو حكم الله الخالق العليم الخبير، قبل ورضي وسلّم حتّى ولو كان الحكم خلاف ما يهوى ويريد، بخلاف ما إذا علم أنّ الحكم صادر من أناس بشر مثله، لهم أهواؤهم وشهواتهم، فإنّه لا يرضى ويستمرّ في المطالبة والمخاصمة ولذلك لا ينقطع النّزاع ويدوم الخلاف، وأنّ الله سبحانه وتعالى إذ يوجب على العباد التّحاكم إلى وحيه رحمة بهم وإحسانا إليهم، فإنّه سبحانه بيّن الطّريق العامّ لذلك أتمّ بيان وأوضحه بقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (النساء/ 58، 59) .
والآية وإن كان فيها التّوجيه العام للحاكم والمحكوم والرّاعي والرّعيّة؛ فإنّ فيها مع ذلك توجيه القضاة والحكّام إلى الحكم بالعدل، فقد أمرهم بأن يحكموا بالعدل، وأمر المؤمنون أن يقبلوا ذلك الحكم الّذي هو مقتضى- ما شرعه الله سبحانه وأنزله على رسوله، وأن يردّوا الأمر إلى الله ورسوله في حال التّنازع والاختلاف. وممّا تقدّم يتبيّن لك أيّها المسلم أنّ تحكيم شرع الله، والتّحاكم إليه ممّا أوجبه الله ورسوله، وأنّه مقتضى العبوديّة لله والشّهادة بالرّسالة لنبيّه محمّد صلى الله عليه وسلم وأنّ الإعراض عن ذلك أو شيء منه، موجب لعذاب الله وعقابه وهذا الأمر سواء بالنّسبة لما تعامل به الدّولة رعيّتها أو ما ينبغي أن تدين به جماعة المسلمين في كلّ مكان وزمان وفي حال الاختلاف والتّنازع الخاصّ والعامّ سواء كان بين دولة وأخرى أو بين جماعة وجماعة، أو بين مسلم وآخر الحكم في ذلك كلّه سواء، فالله سبحانه له الخلق والأمر وهو أحكم الحاكمين، ولا إيمان لمن اعتقد أنّ أحكام النّاس وآراءهم خير من حكم الله ورسوله أو تماثلها وتشابهها، أو تركها وأحلّ محلّها الأحكام الوضعيّة والأنظمة البشريّة، وإن كان معتقدا أنّ أحكام الله خير وأكمل وأعدل فالواجب على عامّة المسلمين وأمرائهم
وحكّامهم، وأهل الحلّ والعقد فيهم، أن يتّقوا الله- عز وجل ويحكّموا شريعته في بلدانهم ويقوا أنفسهم ومن تحت ولايتهم عذاب الله في الدّنيا والآخرة، وأن يعتبروا بما حلّ في البلدان الّتي أعرضت عن حكم الله وسارت في ركاب من قلّد الغربيّين وأتّبع طريقتهم، من الإختلاف والتّفرّق وضروب الفتن وقلّة الخيرات وكون بعضهم يقتل بعضا، ولا يزال الأمر عندهم في شدّة، ولن تصلح أحوالهم ويرفع تسلّط الأعداء عليهم سياسيّا وفكريّا إلّا إذا عادوا إلى الله سبحانه، وسلكوا سبيله المستقيم الّذي رضيه لعباده وأمرهم به ووعدهم به جنّات النّعيم وصدق سبحانه إذ يقول مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى * قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً* قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى
(طه/ 124- 126) ، ولا أعظم من الضّنك الّذي عاقب الله به من عصاه ولم يستجب لأوامره فاستبدل أحكام المخلوق الضّعيف بأحكام الله ربّ العالمين، وما أسفه رأي من لديه كلام الله تعالى لينطق بالحقّ ويفصل في الأمور ويبيّن الطّريق ويهدي الضّالّ ثمّ ينبذه ليأخذ بدلا منه أقوال رجل من النّاس أو نظام دولة من الدّول، ألم يعلم هؤلاء أنّهم خسروا الدّنيا والآخرة فلم يحصّلوا الفلاح والسّعادة في الدّنيا، ولم يسلموا من عقاب الله وعذابه يوم القيامة.
وقال الشّيخ عبد العزيز بن باز: أسأل الله أن يجعل كلمتي هذه مذكّرة للقوم ومنبّهة لهم للتّفكّر في أحوالهم والنّظر فيما فعلوه بأنفسهم وشعوبهم فيعودوا إلى رشدهم، ويلزموا كتاب الله وسنّة رسوله ليكونوا من أمّة محمّد صلى الله عليه وسلم حقّا وليرفع ذكرهم بين شعوب الأرض كما ارتفع به السّلف الصّالح والقرون المفضّلة من هذه الأمّة حتّى ملكوا الأرض وسادوا الدّنيا. ودانت لهم العباد، كلّ ذلك بنصر الله الّذي ينصر المؤمنين الّذين استجابوا له ولرسوله، ألا ليتهم يعلمون أيّ كنز أضاعوا، وأيّ جرم ارتكبوا، وما جرّوه على أممهم من البلاء والمصائب قال الله تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (الزخرف/ 44) ، وجاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم ما معناه «أنّ القرآن يرفع من الصّدور والمصاحف في آخر الزّمان حين يزهد فيه أهله ويعرضون عنه تلاوة وتحكيما» فالحذر الحذر أن يصاب المسلمون بهذه المصيبة، أو تصاب بها أجيالهم المقبلة بسبب صنيعهم، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
وأوجّه نصيحتي أيضا إلى أقوام من المسلمين يعيشون بينهم وقد علموا الدّين، وشرع ربّ العالمين، ومع ذلك لا زالوا يتحاكمون عند النّزاع إلى رجال يحكمون بينهم بعادات وأعراف ويفصلون بينهم بعبارات ومسجّعات مشابهين في ذلك صنيع أهل الجاهليّة الأولى وأرجو ممّن بلغته موعظتي هذه منهم أن يتوب إلى الله وأن يكفّ عن تلك الأفعال المحرّمة ويستغفر الله ويندم على مافات، وأن يتواصى مع