الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والآخر: ما يرد على النّفس بضدّ ما تشتهيه من المخلوقين فمن تعوّد الحلم فليس بمحتاج إلى التّصبّر لاستواء العدم والوجود عنده «1» .
بيان الأسباب الدافعة للحلم:
قال الماورديّ- رحمه الله تعالى-: الحلم من أشرف الأخلاق وأحقّها بذوي الألباب لما فيه من سلامة العرض وراحة الجسد واجتلاب الحمد.
وأسباب الحلم الباعثة عليه عشرة وهي:
(1)
الرّحمة للجهّال، وذلك من خير يوافق رقّة، وقد قيل في منثور الحكم: من أوكد أسباب الحلم رحمة الجهّال.
(2)
القدرة على الانتصار، وذلك من سعة الصّدر وحسن الثّقة.
(3)
التّرفّع عن السّباب، وذلك من شرف النّفس وعلوّ الهمّة. وقد قيل: إنّ الله تعالى سمّى نبيّه يحيى عليه السلام سَيِّداً وذلك لحلمه ولذلك قال الشّاعر:
لا يبلغ المجد أقوام وإن كرموا
…
حتّى يذلّوا وإن عزّوا لأقوام
ويشتموا فترى الألوان مسفرة
…
لا صفح ذلّ ولكن صفح أحلام
(4)
الاستهانة بالمسيء، وذلك عن ضرب من الكبر ومن مستحسنه ما روي أنّ مصعب بن الزّبير لمّا وليّ العراق جلس يوما لعطاء الجند، وأمر مناديه فنادى: أين عمرو بن جرموز؟ وهو الّذي قتل أباه الزّبير بن العوّام- رضي الله عنه فقيل له: إنّه قد تباعد في الأرض. فقال: أو يظنّ الجاهل أنّي أقيده بأبي عبد الله؟ فليظهر آمنا ليأخذ عطاءه موفّرا.
(5)
الاستحياء من جزاء الجواب، والباعث عليه صيانة النّفس وكمال المروءة، ولذلك قيل: ما أفحش حليم ولا أوحش كريم.
(6)
التّفضّل على السّابّ، ويبعث عليه الكرم وحبّ التّألّف، وقد حكي عن الأحنف بن قيس أنّه قال: ما عاداني أحد قطّ إلّا أخذت في أمري بإحدى ثلاث خصال: إن كان أعلى منّي عرفت له قدره، وإن كان دوني رفعت قدري عنه، وإن كان نظيري تفضّلت عليه.
(7)
استنكاف السّبابّ وقطع سببه، والباعث عليه الحزم، وقد قال الشّعبيّ- رحمه الله تعالى-: ما أدركت أمّي فأبرّها، ولكن لا أسبّ أحدا فيسبّها ولذلك قيل: في إعراضك صون أعراضك. وقد قال الشّاعر:
وفي الحلم ردع للسّفيه عن الأذى
…
وفي الخرق إغراء فلا تك أخرقا
وقال آخر:
قل ما بدا لك من زور ومن كذب
…
حلمي أصمّ وأذني غير صمّاء
(1) من روضة العقلاء (208- 214) بتصرف.
(8)
الخوف من العقوبة على الجواب، ويبعث عليه ضعف النّفس وربّما أوجبه الرّأي واقتضاه الحزم وقد قيل: الحلم حجاب الآفات. وقال الشّاعر في هذا:
ارفق إذا خفت من ذي هفوة خرقا
…
ليس الحليم كمن في أمره خرق
(9)
الرّعاية ليد سالفة وحرمة لازمة: والباعث عليه الوفاء وحسن العهد.
(10)
المكر وتوقّع الفرص الخفيّة: ويبعث عليه الدّهاء، وقد قال بعض الأدباء:
غضب الجاهل في قوله، وغضب العاقل في فعله. قال إياس بن قتادة:
تعاقب أيدينا ويحلم رأينا
…
ونشتم بالأفعال لا بالتّكلّم
فهذه عشرة أسباب تدعو إلى الحلم، وبعض الأسباب أفضل من بعض، وإذا كان بعض أسبابه مفضولا؛ فإنّ ذلك لا يقتضي أنّ نتيجته من الحلم مذمومة، وإنّما الأولى بالإنسان أن يدعوه للحلم أفضل أسبابه، وإن كان الحلم كلّه فضلا، وإن عري الحلم عن أحد هذه الأسباب كان ذلّا ولم يكن حلما، ولذلك قال الشّاعر:
من يدّعي الحلم أغضبه لتعرفه
…
لا يعرف الحلم إلّا ساعة الغضب
ومن أحكم أبيات في تدبير الحلم والغضب ما قال أبو حاتم:
إذا أمن الجهّال جهلك مرّة
…
فعرضك للجهّال غنم من الغنم
فعمّ عليه الحلم والجهل والقه
…
بمنزلة بين العداوة والسّلم
إذا أنت جاريت السّفيه كما جرى
…
فأنت سفيه مثله غير ذي حلم
ولا تعضبن عرض السّفيه وداره
…
بحلم فإن أعيا عليك فبالصّرم
فيرجوك تارات ويخشاك تارة
…
ويأخذ فيما بين ذلك بالحزم
فإن لم تجد بدّا من الجهل فاستعن
…
عليه بجهّال فذاك من العزم
وقال الماورديّ: وهذه من أحكم أبيات وجدتها في تدبير الحلم والغضب، وهذا التّدبير إنّما يستعمل فيما لا يجد الإنسان بدّا من مقارفته ولا سبيل إلى اطّراحه ومتاركته، إمّا لخوف شرّه، أو للزوم أمره.
وأمّا من أمكن اطّراحه، ولم يضرّ إبعاده فالهوان به أولى، والإعراض عنه أصوب، وهو في هذه الحال استفاد بتحريك الغضب فضائله وأمن بكفّ نفسه عن الانقياد له، وصار الحلم مدبّرا للأمور المغضبة، بقدر لا يعتريه نقص بعدم الغضب، ولا يلحقه زيادة بفقد الحلم ولو عزب عنه الحلم حتّى انقاد لغضبه ضلّ عنه وجه الصّواب فيه، وضعف رأيه عن خبرة أسبابه ودواعيه حتّى يصير بليد الرّأي مغمور الرّويّة مقطوع الحجّة مسلوب العزاء، قليل الحيلة مع ما يناله من أثر ذلك في نفسه وجسده حتّى يصير أضرّ عليه ممّا غضب له، فينبغي لذي اللّبّ السّويّ والحزم القويّ أن يتلقّى قوّة الغضب بحلمه فيصدّها، ويقابل دواعي