المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب الوطء الذي يوجب الحد والذي لا يوجبه - التنبيه على مشكلات الهداية - جـ ٤

[ابن أبي العز]

فهرس الكتاب

- ‌كتاب العتاق

- ‌فصل:

- ‌باب العبد يعتق بعضه

- ‌باب عتق أحد العبدين

- ‌باب العتق على الجعل

- ‌باب التدبير

- ‌باب الاستيلاد

- ‌كتاب الأيمان

- ‌باب: ما يكون يمينا وما لا يكون

- ‌فصل في الكفارة:

- ‌باب اليمين في الخروج والإتيان والركوب وغير ذلك

- ‌باب اليمين في الأكل والشرب

- ‌باب اليمين في الكلام

- ‌فصل:

- ‌باب اليمين في العتق والطلاق

- ‌باب اليمين في الحج والصوم والصلاة

- ‌باب اليمين في تقاضي الدراهم

- ‌كتاب الحدود

- ‌فصل في كيفية الحد وإقامته:

- ‌باب الوطء الذي يوجب الحد والذي لا يوجبه

- ‌باب الشهادة على الزنا والرجوع عنها

- ‌باب حد الشرب

- ‌باب حد القذف

- ‌فصل في التعزير:

- ‌كتاب السرقة

- ‌باب ما يقطع فيه وما لا يقطع

- ‌[فصل في الحرز والأخذ منه]:

- ‌فصل في كيفية القطع وإثباته:

- ‌باب ما يحدثه السارق في السرقة

- ‌باب قطع الطريق

- ‌ القطاع إذا كان فيهم صبي أو مجنون

- ‌كتاب السير

- ‌باب كيفية القتال

- ‌باب الموادعة ومن يجوز أمانه

- ‌باب الغنائم وقسمتها

- ‌فصل في كيفية القسمة:

- ‌اختلف العلماء في قسمة خمس الغنيمة

- ‌فصل في التنفيل:

- ‌باب استيلاء الكفار

- ‌باب المستأمن

- ‌باب العشر والخراج

- ‌باب الجزية

- ‌فصل:

- ‌باب أحكام المرتدين

- ‌باب البغاة

- ‌كتاب اللقطة

- ‌كتاب الإباق

- ‌كتاب المفقود

- ‌كتاب الشركة

- ‌كتاب الوقف

- ‌كتاب البيوع

- ‌فصل

- ‌باب خيار الشرط

- ‌باب خيار الرؤية

- ‌باب خيار العيب

- ‌باب البيع الفاسد

- ‌بيع أم الولد والمدبر والمكاتب

- ‌فصل في أحكامه

- ‌ الفرق بين الفاسد والباطل

- ‌فصل في ما يكره

- ‌باب المرابحة والتولية

- ‌باب الربا

- ‌باب السلم

- ‌ الاستصناع

- ‌مسائل منثورة:

- ‌كتاب الصرف

- ‌كتاب الكفالة

- ‌كتاب الحوالة

- ‌كتاب أدب القاضي

- ‌فصل في الحبس

- ‌باب التحكيم

- ‌مسائل شتى من كتاب القضاء:

- ‌باب في القضاء بالمواريث

- ‌كتاب الشهادات

- ‌فصل

- ‌باب من تقبل شهادته ومن لا يتقبل

- ‌ شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض

- ‌ شهادة الذمي على المسلم)

- ‌باب الاختلاف في الشهادة

- ‌باب الشهادة على الشهادة

- ‌فصل:

- ‌كتاب الرجوع عن الشهادة

- ‌كتاب الوكالة

- ‌فصل في البيع:

- ‌فصل:

- ‌باب الوكالة بالخصومة والقبض

- ‌كتاب الدعوى

- ‌باب التحالف

- ‌باب ما يدعيه الرجلان

- ‌باب دعوى النسب

الفصل: ‌باب الوطء الذي يوجب الحد والذي لا يوجبه

‌باب الوطء الذي يوجب الحد والذي لا يوجبه

قوله: (ثم الشبهة عند أبي حنيفة رحمه الله -تثبت بالعقد وإن كان متفقًا على تحريمه وهو عالم به، وعند الباقين لا تثبت إذا علم بتحريمه، ويظهر ذلك في نكاح المحارم على ما يأتيك إن شاء الله تعالى).

واستدل لأبي حنيفة بعد ذلك في الكلام على المسألة بأن العقد صادق محله، لأن محل التصرف ما يقبل مقصوده، والأنثى من بنات آدم قابلة للتوالد وهو المقصود وكان ينبغي أن ينعقد في جميع الأحكام، إلا أنه تقاعد عن إفادة حقيقة الحل فيورث الشبهة، ولأن الشبهة ما يشبه الثابت، لا نفس الثابت، إلا أنه ارتكب جريمة، وليس فيها حد مقدر فيعزر، وقول الصاحبين في هذه المسألة الموافق لقول جمهور العلماء هو الذي يتعين المصير إليه، ولا شك أن هذا الذي زنا بأمه وغيرها من المحرمات المجمع على تحريمهن بعد أن تزوج بها، قد ضم معصية إلى معصية فإن من عقد نكاحه على محرمه فقد تلاعب بالشريعة، واتخذ آيات الله هزوًا، فإن لم يوجب ذلك تغليظ العقوبة عليه لا يوجب التخفيف عنه، وقول المصنف: إن العقد صادق محله إلى آخر

ص: 148

تعليله، مردود بأن الشارع أخرجها عن محلية النكاح في حق محرمها، وليس المراد أن الشارع أخرجها عن محلية التوالد بل عن إضافة العقد إليها، ومن جهة الشارع عرف العقد وهو لم يجعل العقد مؤثرًا في المحارم شيئًا، فصار وجوده كعدمه بل وجوده أردى من عدمه، لأن فاعله عاصٍ يستحق عقوبة أخرى مع الحد.

وقوله: إن الشبهة ما يشبه الثابت لا نفس الثابت.

وجوابه: أنا لو أسقطنا الحد بكل شبهة وكل احتمال لم يجب حد أصلاً ولأن مطلق الشبهة غير كاف كما إذا وطئ جارية أخته أو عمه وقال: ظننت أنها تحل لي، وكما قالوا فيمن وطئ من طلقها ثلاثًا بكلمة واحدة في عدتها، وكما قالوا فيمن وجد امرأة على فراشه فوطئها على ظن أنها امرأته أنه لا يعذر ولو كان أعمى، وكما قال أبو حنيفة [فيمن أكرهه غير السلطان] أنه يحد وسيأتي الكلام في ذلك -إن شاء الله تعالى-.

فمن لا يرى ذلك شبهة كيف يرى أن عقد نكاحه على أمه أو أخته شبهة، وعن البراء بن عازب قال:"لقيت خالي ومعه الراية فقلت: أين تريد؟ فقال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم -إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده أن أضرب عنقه وآخذ ماله" رواه الخمسة ولم يذكر ابن ماجه والترمذي أخذ المال.

ص: 149

وقد أجاب الطحاوي عن هذا بأنه ليس فيه ذكر الرجم، وإنما فيه القتل فيحمل على أنه قتله لأنه فعل مستحلاً له فصار مرتدًا، فقتله لارتداده واستدل لذلك بأنه ليس فيه ذكر الدخول بها.

وغاية ما قاله الطحاوي تعطيل الدلالة من الحديث على إيجاب/ الحد، والاعتماد في إيجاب الحد ليس على الحديث المذكور بل لدخول هذا الفعل في حد الزنا الموجب لحده، والاعتضاد بهذا الحديث، ووجه الاعتضاد به أن هذا القتل يحتمل أنه لاستحلاله الفعل، كما ذكر، ويحتمل أنه لاتخاذه آيات الله هزوًا وتلاعبه بالدين فاتفاق العلماء على ترك قتل غير المستحيل لما ذكر من الاحتمال، لا يمنع من إقامة الحد عليه وتعزيزه مع الحد بما يراه الإمام لتلاعبه بالدين فإن بالعقد على المحرم معصية أخرى ولو قيل بتغليظ العقوبة على من زنا بمحرمه بغير عقد لأنه أبلغ من الزنا بالأجنبية لكان ظاهرًا، فكيف إذا ضم إلى ذلك عقدًا باطلاً.

قوله: (ومن طلق امرأته ثلاثًا ثم وطئها في العدة، وقال: علمت أنها علي حرام حد لزوال الملك المحلل من كل وجه فتكون الشبهة منفية، وقد نطق الكتاب بانتفاء الحل، وعلى ذلك انعقد إجماع الأمة ولا يعتبر قول المخالف فيه، لأنه خلاف لا اختلاف).

إن أراد بقوله: وقد نطق الكتاب بانتفاء الحل المطلقة طلقة ثالثة، فهذا لم يخالف فيه أحد من المسلمين فيكون قوله: ولا يعتبر قول المخالف فيه، كلامًا

ص: 150

لا حاجة إليه، وإن أراد به المطلقة ثلاثًا بكلمة واحدة فلم ينطق الكتاب بانتفاء حلها وقوله: وعلى ذلك انعقد الإجماع، لو قال: لا أعلم فيه خلافًا كان أولى من دعوى الإجماع، فإن ابن عباس كان يقول: إن إيقاع الثلاث بكلمة واحدة تقع به واحدة رجعية وهو مذهب طاووس وعكرمة وتقدم حكايته عن أهل الظاهر وعن محمد بن إسحاق، وتقدم ذكر قول من فصل بين

ص: 151

كونه قبل الدخول وبعده، والمصنف قد حكى هنا أن في المسألة اختلافًا ولم يرد قول المخالف إلا بأن قوله خلاف لا اختلاف، ويريد بذلك أنه قول على خلاف الكتاب والسنة وليس هذا إنصافًا منه.

قوله: (ومن وجد امرأة على فراشه فوطئها فعليه الحد لأنه لا اشتباه بعد طول الصحبة، فلم يكن الظن مستندًا إلى دليل، وهذا لأنه قد ينام على فراشها غيرها من المحارم التي في بيتها وكذا إذا كان أعمى يمكنه التمييز بالسؤال وغيره).

مقتضى تعليله أنه يفرق بينهما إذا طالت الصحبة أو قصرت وليس كذلك، ولا شك أنه لا يأثم بذلك بل قد يثاب بنيته، كما أنه لو جامع من يظنها أجنبية فبانت زوجته أو أمته أثم على ذلك بقصده ونيته للحرام، وأيضًا فإن مثل هذا يكون من قبيل الخطأ، وهو مرفوع الإثم بالاتفاق وفي رفع الحكم اختلاف فكيف لا تكون شبهة يدرأ بها الحد، وقول المصنف: قد ينام على فراشها غيرها من المحارم التي في بيتها، يعارض بمن ليس في بيته غير امرأته عادة، ولم يقل بالتفصيل، والأعمى أعذر من البصير في الكلام والقول بحده والحالة هذه في غاية البعد.

قوله: (ومن أتى امرأة في الموضع المكروه أو عمل عمل قوم لوط فلا حد عليه عند أبي حنيفة ويعزر، وزاد في الجامع الصغير: ويودع السجن.

ص: 152

وقالا: هو كالزنا فيحد. وهو أحد قولي الشافعي، وقال في قول: يقتلان بكل حال لقوله عليه الصلاة والسلام"اقتلوا الفاعل والمفعول به" ويروى "ارجموا الأعلى والأسفل" ولهما أنه في معنى الزنا لأنه قضاء الشهوة في محل مشتهى على سبيل الكمال على وجه تمحض حرامًا لقصد سفح الماء، وله أنه ليس بزنا لاختلاف الصحابة رضي الله عنهم -في موجبه من الإحراق بالنار وهدم الجدار، والتنكيس من مكان مرتفع بإتباع الأحجار، وغير ذلك، ولا هو في معنى الزنا لأنه ليس فيه إضاعة الولد واشتباه الأنساب، وكذا هو أندر وقوعًا لانعدام الداعي في أحد الجانبين، والداعي إلى الزنا من الجانبين، وما رواه محمول على السياسة أو على المستحل إلا أنه يعزر عنده لما بيناه).

اختلف العلماء في حكم اللائط فذهب مالك وإسحاق وربيعة والشعبي وجابر بن زيد، وعبيد الله بن معمر، والزهري، والشافعي في

ص: 153

أحد قوليه وأحمد في رواية إلى أنه يرجم بكل حال بكرًا كان أو ثيبًا، وهو قول علي وابن عباس رضي الله عنهما، وذهب أبو يوسف ومحمد والشافعي في قوله الآخر وأحمد في رواية وأبو ثور إلى أنه يرجم إن كان محصنًا، ويجلد إن كان بكرًا، وكذا قال سعيد بن المسيب وعطاء والحسن/ وقتادة، وذهب أبو حنيفة والحكم إلى أنه يعزر، وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه -أنه أمر بتحريقه، وهو قول ابن الزبير ذكر ذلك ابن المنذر، وابن قدامة يزيد أحدهما على الآخر، ووجه قول من قال إنه يرجم بكل حال: حديث ابن عباس رضي الله عنهما -قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم -

ص: 154

"من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به" رواه الخمسة إلا النسائي، وقال الترمذي: وكذا روي عن أبي هريرة، وقال صاحب المغني: وفي لفظ "فارجموا الأعلى والأسفل" قال: ولأنه إجماع الصحابة رضي الله عنهم -فإنهم أجمعوا على قتله، وإنما اختلفوا في صفته، قال: واحتج أحمد بعلي رضي الله عنه -فإنه كان يرى رجمه، ولأن الله تعالى عذب قوم لوط بالرجم فينبغي أن يعاقب من فعل فعلهم بمثل عقوبتهم. انتهى.

ووجه قول من قال إن حكمه حكم الزاني ما روي أنه صلى الله عليه وسلم -قال: "إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان" ذكره في المغني، ولأنه قضاء الشهوة على

ص: 155

وجه الكمال على أتم وجوه التحريم، فإنه لم يبح بحال، لقصد سفح الماء، وما استدل به المصنف لأبي حنيفة -وإن كان مراده أن اختلافهم في كيفية القتل ينفي أن يكون الفعل زنًا -فهو يرد عليه الاكتفاء بالتعزيز فيه، فإن اختلافهم على قولين أو ثلاثة يكون بمنزلة إجماعهم على أن ما عداها باطل، فإنه ليس لأحد بعدهم إحداث قول آخر.

وكذلك في قوله: ولا هو في معنى الزنا، لأنه ليس في إضاعة الولد فإن في اللواط إضاعة الولد بسفح الماء في غير محل الحرث.

وكذلك في قوله: واشتباه الأنساب فإنه لا يصلح أن يكون علة الشرع في الزنا فإن الزنا لا نسب فيه، ونسب الولد من الزاني منقطع ولو علم أنه ما وطئها غيره، وإن كان يحصل ذلك في وطء ذات الزوج، فلو كان ذلك هو علة وجوب الزنا لم يشرع في وطء غير المزوجات والمسافحات بل في ذوات

ص: 156

الأخدان فقط وهو مشروع في الكل.

وكذلك في قوله: هو أندر وقوعًا لانعدام الداعي في أحد الجانبين، والداعي إلى الزنا من الجانبين. فإنه إن لم يكن في معنى الزنا من هذا الوجه ففيه خصال من القبح تربو على الزنا من وجوه:

منها: أن بعض الفسقة يستغني به عن النساء بل يفضله على إتيان النساء مخافة من مجيء الولد، فيفوت بسبب ذلك التناسل المطلوب من التناكح ويفوت التحصين المطلوب منه أيضًا فيفضي إلى استغناء المرأة بالمرأة كما استغنى الرجل بالرجل.

ومنها: أن الداعي لما لم يكن في اللواط من الجانبين، فقد يفضي إلى أن المفعول به يعمل على قتل الفاعل، وينشأ من قتله إياه التقاتل والعداوة والبغضاء الذي هو أردى وجوه الفساد، لأنه لما لم يكن له داع إلى الفعل فمطاوعته له إما لما يعطيه من السحت أو لخوفه منه أو نحو ذلك فكان هذا الفعل أولى بشرع الزاجر من الزنا.

ومنها: أن النفوس الخبيثة -المتعدية حدود الله -أقوى الدواعي إلى ذلك، فالحد فيه أولى من الحد في الزنا وهذا يعلم من أشعارهم فإن فيها ما يدل على ما انطوت عليه ضمائرهم الفاسدة من تفضيلهم إياه على الوطء في القبل، ولهذا رأى كثير من الصحابة والتابعين ومن بعدهم أن حده الرجم مطلقًا، بل أكثرهم على ذلك.

ومنها: أن تلك النطفة الخبيثة إذا حصدت عند المفعول به فسدت وغيرت طباعه إن لم يتداركه الله برحمته، وإلا فسد فسادًا لا يرجى بعده له صلاح،

ص: 157

ولهذا يقال: لا يشتري هذه البضاعة إلا من باعها، أي من فعل به في حال صغره فعل هو بغيره في حال كبره، ومال بطبعه إلى ذلك الفعل القبيح، وكذلك في قوله: وما رواه محمول على السياسة أو على المستحيل فإنه إنما يصح هذا التأويل إن لم يوجد من الصحابة مخالف لما رواه، أما إذا اتفقوا على العمل به وإنما اختلفوا في كيفية العمل به فلا يصح حمله على خلاف ما دل عليه بظاهره.

قوله: (ومن زنا في دار الحرب أو في دار البغي ثم خرج إلينا، لا يقام عليه الحد وعند الشافعي يحد لأنه التزم بإسلامه أحكامه أين ما كان مقامه، ولنا قوله عليه الصلاة والسلام"لا تقام الحدود في دار الحرب" ولأن المقصود هو الانزجار، وولاية الإمام منقطعة فيهما فيعرى الوجوب عن الفائدة، ولا تقام بعد ما خرج لأنها لم تنعقد موجبة فلا تنقلب موجبة، ولو غزا من/ له ولاية الإقامة بنفسه كالخلفية وأمير المصر يقيم الحد على من زنا في معسكره لأنه تحت يده بخلاف أمير العسكر والسرية، لأنه لم يفوض إليها الإقامة).

عن زيد بن ثابت رضي الله عنه -قال "لا تقام الحدود في أرض الحرب مخافة أن يلحق أهلها بالعدو" وعن عمر رضي الله عنه -أن كتب إلى عماله "لا تقيموا الحدود على أحد من المسلمين في أرض الحرب حتى يخرجوا إلى

ص: 158

أرض المصالحة" أخرجهما الشافعي والبيهقي، وعن بسر بن أرطاة "أنه وجد سارقًا يسرق في الغزو فجلده ولم يقطع يده وقال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم -عن القطع في الغزو" أخرجه أحمد وأبو داود والشافعي والبيهقي. وأخرج الترمذي المرفوع فقط، وعند النسائي عنه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم -يقول: لا تقطع الأيدي في السفر"، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه"أنه نهى عن أن يقام على أحد حد في أرض العدو" أخرجه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور ولفظه عن أي الدرداء "أنه كان ينهى أن تقام الحدود على الرجل وهو غاز في سبيل الله عز وجل -حتى يقفل مخافة أن تلحقه الحمية فيلحق بالكفار".

ص: 159

وفي المغني قال: أتي سعد بأبي محجن يوم القادسية وقد شرب الخمر فأمر به إلى القيد، فلما التقى الناس قال أبو محجن:

كفى حزنًا أن تطرد الخيل بالقنا

وأترك مشدودًا علي وثاقيا

فقال لابنه حفصة امرأة سعد أطلقيني ولك الله علي إن سلمني الله أن أرجع حتى أضع رجلي في القيد، وإن قتلت استرحتم مني، قال: فحلته حين التقى الناس وكانت بسعد جراحة فلم يخرج يومئذ إلى الناس، قال: وصعدوا به فوق العذيب ينظر إلى الناس واستعمل على الخيل خالد بن عرفطة، فوثب أبو محجن على فرس لسعد يقال لها البلقاء، ثم أخذ رمحًا ثم خرج فجعل لا يحمل على ناحية من العدو إلا هزمهم، وجعل الناس يقولون: هذا ملك؛ لما يرونه يصنع، وجعل سعد يقول: الضبر ضبر

ص: 160

البلقاء، والطعن طعن أبي محجن، وأبو محجن في القيد فلما هزم العدو ورجع أبو محجن حتى وضع رجليه في القيد فأخبرت ابنة حفصة سعدًا بما كان أمره، فقال سعد: لا والله لا أضرب اليوم رجلاً أبلى الله المسلمين ما أبلاهم فخلى سبيله فقال أبو محجن: قد كنت أشربها إذ يقام علي الحد وأطهر منها فأمما إذ بهر جتني فوالله لا أِربها أبدًا" وقد ذكر هذه القصة أيضًا عبد الرزاق في مصنفه نحوًا مما تقدم، وهذه الأحاديث والآثار لم يرد ما يعارضها ولم ينقل عن أحد من الصحابة خلافها فتنزل منزلة الإجماع، وإنما تدل على أن الحدود لا تقام في دار الحرب إذا كان الإمام في الغزو، ولا تدل على عدم إقامتها على من ارتكب ما يوجبها في دار الحرب ثم خرج إلى دار الإسلام، بل على إقامتها إذا خرج إلى دار الإسلام وهذا عكس ما ادعاه المصنف، وبما دلت عليه هذه السنن والآثار أخذ أحمد والأوزاعي

ص: 161

وإسحاق وقال مالك والشافعي وأبو ثور وابن المنذر: يقام الحد في كل موضع لأن أمر الله بإقامته مطلق في كل مكان وزمان إلا أن الشافعي قال: إذا لم يكن أمير الجيش الإمام أو أمير المصر فليس له إقامة الحد ويؤخر حتى يأتي الإمام لأن إقامة الحدود إليه وكذلك إن كان بالمسلمين حاجة إلى المحدود أو قوة به أخر، وكيف يستدل [بقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تقام الحدود في دار الحرب" على أنها لا تقام على من زنى في دار الحرب ثم خرج إلى دار الإسلام ولا يستدل به] على أنها لا تقام في دار الحرب إذا كان الإمام هناك لولا غفلة لحقت المصنف أو هوى.

وقوله بعد ذلك: -إن الخليفة أو أمير المصر يقيم الحد في دار الحرب على من زنى في معسكره -يرده الحديث الذي ذكره هو، فضلاً عن غيره مما تقدم ذكره من السنن والآثار، والمعنى الذي ذكره أن ولاية الإمام منقطعة فيهما أي في دار الحرب، ودار البغي، لا يفيده في نفي إقامة الحد على من زنى في دار الحرب ثم خرج إلينا.

وقوله بعد ذلك: -ولا يقام الحد بعد ما خرج لأنها لم تنعقد موجبة -

ص: 162

ممنوع، لأنه قد دخل في عموم قوله تعالى:{الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدةٍ} وكونها لا تقام في دار الحرب لأنه غائب عنا لا يمنع من إقامة الحد عليه إذا حضر، وتأخير إقامة الحد لمصلحة راجحة -أعني في حق من زنى من عسكر المسلمين في دار الحرب إما لحاجة المسلمين إليه أو لخوف ارتداده ولحوقه بالكفار -أمر وردت به السنة كا يؤخر عن الحامل حتى تضع، وعن المرضع، وعن وقت الحر والبرد والمرض على التفصيل المعروف، فهذا تأخير لمصلحة المحدود أو لأجل الولد في حق الحامل والمرضع فتأخيره لمصلحة الإسلام أولى وكذلك التأخير في حق من لم يمكن إقامة الحد عليه لغيبته كما لو كان غائبًا في بلد آخر من بلاد المسلمين، وفي جعل حكم الزنا في دار الحرب مغايرًا لحكم الزنا في دار الإسلام من البعد مالا يخفى،

ص: 163

ويرده قول عمر رضي الله عنه -لعماله: لا تقيموا حدًا على أحد من المسلمين حتى يخرجوا إلى أرض المصالحة، وكذلك نهى أبي الدرداء عن أن تقام الحدود على الرجل وهو غاز حتى يقفل. أي: حتى يرجع، وقد تقدم ذلك، وفائدة الزجر تحصل بإقامة الحد عليه بعد خروجه إلينا كما تحصل في حق من يؤخر إقامة الحد عليه لمانعٍ كما تقدم.

قوله: (ولنا أن فعل الزنا يتحقق منه وإنما هي محل الفعل، ولهذا سمي واطئًا وزانيًا، والمرأة موطوءة ومزنيًا بها، إلا أنها سميت زانية مجازًا تسمية للمفعول باسم الفاعل كالراضية بمعنى المرضية، ولكونها متسببة بالتمكين فتعلق الحد في حقها بالتمكين من قبح الزنا، وهو فعل من هو مخاطب بالكف عنه مؤثم على مباشرته، وفعل الصبي ليس بهذه الصفة فلا يناط به الحد).

هذا تعليل لقول أبي حنيفة ومحمد وإحدى الروايتين عن أبي يوسف، وخالف في ذلك زفر، وأبو يوسف في رواية، والأئمة الثلاثة وغيرهم وحجتهم في ذلك أنها زانية فعليها الحد بالنص، وسقوط الحد عن أحدهما

ص: 164

لمعنى فيه، وهو انعدام الأهلية، فلا يمنع إقامة الحد على الآخر كما لو زنى بصبية ألا ترى أن الله تعالى سماها زانية، ومن نسب امرأة إلى الزنا يلزمه الحد، ولو كان لا يتصور منها مباشرة الزنا لم يحد قاذفها به كالمجنون لما أنها بالتمكين تقضي شهوتها كالرجل بالإيلاج، ولما اعترفت الغامدية بالزنا لم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم -عن الذي زنا بها هل هو عاقل أو مجنون، ولو كان جنون الزاني شبهة يدرأ بها الحد عن الزانية لسأل عن ذلك كما سأل عن جنون ماعز لما اعترف بالزنا، وترك الاستفصال ينزل منزلة المقال، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.

قالوا: وأما قولكم: إنها محل الفعل، فلا يمنع ذلك من كونها زانية، وزناها تمكينها من نفسها، وزنا الرجل وطؤه، وليس ذلك من باب عيشة راضية من باب قضاء شهوة الفرج على الوجه المحظور، فكما أن الرجل

ص: 165

قاض شهوته بالمرأة على الوجه المحظور، فكذلك المرأة قاضية شهوتها بالرجل على الوجه المحظور فصح أن يقال زنت به فهي زانية كما في جانب الرجل، وأما قولكم: إنها متسببة بالتمكين فيتعلق الحد في حقها بالتمكين من قبيح الزنا إلى آخره؛ فممنوع، فإنه لم يكن الحد في حقها لذلك فقط بل لقضاء شهوتها بالفعل القبيح المحرم على وجه الكمال وتعلق فعل الزنا بها أقوى من تعلقه بالرجل، ولذلك قال تعالى:{الزانية والزاني فاجلدوا} قدم الزانية في الذكر لأنها هي المادة التي نشأت منها الجناية لأنها لو لم تطمع الرجل ولم تومض له ولم تمكنه لم يطمع ولم يتمكن فلما كانت أصلاً وأولاً في ذلك بدئ بذكرها، وبدئ بذكر الزاني في قوله تعالى:{الزاني لا ينكح إلا زانيًة أو مشركًة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك} لأن هذه الآية مسوقة لذكر النكاح والرجل أصل فيه، لأنه هو الراغب والخاطب ومنه يبدأ الطلب غالبًا، وأما الآية الأولى فسيقت لعقوبتهما على ما جنيا، والمرأة أصل فيها، فظهر قوة قول أبي يوسف وزفر ومن قال بقولهما في هذه المسألة.

قوله: (وإن أكرهه غير السلطان حد عند أبي حنيفة، وقالا: لا يحد لأن الإكراه عندهما قد يتحقق من غير السلطان).

قول الصاحبين هو الصحيح لقوله تعالى: {ولا تكرهوا/ فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنًا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم} ، وهذا النص في جواز إقدام الأمة المكرهة على

ص: 166

البغاء على فعل الزنا، إذ معلوم أن المكرهات من الإماء على البغاء -كما كان المنافق عبد الله بن أبي ابن سلول وأمثاله يفعلون -ليس هو أن يفعل بها بلا فعل منها، بل هو أن تكره حتى تقصد ذلك وتفعله، ولهذا سماه بغاًء وذلك القسم ليس فيه بغاء ولهذا قال:{لتبتغوا عرض الحياة الدنيا} فإذا جاز للأمة الترخص بالإقدام على الزنا بالإكراه، دل على أن الإكراه على الزنا يتحقق ولا يجب فيه حد ولا إثم على المكره وإن تحقق من غير السلطان إذ الخطاب عام غير مخصوص بالسلطان.

* * *

ص: 167