الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الدعوى
قوله: (لأن النكول يحتمل التورع عن اليمين الكاذبة، والترفع من الصادقة).
في الترفع عن اليمين الصادقة نظر، فإنها عبادة فكيف يترفع عنها، وسيأتي لذلك زيادة بيان إن شاء الله تعالى.
قوله: (ولأبي حنيفة رحمه الله أن الأطراف يسلك بها مسلك الأموال فيجري فيها البذل بخلاف الأنفس، فإنه لو قال: اقطع يدي. فقطعها، لا يجب الضمان فهذا إعمال للبذل إلا أ، هـ لا يباح لعدم الفائدة، وهذا البذل مفيد لاندفاع الخصومة به فصار كقطع اليد للآكلة، وقلع الضرس للوجع).
اعتبار الأطراف بالأموال في جريان البذل فيها لقطع الخصومة وافتداء اليمين في غاية البعد، فإنها لا تخلف، والأموال تخلف، والألم الحاصل بقطع الطرف، وخوف سرايته إلى النفس فوق ضرر فوت المال، ولهذا كانت المصيبة في الأبدان، وليس له تصرف في لحك نفسه ودمه إلا لمصلحة المداواة لما نذكر عن قريب إن شاء الله تعالى.
ولا يصح الاستشهاد له بما لو قال له: اقطع يدي. فقطعها، حيث لا يجب الضمان، فإن ذلك لم يكن لصحة البذل حتى يقال إنه بمنزلة بذل المال فإن التفاوت الذي بين الأطراف والأموال لا يخفى، بل لأن موجب القطع العمد القصاص، والإذن شبهة مانعة من القصاص؛ لأنه قد رضي بإسقاط حقه منه بإذنه له في/ القطع ولا ينقلب مالاً لأن الشبهة جاءت من قبل من له الحق، فمنعت من وجوب المال ولهذا لم يختص ذلك بالأطراف.
بل من قال لغيره: اقتلني. ففعل، فلا قصاص ولا دية، وفي رواية، وفي أخرى تجب الدية، لتعلق حق الوارث بها، فلا يعمل إذنه في إسقاطها، وفي أخرى يجب القصاص وهو قول زفر -لتعلق حق الوارث به كما تقدم- ولا كذلك الأطراف، لأنه هو المستحق للقصاص أو الدية.
وأيضاً فإن بذل الطرف بغير حق حرام، واليمين الصادقة عبادة، وبينهما من التفاوت كما بين السماء والأرض، ولا يجوز التعويض عن
الطاعة بالمعصية.
وأما من يترك اليمين لئلا يتهم بأنه حلف كاذبًا فيترفع عن اليمين الصادقة خوفًا من ذلك فهذا قد يبيح بذل المال الذي يجوز بذله في المباح، وسيأتي ما فيه من النظر في كتاب الصلح إن شاء الله تعالى.
ولا يجوز بذل الأطراف في تحصيل المباح، وقياس ذلك على قطع اليد للآكلة، وقطع الضرس للوجع لا يصح؛ لأن قطع اليد للآكلة يمنع السراية إلى النفس، وقلع الضرس للألم، للخوف من الزيادة المفضية إلى ما هو شر من قلعه، فكان ذلك من باب إفساد البعض لإصلاح الكل، وارتكاب الضرر الأدنى لدفع الضرر الأعلى، وهذا معنى صحيح معتبر عقلاً وشرعًا، ودفع الخصومة ببذل الطرف، عكسه دفع أدنى الضررين بارتكاب أعلاها، بل هو ارتكاب ضرر مجرد عن دفع ضرر آخر، لأنه لا ضرر في اليمين كما تقدم، فيكف يقاس عليه دفع الخصومة الذي يمكن تحصيله باليمين الصادقة.
قوله: (ولا فرق في الظاهر بين الخامل والوجيه والحقير من المال والخطير).
الفرق أظهر، فإن في الإلزام بالتكفيل بالنفس ضررًا به، ولهذا قال أبو حنيفة فيما إذا قسم ميراث بين غرماء أو ورثة بالبينة، ولم ينف غيرهم أنه لا يؤخذ منهم كفيل، وسمى ذلك جورًا، فلا ينبغي أن يلزم بالتكفيل إلا عند ظهور قرينة يغلب على الظن معها خوف الغيبة عن الحضور لأجل خصمه.
قوله: (وقيل في زماننا إذا ألح الخصم ساغ للقاضي أن يحلف بذلك لقلة المبالات باليمين بالله تعالى).
يعني بالطلاق والعتاق، ولا ينبغي أن يلتفت إلى هذا القول، فإنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن الحلف بغير الله، ولهذا كان السلف يعزرون من يحلف بالطلاق، وقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه، أنه قال:"لأن أحلف بالله كاذبًا أحب إلي من أن أحلف بغير الله صادقًا".
وذلك أنه إذا حلف بالله كاذبًا فقد جمع سيئة الكذب مع حسنة التوحيد، وإذا حلف بغيره صادقًا فقد جمع مع الصدق سيئة الشرك، والتوحيد أعظم الصدق، والشرك أعظم الكذب. والله أعلم.