الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب السلم
قوله: (فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: "أشهد أن الله أحل السلف المضمون، وأنزل فيه أطول آية في كتابه، وتلا قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين} الآية").
أخرجه البيهقي، ولكن لم يذكر فيه "وأنزل فيه أطول آية في كتابه"، وإنما قرأ الآية الكريمة فقط، فكأنه رضي الله عنه يشير إلى دخول حكم السلم في عموم الآية الكريمة وأن الآية تشمل السلم والبيع بثمن مؤجل والقرض أيضاً وتأجيل ذلك بعد حلوله.
قوله: (والسنة وهو ما روي أنه عليه الصلاة والسلام "نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان، ورخص في السلم").
ظاهره أن هذا اللفظ مروي عند أحد من الصحابة، ولم يرد هذا اللفظ هكذا مجموعاً عن أحد منهم في كتب الحديث، وإنما هذا من كلام أحد من الفقهاء، والأمر في السلم كما أخب عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال:"قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين، فقال: من أسلف في ثمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" رواه الجماعة، وقوله: ورخص في السلم. يوهم أنه محظور الأصل، وليس الأمر كذلك، وسيأتي التنبيه على ذلك إن شاء الله تعالى.
قوله: (والقياس وإن كان يأباه ولكنا تركناه بما روينا، ووجه القياس أنه بيع المعدوم إذ المبيع هو المسلم فيه).
لا نسلم أن القياس الصحيح يأباه بل هو على وفق القياس الصحيح، فإنه كالابتياع بثمن مؤجل، وأي فرق بين كون أحدة العوضين مؤجلاً في الذمة وبين الآخر فهذا محض القياس، ومصلحة الناس، وهذا المعنى هو الذي
فهمه ترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وتلا الآية الكريمة كما تقدم، فثبت أن إباحة السلم على وفق القياس والمصلحة وشرع على أكمل الوجوه وأعدلها فشرط فيه قبض الثمن في الحال تحقيقاً لاسمه لأنه سمي سلماً من إسلام رأس المال فيه، وسلفاً من إسلافه وهو تقديمه، ولو تأخر الثمن فيه دخل في حكم الكالئ بالكالئ بل هو نفسه ولم يدخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام:"لا تبع ما ليس عندك" لما قال له: "يا رسول الله يأتيني الرجل فيسألني البيع وليس عندي ما يطلب أفأبيع منه ثم أبتاعه من السوق؟ قال: لا تبع ما ليس عندك" أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، ولكنه يحتمل معنيين:
أحدهما: أن يبيع عيناً معينة وهي ليست عنده بل ملك للغير فيبيعها ثم يسعى في تحصيلها وتسليمها إلى المشتري.
والثاني: أن يريد بيع ما لا يقدر على تسلمه وإن كان في الذمة فليس عنده /حساً ولا معنى فيكون قد باعه شيئاً لا يدري هل يحصل له أم لا؟ وهذا يتناول أموراً:
أحدها: بيع عين معينة ليست عنده.
الثاني: السلم الحال في الذمة إذا لم يكن عنده ما يوفيه.
الثالث: السلم المؤجل إذا لم يكن على ثقة من توفيته، وأما إذا كان على ثقة من توفيته عادة فهو وإن لم يكنه عنده حساً، فهو عنده معنى، باعتبار القدرة على تحصيله، ولهذا كثيراً ما يقال: وهذا عندي وفي ذمتي للدين أصالة أو كفالة، وهو معنى شائع بين الناس جاء على ألسنتهم مشهور بينهم.
فالحاصل أن قياس السلم على الابتياع بثمن مؤجل أصح من قياسه على بيع المعدوم الذي لا يقدر على تسليمه عادة، فإن اعتبار المعنى الجامع بين السلم وبيع المعدوم عارضه المعنى الفارق، وهو أن المعدوم الذي لا يقدر على تحصيله عادة خطره متحقق، والمعدوم الذي يقدر على تحصيله عادة خطره محتمل، والسلم منه فلا يقاس ما يقدر على تحصيله عادة على ما لا يقدر على تحصيله عادة لظهور المعنى الفارق بينهما وقوته.
ولا يقوى المعنى الفارق بين المبيع المؤجل وبين الثمين المؤجل بأن المبيع هو المقصود دون الثمن في مقابلة قوة المعنى الجامع بينهما، وهو أن كلاً منهما يثبت مثله في الذمة وتزول الجهالة المفضية إلى المنازعة فيه بالوصف، فإذا ظهرت قوة الجامع بين الثمن المؤجل والمبيع الذي يقدر على تحصيله عادة ويثبت مثله في الذمة، وضعف الفارق بينهما ظهرت قوة قياسه عليه، وإذا ظهرت قوة الفارق بين المعدوم الذي لا يقدر على تحصيله عادة وبين الذي يقدر على تحصيله عادة ويثبت مثله في الذمة وضعف الجامع بينهما ظهر ضعف قياسه عليه.
قوله: (وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن السلم في الحيوان").
هذا الحديث لم يصح ولم يخرجه أحد من أهل الكتب الستة وإنما رواه الدارقطني بمعناه والبيهقي، وقال: والصحيح عن معمر عن يحيي عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، كذلك رواه غير واحد عن معمر.
قوله: (ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تسلفوا في الثمار حتى يبدو صلاحها").
هذا اللفظ غير محفوظ وإنما ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما "أن رجلاً أسلف رجلاً في نخل فلم يخرج في تلك السنة شيئاً فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بم تستحل ماله؟ اردد عليه ماله، ثم قال: لا تسلفوا في النخل حتى يبدو صلاحها" رواه أبو داود وابن ماجه والبيهقي، ولا دليل فيه على
مراد المصنف فإنه استدل به على عدم جواز السلم في المنقطع واشتراط وجود المسلم فيه في جميع مدة السلم، والحديث إنما ورد في السلف في ثمرة نخل معين، وهذا لا يجوز سلماً. ألا ترى إلى قوله: أسلف رجلاً في نخل فلم يخرج تلك السنة شيئاً، ونبه النبي صلى الله عليه وسلم على العلة بقوله:"بم تستحل ماله؟ "، كما قال في حديث آخر:"إذا منع صلى الله عليه وسلم الثمرة فبم تستحل مال أخيك" وهذا من باب بيع الثمار قبل بدو صلاحها.
وقد ورد النهي عن ذلك في أحاديث كثيرة، وقد جاء الإذن في السلم من غير اشتراط وجود المسلم فيه في جميع المدة بل مع انقطاعه في المدة في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال:"قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهو يسلفون في الثمار السنة والسنتين، فقال: من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" رواه الجماعة، فإقراره إياهم على السلم في
الثمار السنة والسنتين دليل على السلم في المنقطع، ولو كان وجود المسلم فيه في جميع المدة شرطاً لذكره، ولنهاهم عن السلف هذه المدة لأنه يلزم منه انقطاع المسلم فيه أوسط السنة، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، وحلول الدين بالموت فيه نزاع، وعلى تقدير التسليم فلا يلزم أن يشترط ذلك الوجود كيلا يفضي إلى جهالة الأجل في السلم وهي مانعة من صحته فيجب أن لا يحل حتى يأتي الأجل الذي شرطاه.
قوله: (ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "إلى أجل معلوم").
قد أجاب /الشافعية عن هذا الحديث أنه إن كان المسلم فيه مكيلاً فليكن كيله معلوماً، وإن كان موزوناً فليكن وزنه معلوماً، وإن كان مؤجلاً فليكن أجله معلوماً، ولا يلزم من هذا اشتراط كون المسلم فيه مؤجلاً× لأنه إّا جاز مؤجلاً مع الغرر، فجواز الحال أولى لأنه أبعد عن الغرر، وكما أن ذكر الكيل
والوزن لا يمنع جواز المذروع والمعدود والمتقارب فكذلك ذكر الأجل، والقول الثالث أظهر، وهو أن السلم الحال إن كان المسلم فيه عنده جاز، وإن لم يكن عنده لم يجز لقوله عليه الصلاة والسلام::ولا تبع ما ليس عندك" والحديث إنما أريد به أن يبيع في الذمة ما ليس مملوكاً له، ولا يقدر على تسليمه ويربح فيه قبل أن يملكه ويضمنه ويقدر على تسليمه؛ لأن السائل إنما سأله عن بيع شئ مطلق في الذمة، ولكن إذا لم يجز بيع ذلك فبيع المعين الذي لم يملكه أولى بالمنع، والمسألة مبسوطة في موضعها.
قوله: (ولأن القدرة على التسليم بالتحصيل فلابد من استمرار الوجود في مدة الأجل ليتمكن من التحصيل).
هذا تعليل فاسد فإن من اسلم في حنطة مثلاً إلى سنة يقدر على تحصيلها عند الحلول بالزرع في المدة وعملها إلى حلول الأجل، هذا الذي جرت به العادة في السلم، ولهذا سمي بيع المفاليس، فإنه لا يفعل في الغالب
إلا من له أرض أو شجر يستغلها من السنة إلى السنة فإذا احتاج في أثناء السنة استسلف على ما تخرج من ذلك وتحصيله بحصوله في وقت الحلول على ما أجرى الله به العادة في خلقه لا يجمعه في مدة أجل السلم مما هو موجود عند الناس مما أسلم إليه فيه.
قوله: (ولأن القبض يعاين فيعرف مثل المقبوض به في وقته، أما الوصف فلا يكتفي به).
في هذا الفرق نظر، وقول أبي يوسف ومحمد في جواز السلم في اللحم أقوى والإلزام بصحة اقتراضه وزناً في غاية القوة فإن الفرق الذي فرق به بينهما وهو ما ذكره المصنف لا يقوى لأن معرفته بالمعاينة لمثله، نظير معرفته بوصفه، سواء بسواء، فإن المعرفة إنما تكون فوق الإخبار في حق المعاين في حق مثله.
قوله: (لإطلاق الحديث "ورخص في السلم").