الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب أدب القاضي
قوله: (والفاسق أهل للقضاء حتى لو قلد يصح، إلا أنه لا ينبغي أن يقلد كما في حكم الشهادة، فإنه لا ينبغي أن يقبل القاضي شهادته ولو قبل جاز عندنا).
ظاهر كلامه أنه يجوز للإمام الإقدام على تولية الفاسق القضاء، وأنه يجوز للقاضي الإقدام على قبول شهادة الفاسق ولكن الأولى خلاف ذلك، وعلى هذا تدل عبارة كثير من الأصحاب، وقالوا أنه مذهب أبي حنيفة وهو مشكل، والظاهر أن أبا حنيفة لا يقول بجواز الإقدام على تولية الفاسق ولكن لو أقدم صار قاضياً كما هو أصله في البيع الفاسد ونحوه، وكذلك قبول شهادة الفاسق ثم إني رأيت في كلام أبي بكر الرازي في أحكام القرآن: أنه لا فرق عند أبي حنيفة رحمه الله بين القاضي وبين الخليفة في أن شرط كل واحد منهما العدالة، وأن الفاسق لا يكون خليفة ولا حاكماً لا تقبل شهادته ولا خبره.
واعتبار القضاء بالشهادة في غاية الإشكال لأن قبول شهادة الفاسق فيه نظر للأمر بالتثبيت في خبره، فتوليته القضاء أبعد من قبول شهادته؛ لأن قضاء
القاضي ألزم من شهادة الشاهد، وأقطع لأن الحاكم فيه ثلاث صفات؛ فمن جهة الإثبات هو شاهد، ومن جهة الأمر والنهي هو مفتي، ومن جهة الإلزام بذلك هو سلطان، وأيضاً فإذا شهد الفاسق عند القاضي تثبت القاضي وتبين الأمر- أي طلب ما بين له به صدقه من كذبه- ليتحقق الأمر على ما هو عليه فيقضي، فكيف يكون القاضي ممن يجب التثبت في قوله؟ وإذا كان الفاسق نفسه قاضياً فإن التثبت والتبين المأمور بهما فيما يخبر به فيقع الفساد الذي لا يرفع، والدفع أسهل من الرفع.
فالقول بعدم جواز توليته أقوى في الدليل لكن إذا التبس الأمر على الإمام بعد الاجتهاد فولى فاسقاً، فإن خطأه مغفور، ولو أقدم على توليته من لا يجوز له توليته، فإن هذا ذنب من الإمام يجب عليه أن يتوب منه، وتمام توبته أن يعزله، ويولي المستحق، وأما نفاذ حكمه إذا وافق الشرع؛ فلأن المراد من نصب القاضي هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما يتعلق بمسائل القضاء، وقد حصل فلا حاجة إلى نقضه ثم إبرامه، بخلاف ما إذا لم يوافق حكم الشرع؛ لأنه لا طاعة لمخلوف في معصية الخالق، وإن كان من مسائل الخلاف، ورفع إلى من يرى خلافه،/ فإن كانت مصلحة نقضه أعظم من مصحة إبقائه نقضه، وإلا فلا، (لأنه قد صار ولي أمر المسلمين فتجب طاعته فيما أمر به من طاعة الله كما في أمر الإمام الأعظم)، (وفي النوادر: أن
العدالة شرط لصحة التقليد، وهو اختيار الخصاف والطحاوي).
قوله: (فأما تقليد الجاهل فصحيح عندنا).
هذا يناقض قوله: أولاً: ولاية القاضي حتى تجتمع في المولى شرائط الشهادة، ويكون من أهل الاجتهاد- مناقضة ظاهرة، وكم قد حصل بسبب هذه المسزلة من الفساد، وإذا انضمت إلى المسألة التي قبلها تكمل الفساد، وإذا انضمت إلى المسألة التي تأتي، وهي جواز تولية المرأة القضاء- في غير الحدود والقصاص- فلا حول ولا قوة إلا بالله، وقد روى بريدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنه قال: القضاة ثلاثة، اثنان في النار وواحد في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل جار في الحكم فهو النار" رواه ابن ماجه وأبو داود.
فكيف يجوز أن يولي من يقتضي على جهل، ولكن إذا قلد فقضي بما يوافق الشرع نفذ وإلا بطل، كما تقدم في تولية الفاسق، فإن قيل: فالشروط التي شرطت للاجتهاد لا تجمع في أحد، فكيف يجوز اشتراطها؟ قيل: ليس من شرطه أن يكون محيطاً بها إحاطة تجمع أقصاها، وإنما يحتاج أن يعرف من ذلك ما يتعلق بالأحكام من الكتاب والسنة ولسان العرب، ولا أن يحيط بجميع الأخبار الواردة في هذا، فقد كان أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما خليفتا رسول الله صلى الله عليه وسلم ووزيراه، وخير الناس من بعده في حال إمامتهما يسألان عن الحكم فلا يعرفان ما فيه من السنة حتى يسألا الناس فيخبرا، فسئل أبو بكر عن ميراث الجدة، فقال:"مالك في كتاب الله شئ، ولا أعلم لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، ولكن ارجعي حتى أسأل الناس، ثم قام فقال: أنشد الله من يعلم قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجدة، فقام المغيرة بن شعبة فقال: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس"، وسأل عمر عن
إملاص المرأة "فأخبره المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغرة".
ولا يشرط في معرفة المسائل التي فرعها المجتهدون في كتبهم، فإن هذه فروع فرعها الفقهاء بعد حيازة منصب الاجتهاد، فلا يكون شرطاً له وهو سابق عليها، وليس من شرط الاجتهاد في مسألة أن يكون مجتهداً في كل المسائل، بل من عرف أدلة مسألة وما يتعلق بها فهو مجتهد فيها، وإن جهل غيرها كمن يعرف الفرائض وأصولها ليس من شرط اجتهاده فيها معرفته بالبيع ونحو ذلك، وكذلك ما من إمام إلا وقد توقف في مسائل، وقيل: من يجيب في كل مسألة فهو مجنون، وإذا ترك العالم لا أدري أصيبت مقاتله.
وحكي عن مالك رحمه الله أنه سئل عن أربعين مسألة فقال- في ست وثلاثين منها:- لا أدري، ولم يخرجه ذلك عن كونه مجتهداً، وإنما المعتبر
أصول هذه الأمور، وهو مجموع مدون في فروع الفقه وأصوله، فمن عرف ذلك ورزق فهمه كان مجتهداً يجوز له الفتيا وولاية القضاء إذا وليه.
قوله: (لأنه يمكنه أن يقضي بفتوى غيره).
يعني أن الجاهل، تصح توليته لأنه يمكنه أن يقضي بفتوى غيره، ولا يلزم من هذا التعليل صحة تولية الجاهل؛ لأن إمكان القضاء بفتوى الغير لا يحصل المقصود بتولية القاضي، كيف وأنه قد قال بصحة تولية الفاسق، ففسقه يحمله على القضاء بجهل وترك الاستفتاء، ولو شرط من الجهل الديانة حتى تحمله ديانته على الحكم بالاستفتاء لكان اقرب، والله أعلم.
قوله: (وينبغي للمقلد أن يختار من هو الأقدر والأولى؛ لقوله عليه الصلاة والسلام "من قلد إنساناً عملاً وفي رعيته من هو أولى منه فقد خان الله ورسوله وجماعة المسلمين").
فيه نظر من وجهين:
أحدهما: أن الحديث رواه البيهقي بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من استعمل عاملاً من المسلمين، وهو يعلم أن فيهم أولى منه بذلك وأعلم بكتاب الله وسنة نبيه فقد خان الله ورسوله وجميع المسلمين"، وأخرجه الحاكم أيضاً في المستدرك، وأما/ اللفظ الذي ذكره
المصنف فهو ناقص قيداً لابد من ذكره، وهو: أن يولي من يعلم أن غيره أولى منه حتى يكون خائناً، أما إذا ولى عاملاً، وهو يظن أنه ليس في رعيته من هو أولى منه فلا يأثم.
والثاني: أن الحديث يدل على أنه يجب على المقلد أن يختار الأولى والأعلم بكتاب الله وسنة نبيه؛ فإن خيانة الله ورسوله وجميع المسلمين من أكبر الكبائر، وظاهر كلام المصنف عدم الوجوب، وهو خطأ، ومن أظن أبا حنيفة رحمه الله يقول بجواز الإقدام على تولية المفضول مع العلم بحاله، والقدرة على تولية الأفضل، فكيف بتولية الفاسق الجاهل مع وجود العالم العدل، بل يجب تولية الأصلح فالأصلح من الموجودين وكل زمان بحسبه فيقدم الأدين العدل على الأعلم الفاجر، والسني على الجهمي والمبتدع، وإن كان الجهمي أو المبتدع أفقه. كما يولي في الجهاد من هو أنكى للعدو، وإن كان غيره أدين منه، وبهذا مضت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يولي الأنفع في كل ولاية بحسبها.
قوله: (ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "إنما بنيت المساجد لذكر الله
والحكم").
لفظة "والحكم" غير معروفة، وإنما في حديث الأعرابي الذي بال في المسجد "إن هذه المساجد لا تصلح لشئ من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل، والصلاة، وقراءة القرآن" أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه.
* * *