الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب في القضاء بالمواريث
قوله: (ومن قال: مالي في المساكين صدقة، فهو على ما فيه الزكاة، إلى آخر المسألة).
اختلف العلماء في حكم من نذر التصدق بماله على أقوال:
فذهب ربيعة إلى أنه يتصدق منه بقدر الزكاة، وقال النخعي والبتي والشافعي وزفر: يتصدق بماله كله، وقال أبو حنيفة رحمه الله: يتصدق بالمال الزكوي كما تقدم، وقال مالك وأحمد والزهري: يتصدق بثلث ماله، واستدلوا بحديث كعب بن مالك رضي الله عنه أنه قال: "يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك، قال، فقلت: إني أمسك سهمي
الذي بخيبر" متفق عليه. وفي لفظ قال: قلت: يا رسول الله إن من توبتي إلى الله أن أخرج من مالي كله إلى الله وإلى رسوله صدقة، قال: لا، قلت: [فنصفه؟ قال: لا، قلت] فثلثه؟ قال: نعم، قلت: فإني سأمسك سهمي من خيبر" رواه أبو داود، وعن الحسين بن السائب بن أبي لبابة أن أبا لبابة ابن عبد المنذر لما تاب الله عليه قال: يا رسول الله إن من توبتي أن أهجر دار قومي وأساكنك، وأن أنخلع من مالي صدقة لله عز وجل ولرسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يجزي عنك الثلث" رواه أحمد، والاستدلال بهذه الأحاديث على ما ذكروه من الحكم ظاهر لكن في ثبوت التقدير بالثلث نظر، ولا شك في ثبوت قوله صلى الله عليه وسلم لكعب بن مالك "أمسك عليك بعض مالك فهو
خير لك" فإنه متفق على صحته وهو أولى ما احتج به في هذه المسألة، فإن قيل: ليس هذا بنذر، وإنما أراد الصدقة بجميع ماله، فأمره بإمساك بعضه، قيل: منعه من التصدق بالكل دليل على أنه ليس بقربه لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمنع أصحابه من القرب، ونذر ما ليس بقربة لا يلزم الوفاء به، وصار هذا كمنعه سعداً من الوصية بأكثر من الثلث، والكلام على ذلك مبسوط في موضعه، والغرض هنا التنبيه عليه.
ويبقى تقدير ذلك البعض وينبغي أن يكون ذلك بحسب الأشخاص فيمسك قدر ما يكفيه ويكفي عياله بحيث لا يبقى معه فقيراً يحتاج إلى سؤال الناس، وهذا يختلف باختلاف الأشخاص، فأبو بكر لما تصدق بماله كله لم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وأقر عمر رضي الله عنه على التصدق بشطر ماله،
ومنع صاحب الصرة من التصدق بها، وقال لكعب: أمسك عليك بعض مالك، ويبعد جداً أن يكون الممسك ضعفي المخرج في هذا اللفظ، وقال لأبي لبابة: يجزئك الثلث، فتبين من هذا أن الحكم يختلف باختلاف الأشخاص، وأنه لا معارضة بين ما ورد في هذا الباب بهذا الاعتبار، وقد صحح المصنف وحافظ الدين النسفي وغيرهما من الأصحاب أن نذر التصدق بما يملكه مثل نذر التصدق بماله؛ لأنهما يستعملان استعمالاً واحداً عرفاً، وقالوا: لأن الظاهر أنه يلتزم الصدقة بالفاضل عن الحاجة سواء كان بلفظ الملك أو بلفظ المال، وهذا يشهد لما تقدم من أنه يمسك قدر ما يكفيه ويكفي عياله بحيث لا يبقى معه فقيراً يحتاج إلى سؤال الناس، وأن هذا القدر مشغول بالحاجة الأصلية، فلا بد من استثنائه كما يستثنى مما يجب فيه الزكاة، وقول المصنف: ولأن الظاهر التزام الصدقة من فاضل ماله، وهو مال الزكاة. فيه نظر، فإن مال الزكاة ليس هو فاضل ماله، وأيضاً فإن نذره أن يتصدق بماله
ليس هو نظير قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} حتى يكون إيجاب العبد معتبراً/ بإيجاب الرب، ولم يقل تعالى: خذ مالهم بل أوجب الله صدقة مجملة تؤخذ من أموالهم بينها النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف نذره أن يتصدق بماله؛ لأنه يعم ماله كله، لكن بعضه مستثني لشغله بالحاجة الأصلية، وهو ما لا يحتاج إلى سؤال الناس، ولا يلزمه إخراج نظير ذلك بعد الاستغناء عنه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر كعباً أن يتصدق بعد ذلك بنظير ما أمسكه من ماله، ولو كان واجباً عليه لبينه له لأنه محتاج إلى معرفة ذلك، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، ففي ذلك دليل على أنه إذا أمسك بعض ماله، وتصدق بالباقي أن ذلك يجزئه ولا يلزمه بعد ذلك التصدق بنظير ما أمسكه، ويمكن أن يقال في البعض الذي يمسكه لحاجته إليه أنه مستحق بالحاجة، فلا يجوز التبرع به بمنزلة المال المستحق للغير فيصير كالنذر بما لا يملك، أو لأن ذلك القدر مستحق الصرف إلى جهة معينة شرعاً، فهو بصرفه إلى غير تلك الجهة عاصٍ، ولا نذر في معصية، أو يقال: إنه لما وجب عليه التصدق بجميع ماله فقد بقي فقيراً فيبدأ بنفسه فيتصدق عليها بقدر حاجته لأنه أحق من سائر الناس لتحقق
حاجته، وإلى هذا المعنى أشار صلى الله عليه وسلم بقوله للذي قال:"يا رسول الله عندي دينار، قال: تصدق به على نفسك، قال: عندي آخر، قال: تصدق به على ولدك، قال: عندي آخر، قال: تصدق به على زوجك، قال: عندي آخر، قال: تصدق به على خادمك، قال: عندي آخر، قال: أنت أبصر" أخرجه أبو داود والنسائي، وفي الصحيح:"خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول" وبهذا التقرير يظهر التنبيه على ما في المباحث التي ذكرها المصنف في هذه المسألة من الكلام ومن دعوى الإجماع على نفي دخول أرض الخراج لما تقدم من خلاف زفر.
* * *