الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب اللقطة
قوله: (ولهما أنه أقر بسبب الضمان وهو أخذ مال الغير وادعى ما يبرئه وهو الأخذ للمالك، وفيه وقع الشك، فلا يبرأ، وما ذكر من الظاهر يعارضه مثله؛ لأن الظاهر أن يكون المتصرف عاملاً لنفسه).
يعني لأبي حنيفة ومحمد على خلاف قول أبي يوسف فيما إذا أخذ اللقطة ولم يشهد على نفسه أنه أخذها ليردها، وقول أبي يوسف أقوى، واختاره الطحاوي وهو قول أكثر العلماء الأئمة الثلاثة وغيرهم، لحديثي زيد ابن خالد وأبي بن كعب رضي الله عنهما "وأنه صلى الله عليه وسلم أمرهما بالتعريف دون
الإشهاد" متفق عليهما، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فلو كان واجبًا لبينه النبي صلى الله عليه وسلم لا سيما وقد سئل عن حكم اللقطة فلم يكن ليخل بالواجب فيها، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عياض بن حمار رضي الله عنه "من وجد لقطة فليشهد ذا عدل أو ذوي عدل ولا يكتم ولا يغيب، فإن وجد صاحبها فليردها عليه، وإلا فهي مال الله يؤتيه من يشاء" رواه النسائي وأبو داود، يحمل على الندب صيانة لنفسه من الطمع فيها وكتمها، وحفظًا له من ورثته إن مات ومن غرمائه إن أفلس جمعًا بينه وبين الحديثين المشار إليهما.
ولأن هذا من باب الوصية الواجبة التي أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده" ولأنه أخذ أمانة فلم يفتقر إلى الإشهاد كالوديعة، ولأن الظاهر شاهد له وهو يصلح حجة للدفع فيندفع عنه الضمان وما ذكر من أن الأخذ
سبب للضمان، إطلاقه ممنوع فليس كل أخذ سببًا للضمان وهو لم يقر بالأخذ المطلق، بل بالأخذ على جهة الأمانة فصار كما لو قال: دفعه إلي فأخذته وديعة، ومعارضة ما ذكر لأبي يوسف من الظاهر بأن الظاهر أن يكون المتصرف عاملاً لنفسه لا يلزم منه الضمان، فإنه إذا أخذ اللقطة ليردها على مالكها ابتغاء وجه الله فقد قصد الثواب والأجر، فهو عامل لنفسه بذلك قال تعالى:{إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها} ، وهذا هو الظاهر من حال المسلم.
قوله: (وجه الأول أن التقدير بالحول ورد في لقطة كانت مائة دينار).
هذا استدلال مشكل، فإنه استدل قبل ذلك -لما قاله محمد- بقوله عليه الصلاة والسلام. "من التقط شيئًا فليعرفه سنة" وهذا الحديث بهذا اللفظ أخرجه البزار من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال:"سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة؟ فقال: لا تحل اللقطة، فمن التقط شيئًا فليعرفه سنة، فإن جاء صاحبها فليرده إليه، وإن لم يأت فليتصدق [به، فإن جاء فليخيره بين الأجر وبين الذي له" قال عبد الحق: وفي إسناده يوسف بن خالد
السمتي، ولا يصح. انتهى. ولكن] جاء معناه في حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه "أنه سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة الذهب أو الورق؟ فقال:"اعرف وكاءها وعفاصها ثم عرفها سنة، فإن لم تعرف فاستنفقها، ولتكن وديعة عندك، فإن جاء صاحبها يومًا من الدهر، فأدها إليه" الحديث متفق عليه.
وليس في هذين الحديثين أنه سأل عن لقطة معينة حتى يقال: كان مقدارها مائة دينار، وإنما جاء ذكر مائة دينار في حديث أبي رضي الله عنه قال:"إني وجدت صرة فيها مائة دينار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: عرفها حولاً" الحديث متفق عليه، فهذا الحديث غير ذاك الحديث، ولو قدر أن السؤال كان على لقطة مقدارها مائة دينار فالعبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال: "من
التقط شيئًا فليعرفه سنة" هذا لفظ الحديث الذي رواه هو، واستدل هو به لمحمد ومالك والشافعي وهو قول أحمد أيضًا، وهو مروي عن عمر وعلي وابن عباس وسعيد بن المسيب والشعبي ..................................
والحسن بن صالح، وقوله "شيئًا" نكرة في سياق الشرط فتعم فكيف يصح بعد ذلك قوله: إن التقدير ورد في لقطة كانت مائة دينار. وليس هذا بحث منصف، بل هذا من التطفيف المنهي عنه، فإنه لما احتج على الخصم في مسألة قتل المرتدة بنهيه صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء قال له الخصم: هذا ورد في قتل النساء في الحرب، رد على الخصم: بأن العبرة لعموم اللفظ، مع أن في تلك المسألة أدلة أخرى تعاضدت كما تقدم هناك فظهرت قوة قول محمد في عدم التقدير بعشرة دراهم، ولكن يستثنى ما ورد استثناؤه، وهو ما في حديث جابر رضي الله عنه قال:"رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العصار والسوط والحبل وأشباهه يلتقطه الرجل ينتفع به" رواه أبو داود، وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بثمرة في الطريق فقال:"لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها" أخرجاه.
قوله: (والعشرة وما فوقها في معنى الألف في تعليق القطيع بالسرقة
وتعلق استحلال الفرج به).
قد تقدم ذكر ضعف التقدير بعشرة في الموضعين.
قوله: (فإن جاء صاحبها، وإلا تصدق بها).
وبذلك قال مالك والحسن بن صالح والثوري لما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدم، إلا أن أبا حنيفة رحمه الله قال: له أن يتملكها إن كان فقيرًا من غير ذوي القربى لحديث عياض المتقدم، وذهب الأكثرون إلى أن تصير بعد التعريف ملكًا له، إن شاء تصدق بها وإن شاء انتفع بها، وهذا قول عمر وابن مسعود وعائشة رضي الله عنهم، وبه قال عطاء [والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وابن المنذر، وروي أيضًا عن علي وابن عباس والشعبي والنخعي] وطاووس وعكرمة، ذكر ذلك في المغني، لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث زيد بن خالد: "فإن لم
تعرف فاستنفقها" وفي لفظ: "فهي كالسبيل مالك"، وفي لفظ: "ثم كلها"، وفي لفظ: "فاستنفق بها"، وفي لفظ: "فشأنك بها"، وفي حديث أبي بن كعب: "فاستنفقها"، وفي لفظ: "فاستمتع بها" كل ذلك في الصحيح، وحديث أبي هريرة لم يثبت كما تقدم ذكره، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عياض بن حمار: "وإلا فهي مال الله يؤتيه من يشاء" لا ينافي أن يتملكها الملتقط إذا كان غنيًا، لأن الأشياء كلها لله سبحانه يعطي ماله من يشاء من عباده الغني منهم والفقير، قال تعالى:{وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} .
وقد نقل أن أبيًا كان من المياسير وكذا ذكره المصنف في آخر هذا الباب، وأجاب عنه بأن ذلك كان بإذن الإمام وهو جائز بإذنه، وهذا لا يقوى لأن الإمام لا يملك تمليك مال المسلم بغير إذنه، بل ذلك تشريع منه صلى الله عليه وسلم، وأيضًا
فهذا على أصل الأصحاب أولى كما ذكروه فيما إذا استولى الكفار على أموال المسلمين، وكما في الغصب خصوصًا على قول من قال منهم: إن الموجب الأصلي القيمة ورد العين مخلص بناءً على أن الأصل في الأموال الإباحة، وتقدم في كلام المصنف في باب استيلاء الكفار: وهذا لأن العصمة تثبت على منافاة الدليل ضرورة تمكن المالك من الانتفاع، فإذا زالت المكنة عادت مباحًا كما كان. انتهى.
فإذا صح الاستيلاء المحظور سببًا للملك فالاستيلاء المأذون فيه شرعًا أولى، بل الحق أن الاستيلاء المحظور لا يكون سببًا للملك كما سيأتي في الغصب إن شاء الله تعالى، وقول المصنف بعد هذا: إن الملك يثبت للفقير، قيل: الإجازة من المالك دليل على صحة القول بثبوت الملك للملتقط بعد التعريف إذ لا فرق بين الملتقط والفقير الذي تصدق عليه الملتقط، بل ثبوت الملك للملتقط أولى من ثبوته للفقير، لأن الفقير إنما استفاده من جهته، وهذا كله لا ينافي ردها، والضمان بعد استهلاكها أن لو حضر المالك وطلب به، كما لو قبضت الزوجة الصداق ثم طلقت قبل الدخول أو جاءت الفرقة من قبلها قبله.
قوله: (وإن شاء ضمن المسكين إذا هلك في يده).
ينبغي أن لا يضمن الفقير بالهلاك لأنه لا صنع له فيما إذا هلكت بنفسها بمنزلة الأمانات، بل أولى، وقد تقدم ترجيح قول أبي يوسف في القول بعدم ضمان الملتقط بهلك اللقطة وإن لم يشهد أنه أخذها ليردها.
قوله: (ويجوز الالتقاط في الشاة والبقرة والبعير، وقال مالك والشافعي رحمهما الله: إذا وجد البعير والبقرة في الصحراء فالترك أفضل، وعلى هذا الخلاف الفرس).
وبقول الشافعي ومالك قال أحمد والليث والأوزاعي وأبو عبيد، ولم يقولوا الترك أفضل كما قال المصنف، بل لا يجوز عندهم التقاط الإبل [في الصحراء]، وحكي عن مالك أن البقرة بمنزلة الشاة، والحديث حجة
لهم في ضالة الإبل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال- لما سئل عنها-:"مالك ولها، معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها" وقال في الشاة: "خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب" متفق عليه من حديث زيد بن خالد رضي الله عنه.
وقد قال بعض أصحاب الإمام أحمد: إن الشاة ونحوها مما يجوز التقاطه، يخير الملتقط بين أكله في الحال وعليه قيمته، وبين بيعه وحفظ ثمنه، وبين تركه والإنفاق عليه من ماله، وهل يرجع؟ على وجهين؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال:"هي لك أو لأخيك أو للذئب" وهذا القول في غاية القوة، إذ قد يكون تعريفها سنة مستلزمًا لتغريم مالكها أضعاف قيمتها إن قلنا: يرجع عليه بنفقتها، وإن قلنا: لا يرجع استلزم تغريم الملتقط ذلك، وإن قلنا: لا يلتقطها كانت للذئب وتلفت، وقد قال مالك: أبلغ من ذلك أنه يأكلها، ولا يعرفها إن كان قد وجدها في صحراء، والأول أظهر.
قوله: (فإن أعطى علامتها حل للملتقط أن يدفعها إليه، ولا يجبر على ذلك في القضاء، وقال مالك والشافعي: يجبر على .................
ذلك).
مذهب الشافعي كمذهب أبي حنيفة في اشتراط إقامة البينة على وجوب الدفع، لا كما قال المصنف، وبقول مالك قال أحمد وأبو عبيد وداود وابن المنذر ذكر ذلك في المغني، وهو الموافق لما في الصحيحين من حديث زيد ابن خالد وأبي رضي الله عنهما، فإن حديث زيد في بعض طرقه "فإن جاء صاحبها فعرف عفاصها وعددها، ووكاءها، فأعطها إياه، وإلا فهي لك".
وفي حديث أبي في بعض طرقه أيضًا "عرفها، فإن جاء أحد يخبرك بعدتها ووعائها، ووكائها، فأعطها إياه، وإلا فاستمتع بها" أمره بإعطائها إياه والأمر للوجوب، ولا يعارضه قوله صلى الله عليه وسلم:"البينة على المدعي" الحديث، فإن البينة تختلف، والظن المستفاد بوصفه أعظم من الظن المستفاد
بمجرد النكول، بل بالشاهدين، فوصفه بينة ظاهرة على صحة دعواه، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم بينة مدعي اللقطة وصفها، فإذا وصفها فقد أقام البينة، وفي تكليف إقامة شاهدين حرج عظيم، ويكون الالتقاط حينئذ تضييعًا وإتعابًا لنفسه بالتعريف، ولو لم يجب دفعها بالوصف لم يجز التقاطها لما ذكر، وهذا المال قد ثبت كونه لقطة، وأن له صاحبًا غير من هو في يده، ولا مدعي له إلا الواصف، فإن الملتقط لا يدعيه، وقد ترجح صدقه فيجب الدفع إليه.
قوله: (ولا يتصدق باللقطة على غني، لأن المأمور به هو التصدق لقوله عليه الصلاة والسلام "فإن لم يأت صاحبها فليتصدق بها").
تقدم أن هذا الحديث غير ثابت وإنما أخرجه البزار بسند ضعيف، وتقدم ما في الصحيح مما يدل على أنها بعد التعريف تصير ملكًا للملتقط، وما ذكره المصنف بعد ذلك إلى آخر كتاب اللقطة تقدم التنبيه على ما فيه من الأشكال في أوائله والله أعلم.