الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب المرابحة والتولية
قوله: (وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم-لما أراد الهجرة ابتاع أبو بكر رضي الله عنه بعيرين، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ولّني أحدهما؟ فقال: هو لك بغير شيء، فقال: أما بغير ثمن فلا).
هذا اللفظ منكر لا يعرف، وقد ذكر البخاري رحمه الله حديث الهجرة بطوله وفيه "أن أبا بكر رضي الله عنه قال: خذ بأبي أنت وأمي إحدى راحلتي هاتين، قال عليه الصلاة والسلام: بالثمن، وذكر ابن إسحاق في السيرة: فلما قرب أبو بكر الراحلتين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم له أفضلهما ثم قال له: اركب فداك أبي وأمي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لا أركب بعيراً ليس لي، فقال: فهي لك يا رسول الله بأبي أنت وأمي، فقال: لا، ولكن بالثمن الذي ابتعتها به، كذا وكذا، قال: قد أخذتها بذلك، قال:
هي لك يا رسول الله، فركبا وانطلقا" الحديث، وعلى تقدير ثبوته، ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ولني أحدهما، كما قال المصنف فإن غرضه أن التولية تثبت بقوله: ولني.
قوله: (وبخلاف أجرة التعليم؛ لأن ثبوت الزيادة لمعنى فيه، وهو حذاقته).
قصر ثبوت الزيادة على حذاقته فيه نظر، وإنما حصلت الزيادة بتعليم المعلم في محل قابل، فصار بمنزلة صبغ الثوب وقصارته، فلولا قابليته المحل لما أثر الصبغ فيه، ولأن حذاقته بانفرادها لا تفيد التعلم فدل على أن لعمله أثراً في المحل، فلا فرق حينئذٍ بين التعليم وبين الصبغ والقصارة ولهذا -والله أعلم- علل السغناقي في الشرح بأنه ليس فيه عرف ظاهر ثم قال: حتى لو كان في شئ من ذلك عرف ظاهر في موضع بإلحاقه برأس المال كان له أن يلحقه به.
قوله: (وعن أبي يوسف وزفر في الفصل الأول لا يبيع من غير بيان
كما إذا احتبس بفعله وهو قول الشافعي).
يعني إذا اشترى أمة سالمة فاعورت، وقول أبي يوسف وزفر رحمهما الله أقوى لما في عدم البيان من الغرر، وقد "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر" وذلك لأنه إذا قال: اشتريتها بكذا، يظن المشتري منه اشتراها على ما هي عليه من العيب، فصار كأنه ستر العيب، ولم يبينه، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"فإن صدقا وبينا بورك لهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما"، وصار بهذا الاعتبار كما إذا فقأ هو عينها، أو فقأها آخر وأخذ أرشها، وكذلك لو أصاب الثوب قرض فأر أو حرق نار ينبغي أن لا يبيعه مرايحة حتى يبين كما
إذا كان ذلك بصنعه مع أن الصفات على نوعين:
منها: ما هو جزء من الذات.
ومنها: ما هو معنى قائم بالذات.
وبذهاب العين من الأمة، والجزء من الثوب بقرض الفأر أو حرق النار، نقص جزء من ذات المبيع، فلا بد من البيان.
قوله: (لأنه عليه الصلاة والسلام "نهى عن بيع ما لم يقبض"، ولأن فيه غرر انفساخ العقد على اعتبار الهلاك).
الكلام على كلام المصنف هنا في موضعين:
أحدهما: على ما أشار إليه من الحديث.
والثاني: على ما أشار إليه من التعليل.
أما الأول: فلم يرد هذا النهي العام في الصحيح، وإنما ورد في بعض السنن، كما في حديث حكيم بن حزام "قال: قلت/ يا رسول الله إني
أشتري بيوعاً فما يحل لي منها، وما يحرم علي؟ قال: فإذا اشتريت شيئاً فلا تبعه حتى تقبضه" رواه أحمد، وعن زيد بن ثابت أنه عليه الصلاة والسلام "نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم" رواه أبو داود والدارقطني، وعن ابن عباس رضي الله عنهما "أنه قال: أما الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فهو الطعام أن يباع حتى يقبض، قال ابن عباس: ولا أحسب كل شئ إلا مثله" رواه الجماعة إلا الترمذي، والنهي عن بيع الطعام حتى يقبض ثابت في الصحيحين والسنن من حديث أبي هريرة وجابر وابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم، ومن ثم حصل الخلاف في تعميمه وتعليله.
وأما الموضع الثاني وهو تعليله بأن فيه غرر انفساخ العقد على اعتبار الهلاك، بعني العقد الثاني، وهذا مبني على أن هلاك المبيع قبل قبضه يوجب انفساخ العقد، فإذا انفسخ العقد بهلاك المبيع قبل قبضه وقد باعه من آخر تبين أنه باع ما لا يملك فتمكن فيه غرر، وقد اعترض على هذا الأصل أصحاب مالك وأحمد وغيرهم.
وقالوا: لا نسلم أن كل مبيع قبل قبضه يكون مضموناً على البائع بل هذا خلاف السنة الثابتة فقد قال ابن عمر رضي الله عنه: "مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حياً مجموعاً، فضمانه على المشتري" رواه البخاري تعليقاً، وقول الصحابي:"مضت السنة" يقتضي سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن المنذر: ولا يعلم لابن عمر مخالفاً يعني من الصحابة، وقد أجمعوا على أن المشتري لو أعتق العبد المشترى قبل القبض أن العتق يقع به لتمام ملكه عليه، وكذلك إذا تلفت السلعة فمن ماله لتمام ملكه عليها انتهى.
ولا شك أن المشتري قد ملكه وزيادته له و "الخراج بالضمان" فإذا كان خراجه له كان ضمانه عليه، لكن هذا إذا ملكه البائع من قبضه ولم يقبضه فإذا لم يمكنه من قبض الثمن فيكون العقد لم يتم بعد، فيكون من ضمان البائع فهذا اعتراض على وصف العلة، ثم اعترضوا على تأثير هذا الوصف، فقالوا: هب أنه يهلك من ضمان البائع ويتوالى ضمانان، فأي محذور في هذا يكون موجباً للنهي ولو اشتراه مائة من واحد إلى واحد رجع إلى واحد على الآخر بما أقبضه إياه من الثمن ولو ظهر المبيع مستحقاً لرجعوا بذلك.
وفي الشقص المشفوع لو تبايعه ثم أخذه الشفيع من المشتري الأول رجع كل واحد بما أعطاه، ومن علل بوصف فعليه أن يبين تأثيره إما لكون الشرع جعل مثله مقتضياً للحكم، وإما لمناسبة تقتضي ترتيب الحكم على الوصف، وقد ذكر بعضهم علة مناسبة وهي أنه إنما نهى عن ذلك لأن المبيع قبل القبض فيه غرر؛ لأنه قد سلمه البائع، وقد لا يسلمه لاسيما إذا رأى
المشتري قد ربح فيه فيختار أن يكون الربح له وهذا واقع كثيراً بيع للرجل، فإذا رأى السعر ارتفع سعى في رد البيع إما بجحده، وإما باحتيال في الفسخ بأن يطلب فيه عيباً أو يدعي غبناً أو غرراً، ومن اعتبر أحوال الناس وجد كثيراً منهم يندم على البيع وكثيراً ما يكون الندم لارتفاع السعر، فيسعى في الفسخ إن لم يتمكن من المنع بيده، فإذا كان الأمر كذلك فيكون قد باع ما ليس عنده، ويحصل الضرر للمشتري الثاني بأن يشتري ما يظن أنه يتمكن من قبضه فيحال بينه وبينه، وهذا من بيع الغرر.
وهذا بخلاف ما لو دفعه البائع، فإنه لا يطمع أن يكون الربح له، وكذلك الموروث لا حق فيه لغير الوارث، وعلى هذا فالأقوى أنه يجوز فيه التولية والشركة كما قال مالك وغيره.
وقد استدلوا في ذلك بحديث زهرة بن معبد "أنه كان يخرج به جده عبد الله بن هشام إلى السوق فيشتري الطعام فيلقاه ابن عمر وابن الزبير فيقولان له: أشركنا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا لك بالبركة فيشركهم فربما أصاب
الراحلة كما هي فيبعث بها إلى المنزل" أخرجه /البخاري، ولذلك تجوز الإقالة فيه وبيعه من بائعه؛ لأنه لا محذور فيه، وخرج كلام الرسول صلى الله عليه وسلم عاماً لأن غالب البياعات مرابحة، ولهذا الله أعلم قال صلى الله عليه وسلم: "حتى يؤويها النجار إلى رحالهم".
وعادة التجار هو البيع مرابحة، وهذا المعنى يعم الطعام وغيره، وأيضاً فإن التاجر إذا اشترى سلعة فإنما اشتراها ليربح فيها، فلابد أن يعمل فيها عمل التاجر -من نقلها من مكان أو حبسها إلى حين يرتفع السعر أو أن يشتري جملة ويبيع مفرقاً ونحو ذلك- فأما إذا اشتراها وباعها في مكانها من غير أن يعمل فيها شيئاً فليس هذا بتاجر، وإن كانت قد صارت في ضمانه بتخليه البائع بينه وبينها فليس كل مضمون يباح ربحه.
وروى ابن عمر: "أنهم كانوا يضربون إذا اشتروا الصبرة جزافاً أن يبيعوها في موضعها حتى ينقلوها".
وقد قال ابن عباس: لا أحسب كل شئ إلا بمنزلة الطعام.
قوله: (إلا القرض فإن تأجيله لا يصح لأنه إعارة وصلة في الابتداء حتى يصبح بلفظة الإعارة ولا يملكه من لا يملك التبرع كالوصي والصبي، ومعاوضة في الانتهاء، فعلى اعتبار الابتداء لا يلزم التأجيل فيه كما في الإعارة إذ لا جبر في التبرع، وعلى اعتبار الانتهاء لا يصح لأنه يصير بيع الدرهم بالدرهم نسيئه، وهو ربا).
أما قوله: فإن تأجيله لا يصح. فلا خلاف في صحته، وإنما بالخلاف في لزومه فالتجارة مدخولة، ذكر الأقطع في شرحه: ولو شرطا الأجل في
ابتداء القرض بطل الشرط وصح القرض فكذا ذلك إذا شرطاه في الثاني، انتهى.
وأما قوله: ومعاوضة في الانتهاء. [ثم] قال: وعلى اعتبار الانتهاء لا يصح لأنه يصير بيع الدرهم بالدرهم نسيئه وهو ربا. فإن أراد بقوله أنه معاوضة في الانتهاء من حيث الصورة فمسلم، وإن أراد به من حيث المعنى والحكم فممنوع، بل لم يعتبر الشرع فيه معنى المعاوضة أصلاً، لأن المفترض لا يأخذ ما يقترضه إلا لينتفع به، ولا يتأتى ذلك إلا في زمان مستقبل ولا يستقرض أحد شيئاً ليرد عوضه في المجلس فكان التأجيل أصلاً فيه لكنه قد يطول زمانه وقد يقصر وليس له مدة معلومة لا يزاد عليها، فإذا قدر الأجل كان ذلك من مقتضيات القرض، ولهذا يكره له المطالبة قبل الأجل عند من لا يرى لزوم التأجيل لما فيه من خلف الوعد، ولو كان التأجيل ينافيه لاستوى اشتراطه وعدمه كما في جميع صور الربا ولما صح، وقد تقدم أن التأجيل يصح بالإجماع، وإنما الخلاف في لزومه، وليس القرض نوعاً من أنواع البيوع، وإنما نوع من أنواع العواري، فإن المقترض قصده المنفعة كالمستعير، لكن المستعير ينتفع بالعين مع بقائها، والمقترض مع ذهاب العين، ولهذا أشكل الجامع بينه وبين بقية أنواع العواري.
ولا شك أن أنواع العواري منها ما يستفاد منه منفعة محضة كما في الماعون والملبوس والمركوب والعقار ونحو ذلك، وهذا يطلق عليه اسم العارية، وقد يطلق على بعضه اسم آخر، كما قال: أفقره ظهر بعيره، وأطعمه أرضه وألبسه ثوبه، وأسكنه داره، ومنه قولهم: داري لك سكنى.
ومنها ما يستفاد منه المنفعة بما يخرج من العين مع بقاء العين المستعارة كعارية البقرة أو الشاة ليشرب لبنها مدة ثم يعيدها، وعارية النخلة ليأخذ ثمرتها ثم يعيدها، ويسمى الأول: منحة والثاني: عرية.
ومنها ما يستفاد منه المنفعة بنفس العين ويسمى قرضاً، ويجوز في المكيل والموزون بلا خلاف، ويجوز في الحيوان سوى بني آدم عند الشافعي وأحمد للسنة الواردة فيه، والمسألة معروفة، والفارق بينه وبين أنواع المعاوضات: أن كلا من المتعاقدين في عقود المعوضات يقصد بل ما يدفعه /لتحصيل ما يأخذه من العوض من صاحبه، بخلاف القرض فإن
المقرض لا يقصد أخذ العوض؛ لأنه نظير ما يبذله سواء مع تأخر قبضه، وإنما يقصد نفع المقترض فلم يكن العوض فيه مقصوداً أصلاً، فانتفى أن يعد من باب المعاوضات، بل من باب المنح والعواري، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"منحة الورق" ويقال فيه: أعرني دراهمك، وعين الدراهم غير مقصودة، وإنما المقصودة منفعتها والانتفاع بكل شئ بحسبه، ولم يبق إلا أنه عقد تبرع، والتبرع لا يلزم بالعقد، وعند مالك في أهل المدينة، وهو رواية عن أحمد أن التبرع يلزم بالعقد، وعليه تدل نصوص الكتاب والسنة:
منه: قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} .
وقوله تعالى: {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولاً} .
وقوله تعالى: {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم} .
وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجلٍ مسمى فاكتبوه} الآية.
والقرض من جملة الدين ولم يخصصه نص آخر، فوجب دخوله في عموم الآية.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون عند شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً". لا خلاف في لزوم الوفاء بالنذر مع كونه من عقود التبرع، ومن يلزم المتطوع بالشروع، كيف لا يلزم المتبرع بالعقد مع أ، هـ أشبه بالنذر منه بالمشروع في النفل. والله أعلم.
* * *