الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
راكبًا على بعضها إلا أن يسرق البعير براكبه لأنه في يد راكبه لم تزل يده عنه بإخراجه عن الطريق، وذلك لأن العادة جرت بالحفظ على هذا الوجه، وبذلك قال الشافعي وأحمد وغيرهما.
وكذلك إذا سرق الجوالق بما فيه [وقولهم إن من يسرق الجوالق بما فيه] لا يقطع وكذلك الخيمة ونحوها لأنها هي الحرز لما فيها.
جوابه: أنها وإن كانت حرزًا لما فيها لا يمتنع أن تكون هي محرزة بحافظها، كمن دخل دارًا وسرق صندوقًا مقفلًا لما فيه.
فصل في كيفية القطع وإثباته:
قوله: (وكذا إذا كانت إبهامه اليسرى مقطوعة أو شلاء أو أصبعان منها سوى الإبهام، لأن قوام البطش بالإبهام).
يعني أنه لا تقطع يمينه والحالة هذه وفيه نظر فإن عدم قطع اليمنى إذا كانت اليسرى شلاء أو مقطوعة إنما كان بالرأي والاجتهاد، فإذا اختلت المنفعة كان أبعد، والأمر بقطع اليد مطلق فكيف يقيد بكونه يلزم من قطعها خلل ظاهر في منفعة البطش، والخطأ في العمل بإطلاق النص أسهل من الخطأ في
تقييده بمثل هذا القيد.
قوله: (خلافًا للشافعي في الإقرار):
يعني أن الشافعي يقطع السارق بإقراره من غير دعوى، وليس ذلك مذهب الشافعي، وإنما خالف في اشتراط الدعوى للإقرار والبينة، مالك وأبو ثور وابن المنذر ومذهب الشافعي وأحمد كمذهب أبي حنيفة في ذلك، وعن أبي أمية المخزومي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بلص قد اعترف اعترافًا، ولم يوجد معه متاع، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما إخالك سرقت فقال: بلى، فأمر به فقطع" الحديث، رواه أبو داود والنسائي.
قوله: (إلا أن الراهن إنما يقطع بخصومته حال قيام الرهن قبل قضاء الدين أو بعده لأنه لا حق له في المطالبة بالعين بدونه).
هكذا وقع في عامة النسخ -أعني قوله: قبل قضاء الدين أو بعده -وهو مشكل، لأن تعليله بعده يناقضه مناقضة ظاهرة، وهو قوله: لأنه لا حق له في المطالبة بالعين بدونه، أي: ليس له المطالبة بالعين المرهونة قبل قضاء الدين، ولأجل هذا الإشكال قال السغناقي في شرحه: إن الأصح من النسخ قوله: إلا أن الراهن إنما يقطع بخصومته حال قيام الرهن بعد قضاء الدين لأنه لا حق له
…
إلى آخره.
قوله: (وإن قطع سارق بسرقة، فسرقت منه لم يكن له ولا لرب السرقة أن يقطع السارق الثاني، لأن المال غير متقوم في حق السارق حتى لا يجب عليه الضمان بالهلاك فلم ينعقد موجبه في نفسها).
هذه المسألة تنبني على مسألة سقوط الضمان بالقطع، وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى.
قوله: (وإذا قضي على الرجل بالقطع في سرقة فوهبت له لم يقطع -معناه إذا سلمت إليه -وكذلك إذا باعها المالك إياه، وقال زفر والشافعي: يقطع، وهو رواية عن أبي يوسف).
وبه قال مالك وأحمد وإسحاق أيضًا، وحجتهم في ذلك حديث صفوان بن أمية رضي الله عنه قال:"كنت نائمًا في المسجد على خميصة لي فسرقت فأخذنا السارق فرفعناه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بقطعه، فقلت: يا رسول الله أفي خميصة ثمن ثلاثين درهمًا أنا أهبها له وأبيعها له، قال: فهلا كان قبل أن تأتيني به" رواه الخمسة إلا الترمذي.
وفي رواية لأحمد والنسائي "فقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وليس لأحد مع السنة كلام، ولو بلغ أبا حنيفة ومحمدًا هذا الحديث على هذا الوجه لم يقولا بخلافه أبدًا.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تعافوا
الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب" رواه النسائي وأبو داود.
قوله: (وكذلك إذا انقضت قيمتها من النصاب -يعني قبل الاستيفاء بعد القضاء -عن محمد أنه يقطع، وهو قول زفر والشافعي رحمهما الله تعالى).
وهو قول مالك وأحمد أيضًا، وإذا كان هبة المسروق من السارق أو بيعه منه بعد القضاء بقطعه لا يمنع للحديث المتقدم، فنقصان السعر أولى، لأن السرقة قد ظهرت من كل وجه ولم يعتبر الشارع الإمضاء من القضاء في حق درء القطع.
قال في المغني: سواء نقصت قيمتها قبل الحكم أو بعده، لأن سبب الوجوب السرقة فيعتبر النصاب حينئذ، فأما إن نقص النصاب قبل الإخراج لم يجب القطع، لعدم الشرط قبل تمام السبب. انتهى.
قوله: (وإذا ادعى السارق أن العين المسروقة ملكه، سقط القطع عنه
وإن لم يقم بينة، معناه بعد ما شهد الشاهدان بالسرقة، وقال الشافعي رحمه الله: لا يسقط بمجرد الدعوى).
المخالف في هذه المسألة: مالك لا الشافعي، وسماه الشافعي السارق الظريف.
وعن أحمد ثلاث روايات، الثالثة: يقبل منه إذا لم يكن معروفًا بالسرقة، ويسقط القطع عنه، وإن كان معروفًا بالسرقة قطع، وما أحسن هذا التفصيل، وإلا فلا يعجز سارق قط عن التكلم بهذا البهتان، ويتخلص من القطع فما معنى شرع قطع يد السارق ثم إسقاطه بهذا الزور والبهتان.
قوله: (وإذا أقر رجلان بسرقة ثم قال أحدهما: هو مالي، لم يقطعا، لأن الرجوع عامل في حق الراجع، ومورث للشبهة في حق الآخر، لأن السرقة تثبت بإقرارهما على الشركة).
ينبغي أن لا يورث هذا شبهة في حق الآخر، لأن تأثير دعوى الملك في حق مدعيه إنما هو باعتبار كونه شبهة، فتأثيره في حق الآخر ينزل عنه إلى شبهة الشبهة، وفي اعتبار الشبهة الأولى نظر، فالثانية أبعد، وأيضًا فإن كلًا
منهما مؤاخذ بسرقة نفسه ولهذا يحتاج إلى تكميل النصاب في حق كل منهما فكيف يصح تعليله بأن السرقة تثبت بإقرارهما على الشركة في درء الحد عن من هو مقر بالسرقة ثابت على إقراره لا شبهة في سرقته.
قوله: (ولنا قوله عليه الصلاة والسلام "لا غرم على السارق بعد ما قطعت يمينه" ولأن وجوب الضمان ينافي القطع لأنه يتملكه بأداء الضمان مستندًا إلى وقت الأخذ، فيتبين أنه ورد على ملكه فينتفي القطع للشبهة وما يؤدي [إلى انتفائه فهو المنتفي، ولأن المحل لا يبقى معصومًا حقًا للعبد إذ لو بقى لكان مباحًا في نفسه فينتفي القطع] للشبهة فيصير محرمًا حقًا للشرع كالميتة، ولا ضمان فيه).
أما الحديث فغير ثابت فإنه أخرجه النسائي والدارقطني والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن عوف، قال عبد الحق: إسناده منقطع.
وقد طعن فيه أيضًا ابن المنذر، وقال ابن عبد البر: الحديث ليس بالقوي ولا تقوم به حجة.
وأما قوله: ولأن وجوب الضمان ينافي القطع، لأنه يتملكه بأداء الضمان مستندًا إلى وقت الأخذ فيتبين أنه ورد على ملكه فينتفي القطع، وما يؤدي إلى انتفائه فهو المنتفي.
فهذا مبني على أن الملك يثبت مستندًا إلى وقت الأخذ، ولا يسلم ذلك المخالف، بل يقول: إن بدلها قد استقر في ذمته، وأن هذا الاستقرار في ذمته لا يمنع القطع، لأن هذه العين تعلق بها حقان، حق الله، وحق لمالكها وهما حقان متغايران لمستحقين متباينين فلا يبطل أحدهما الآخر ويستوفيان معًا، لأن القطع حق الله، والضمان حق للمالك، ولهذا لو أسقط المسروق منه القطع بالهبة ونحوها بعد الرفع إلى الإمام لا يسقط كما ثبت في حديث صفوان المتقدم، ولو أسقط الضمان سقط، وهذا كما لو زنى بأمه ثم قتلها، فإنه يحد وعليه القيمة، فكذا إذا سرقها ثم قتلها، قالوا: وكذا إذا قتل في الإحرام صيدًا مملوكًا لمالكه فعليه الجزاء لحق الله، وقيمة الصيد لمالكه.
قالوا: وكذلك لو غصب خمر ذمي وشربها لزمه الحد حقًا لله، ولزمه عندكم ضمانه للذمي.
قالوا: وقولكم: إنه يتملكه بأداء الضمان مستندًا إلى وقت الأخذ كما قلتم في الغصب ممنوع وسيأتي لذلك بيان في كتاب الغصب إن شاء الله تعالى.
وأما قوله: ولأن المحل لا يبقى معصومًا حقًا للعبد إذ لو بقي كان مباحًا في نفسه فينتفي القطع للشبهة فيصير محرمًا حقًا للشرع/ كالميتة ولا ضمان فيه.
خلاصة هذا البحث أن عدوان السارق إما أن يكون على حق الله أو على حق العبد، لا جائز أن يكون على حق العبد، لأنه يكون حرامًا لغيره لا لعينه وذلك شبهة يدرأ بها الحد، فتعين أن يكون على حق الله فخرج بذلك عن أن يكون معصومًا حقًا للعبد.
وجوابه: أنه بقي قسم ثالث وهو أنه عدوان على حق الله وعلى حق العبد، فجزاء عدوانه على حق الله القطع، وجزاء عدوانه على حق العبد الضمان له، وبهذا يخرج الجواب عن قولهم: إن قوله تعالى: {جزاءً بما كسبا} يمنع التضمين لأنه جعل القطع كل الجزاء، فإنه تعالى جعل القطع الجزاء على كسبه الجريمة، فإن ارتكاب المعصية يسمى كسبًا، قال تعالى {والذين كسبوا السيئات جزاءُ سيئة بمثلها} أما المال فهو لمالكه لم يخرج عن ملكه بسرقته، فإذا وجده بعينه أخذه، وإن لم يجده غرمه السارق جزاء على عدوانه عليه، وتفريقه بينه وبين مالكه.
فالحاصل أن فعله لاقى عصمتين لله وعصمة للعبد، وليس في الآية ولا في المعنى الذي ذكروه ما يمنع من ذلك، وأورد الشيخ ظهير الدين
المرغيناني في فوائده على القول بأن المحل لا يبقى معصومًا حقًا للعبد إلى آخره، فقال: وفي هذه الطريقة نظر، لأن القطع في السرقة يجب صيانة لحقوق الناس فلو قلنا بذلك، يؤدي إلى أن يكون شرعية القطع لصيانة حق الله، وإبطال حقوق الناس فيجب ترك القول به. انتهى.
وقد روى هشام عن محمد أن السارق لا يضمن في الحكم، فأما بينه وبين الله تعالى يفتى بالضمان لأن المسروق منه، قد لحقه الخسران والنقصان بسبب هو متعد فيه ولكن تعذر على القاضي القضاء لما ذكرنا فيفتي برفع النقصان الذي لحقه من جهة السارق فيما بينه وبين الله تعالى، كذا في المبسوط.
وفي الإيضاح: فالأصل في هذه المسائل كلها أن كل فعل انعقد سببًا لوجوب الضمان، وتعذر إيجابه لعارض ظهر أثر ذلك العارض في حق
الحكم، وأما الفتوى فيما بينه وبين الله تعالى يعتبر، قضية السبب انتهى، وهذا تصريح بأن القطع جزاء العدوان على حق الله باعتبار مخالفة أمره، وأن حق العبد باق في ذمة السارق لم يبرأ منه بالقطع، وأن عليه أن يضمن للمالك ماله لكن يفتى بذلك ولا يحكم عليه به، وإذا آل الأمر إلى هذا ظهر قوة قول من قال بإلزامه بالضمان لأن منصب القضاء الإلزام من امتنع عن إيفاء ما عليه إيصالًا للحق إلى مستحقه، وإعانة للمظلوم على الظالم.
***