الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الاستبشار فَإِن الفرنج محصورون والنازل المحصور كالمركب المكسور والنصر قد أعرب لعسكر الْإِسْلَام وَالْكفْر جَار ومجرور
فصل فِي المصاف الْأَعْظَم على عكا وَهِي الْوَقْعَة الْكُبْرَى الَّتِي بدأت بالسوأى وختمت بِالْحُسْنَى
قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد لما كَانَ يَوْم الْأَرْبَعَاء الْحَادِي وَالْعِشْرين من شعْبَان تحركت عَسَاكِر الفرنج حَرَكَة لم يكن لَهُم بِمِثْلِهَا عَادَة فارسهم وراجلهم وَكَبِيرهمْ وصغيرهم وَاصْطَفُّوا خَارج خيمهم قلبا وميمنة وميسرة وَفِي الْقلب الْملك وَبَين يَدَيْهِ الانجيل مَحْمُول مَسْتُور بِثَوْب أطلس نقطي يمسك أَرْبَعَة أنفس أَرْبَعَة أَطْرَافه وهم يَسِيرُونَ بَين يَدي الْملك
وامتدت الميمنة فِي مُقَابلَة ميسرَة الْمُسلمين من أَولهَا إِلَى آخرهَا وامتدت ميسرَة الْعَدو فِي مُقَابلَة ميمنتنا إِلَى آخرهَا وملكوا رُؤُوس التلال فَكَانَ طرف ميمنتهم إِلَى النَّهر وطرف ميسرتهم إِلَى الْبَحْر وَأمر السُّلْطَان الجاووش أَن يُنَادي فِي النَّاس يَا للاسلام وعساكر الْمُوَحِّدين فَركب النَّاس وَقد باعوا أنفسهم بِالْجنَّةِ وامتدت الميمنة إِلَى الْبَحْر كل قوم يركبون ويقفون بَين يَدي خيامهم والميسرة إِلَى النَّهر كَذَلِك أَيْضا
وَكَانَ السُّلْطَان قد أنزل النَّاس فِي الخيم ميمنة وميسرة وَقَلْبًا تعبية الْحَرْب حَتَّى إِذا وَقعت صَيْحَة لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى تَجْدِيد تَرْتِيب وَكَانَ هُوَ فِي الْقلب وَفِي ميمنة الْقلب وَلَده الْأَفْضَل ثمَّ وَلَده الظافر ثمَّ عَسْكَر المواصلة مقدمهم ظهير الدّين ابْن البلنكري ثمَّ عَسْكَر ديار بكر فِي خدمَة قطب الدّين صَاحب الْحصن ثمَّ حسام الدّين عمر بن لاجين صَاحب نابلس ثمَّ قايماز النجمي وجموع عَظِيمَة متصلين بِطرف الميمنة وَكَانَ فِي طرفها الْملك المظفر تَقِيّ الدّين بجحفله وَعَسْكَره وهومطل على الْبَحْر
وَأما أَوَائِل الميسرة فَكَانَ مِمَّا يَلِي الْقلب سيف الدّين عَليّ بن أَحْمد المشطوب من كبار مُلُوك الأكراد ومقدميهم والأمير مجلي وَجَمَاعَة المهرانية والهكارية وَمُجاهد الدّين يرنقش مقدم عَسْكَر سنجار وَجَمَاعَة من المماليك ثمَّ مظفر الدّين بن زين الدّين بجحفله وَعَسْكَره
وأواخر الميسرة كبار المماليك الأَسدِية كسيف الدّين يازكوج ورسلان بغا وَجَمَاعَة الأَسدِية الَّذين يضْرب بهم الْمثل وَفِي مُقَدّمَة الْقلب الْفَقِيه عِيسَى وَجمعه هَذَا وَالسُّلْطَان رَحمَه الله تَعَالَى يطوف على الأطلاب بِنَفسِهِ يحثهم على الْقِتَال ويدعوهم إِلَى النزال ويرغبهم فِي نصْرَة دين الله
وَلم يزل الْقَوْم يتقدمون والمسلمون يقدمُونَ حَتَّى علا النَّهَار وَمضى فِيهِ أَربع سَاعَات وَعند ذَلِك تحركت ميسرَة الْعَدو على ميمنة الْمُسلمين وَأخرج لَهُم تَقِيّ الدّين الجاليش وَجرى بَينهم
قلبات كَثِيرَة وتكاثروا على تَقِيّ الدّين وَكَانَ فِي طرف الميمنة على الْبَحْر فتراجع عَنْهُم شَيْئا إطماعا لَهُم لَعَلَّهُم يبعدون عَن أَصْحَابهم فينال مِنْهُم غَرضا فَلَمَّا رَآهُ السُّلْطَان قد تَأَخّر ظن بِهِ ضعفا فأمده بأطلاب عدَّة من الْقلب حَتَّى قوي جَانِبه وتراجعت ميسرَة الْعَدو وَاجْتمعت على تل مشرف على الْبَحْر وَلما رأى الَّذين فِي مُقَابلَة الْقلب ضعف الْقلب وَمن خرج مِنْهُ من الأطلاب داخلهم الطمع وتحركوا نَحْو ميمنة الْقلب وحملوا حَملَة الرجل الْوَاحِد راجلهم وفارسهم
قَالَ وَلَقَد رَأَيْت الرجالة تسير سير الخيالة وَلَا يسبقونها وهم يَسِيرُونَ خببا
وَجَاءَت الحملة على الدياربكرية كَمَا يَشَاء الله تَعَالَى وَكَانَ بهم غرَّة عَن الْحَرْب فتحركوا بَين يَدي الْعَدو وانكسروا كسرة عَظِيمَة وسرى الْأَمر حَتَّى انْكَسَرَ مُعظم الميمنة وَاتبع الْعَدو المنهزمين إِلَى العياضية فَإِنَّهُم استداروا حول التل وَصعد طَائِفَة من الْعَدو إِلَى خيم السُّلْطَان فَقتلُوا طشت دَار كَانَ هُنَاكَ وَفِي ذَلِك الْيَوْم اسْتشْهد إِسْمَاعِيل المكبس وَابْن رَوَاحَة رحمهمَا الله تَعَالَى وَأما الميسرة فَإِنَّهَا ثبتَتْ فَإِن الحملة لم تصادفها
وَأما السُّلْطَان رحمه الله فَإِنَّهُ أَخذ يطوف على الأطلاب ينهضهم ويعدهم الوعود الجميلة ويحثهم على الْجِهَاد وينادي فيهم يَا للاسلام وَلم يبْق مَعَه إِلَّا خَمْسَة أنفس وَهُوَ يطوف ويتخرق الصُّفُوف وَأَوَى إِلَى تَحت التل الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ الْخيام
وَأما المنهزمون من الْعَسْكَر فَإِنَّهُم بلغت هزيمتهم إِلَى القحوانة قَاطع جسر طبرية وَتمّ مِنْهُم قوم إِلَى دمشق وَأما المتبعون لَهُم فانهم اتَّبَعُوهُمْ إِلَى العياضية فَلَمَّا رَأَوْهُمْ قد صعدوا الْجَبَل رجعُوا عَنْهُم عائدين إِلَى عَسْكَرهمْ فَلَقِيَهُمْ جمَاعَة من الغلمان والخربندية والساسة منهزمين على بغال الْحمل فَقتلُوا مِنْهُم جمَاعَة ثمَّ جاؤوا على رَأس السُّوق فَقتلُوا جمَاعَة وَقتل مِنْهُم جمَاعَة فَإِن السُّوق كَانَ فِيهِ خلق عَظِيم وَلَهُم سلَاح
وَأما الَّذين صعدوا الخيم السُّلْطَانِيَّة فَإِنَّهُم لم يلتمسوا مِنْهَا شَيْئا أصلا سوى أَنهم قتلوا من ذَكرْنَاهُ وهم ثَلَاثَة نفر ثمَّ رَأَوْا ميسرَة الْإِسْلَام ثَابِتَة فَعلم وَا أَن الكسرة لم تتمّ فعادوا منحدرين من التل يطْلبُونَ عَسْكَرهمْ
وَأما السُّلْطَان فانه كَانَ وَاقِفًا تَحت التل وَمَعَهُ نفر يسير وَهُوَ يجمع النَّاس ليعودوا إِلَى الحملة على الْعَدو فَلَمَّا رأى الفرنج نازلين من التل أَرَادوا لقاءهم فَأَمرهمْ بِالصبرِ إِلَى أَن ولوا ظُهُورهمْ واشتدوا يطْلبُونَ أَصْحَابهم فصاح فِي النَّاس وحملوا
عَلَيْهِم وطرحوا مِنْهُم جمَاعَة وَاشْتَدَّ الطمع فيهم وتكاثر النَّاس ورائهم حَتَّى لَحِقُوا أَصْحَابهم والطرد وَرَاءَهُمْ فَلَمَّا رَأَوْهُمْ منهزمين والمسلمون وَرَاءَهُمْ فِي عدد كثير ظنُّوا أَن من حمل مِنْهُم قد قتل وَأَنه إِنَّمَا نجا مِنْهُم هَذَا النَّفر فَقَط وَأَن الْهَزِيمَة قد عَادَتْ عَلَيْهِم فاشتدوا فِي الْهَرَب والهزيمة وتحركت الميسرة عَلَيْهِم
وَعَاد الْملك المظفر بجمعه من الميمنة وتحايا الرِّجَال وتداعت وتراجع النَّاس من كل جَانب وَكذب الله الشَّيْطَان وَنصر الايمان وظل النَّاس فِي قتل وَطرح وَضرب وجرح إِلَى أَن اتَّصل المنهزمون السالمون إِلَى عَسْكَر الْعَدو فهجم الْمُسلمُونَ عَلَيْهِم فِي الْخيام فَخرج مِنْهُم أطلاب كَانُوا أعدوها - خشيَة من هَذَا الْأَمر - مستريحة فَردُّوا الْمُسلمين وَكَانَ التَّعَب قد أَخذ من النَّاس وَالْخَوْف والعرق قد ألجمهم فتراجع النَّاس عَنْهُم بعد صَلَاة الْعَصْر يَخُوضُونَ فِي الْقَتْلَى وَدِمَائِهِمْ فرحين مسرورين
وَعَاد السُّلْطَان وجلسوا فِي خدمته يتذاكرون من فقد مِنْهُم فَكَانَ مِقْدَار من فقد مِنْهُم من الغلمان والمجهولين مئة وَخمسين نَفرا وَمن المعروفين اسْتشْهد فِي ذَلِك الْيَوْم ظهير الدّين أَخُو الْفَقِيه عِيسَى رحمه الله وَلَقَد رَأَيْته وهوجالس يضْحك وَالنَّاس يعزونه وَهُوَ يُنكر عَلَيْهِم وَيَقُول هَذَا يَوْم الهناء لَا يَوْم العزاء وَكَانَ قد وَقع هُوَ من فرسه رحمه الله وأركبه وَقتل عَلَيْهِ جمَاعَة من أَقَاربه وَقتل فِي ذَلِك الْيَوْم الْأَمِير مجلي يَعْنِي ابْن مَرْوَان
وَزَاد العما والحاجب خَلِيل الهكاري
ثمَّ قَالَ القَاضِي هَذَا الَّذِي قتل من الْمُسلمين وَأما الْعَدو المخذول فحزر قتلاهم بسبعة آلَاف نفر ورأيتهم وَقد حملُوا إِلَى شاطئ النَّهر ليلقوا فِيهِ فحرزتهم بِدُونِ سَبْعَة آلَاف
وَلما تمّ على الْمُسلمين من الْهَزِيمَة مَا تمّ راى الغلمان خلو الْخيام عَمَّن يعْتَرض عَلَيْهِم فان الْعَسْكَر انقسم إِلَى منهزمين ومقاتلين فَلم يبْق فِي الخيم أحد وَرَأَوا الكسرة قد وَقعت ظنُّوا أَنَّهَا تتمّ وَأَن الْعَدو ينهب جَمِيع مَا فِي الخيم فوضعوا أَيْديهم فِي الخيم ونهبوا جَمِيع مَا كَانَ فِيهَا وَذهب من النَّاس أَمْوَال عَظِيمَة وَكَانَ ذَلِك أعظم من الكسرة وَقعا
فَلَمَّا عَاد السُّلْطَان إِلَى الخيم وَرَأى مَا قد تمّ على النَّاس من نهب الْأَمْوَال والهزيمة سارع فِي الْكتب وَالرسل فِي رد المنهزمين وتتبع من شَذَّ من الْعَسْكَر وَالرسل يتتابع فِي هَذَا الْمَعْنى حَتَّى بلغت عقبَة فيق فردوهم وأخبروهم بالكرة للْمُسلمين فعادوا
وَأمر بِجمع الأقمشة من أكف الغلمان وَجمع الأقمشة فِي خيمته حَتَّى جلالات الْخَيل والمخالي وَهُوَ جَالس وَنحن حوله وَهُوَ يتَقَدَّم إِلَى كل من عرف شَيْئا وَحلف عَلَيْهِ يسلم إِلَيْهِ وَهُوَ يتلَقَّى هَذِه الْأَحْوَال بقلب صلب وَصدر رحب وَوجه منبسط ورأي مُسْتَقِيم واحتساب لله تَعَالَى وَقُوَّة عزم فِي نصْرَة دينه
وَأما الْعَدو المخذول فانه عَاد إِلَى خيمه وَقد قتلت
شجعانهم وفقدت مُلُوكهمْ وطرحت مقدموهم وَأمر السُّلْطَان أَن يخرج من عكا عجل يسْحَبُونَ عَلَيْهِ] الْقَتْلَى مِنْهُم إِلَى طرف النَّهر ليلقوا فِيهِ
قَالَ وَلَقَد حكى لي بعض من ولي أَمر الْعجل أَنه أَخذ خيطا وَكَانَ كلما أَخذ قَتِيل عقد عقدَة فَبلغ عدد قَتْلَى الميسرة أَرْبَعَة آلَاف ومئة وكسرا وَبَقِي قَتْلَى الميمنة وقتلى الْقلب لم يعدهم فَإِنَّهُ ولي أَمرهم غَيره وَبَقِي من الْعَدو بعد ذَلِك من حمى نَفسه وَأَقَامُوا فِي خيمهم لم يكترثوا بجحافل الْمُسلمين وعساكرهم وتشذب من عَسَاكِر الْمُسلمين خلق كثير بِسَبَب الْهَزِيمَة فَإِنَّهُ مَا رَجَعَ مِنْهَا إِلَّا رجل مَعْرُوف خَافَ على نَفسه وَالْبَاقُونَ ذَهَبُوا فِي حَال سبيلهم
وَأخذ السُّلْطَان فِي جمع الْأَمْوَال المنهوبة وإعادتها إِلَى أَصْحَابهَا وَأقَام المنادية فِي العساكر وَقرن النداء بالوعيد والتهديد وَهُوَ يتَوَلَّى تفرقتها بِنَفسِهِ بَين يَدَيْهِ وَاجْتمعَ من الأقمشة عدد كثير فِي خيمته حَتَّى إِن الْجَالِس فِي أحد الطَّرفَيْنِ لَا يرى الْجَالِس فِي الطّرف الآخر وَأقَام من يُنَادي على من ضَاعَ مِنْهُ شَيْء] فَحَضَرَ
الْخلق وَصَارَ من عرف شَيْئا وَأعْطى علامته حلف عَلَيْهِ وَأَخذه من الْحَبل والمخلاة إِلَى الْهِمْيَان والجوهرة وَلَقي من ذَلِك مشقة عَظِيمَة وَلَا يرى ذَلِك إِلَّا نعْمَة من الله تَعَالَى يشْكر عَلَيْهَا ويسابق بيد الْقبُول إِلَيْهَا وَلَقَد حضرت يَوْم تَفْرِقَة الأقمشة على أربهابها فَرَأَيْت سوقا للعدل قَائِمَة لم ير فِي الدُّنْيَا أعظم مِنْهَا وَكَانَ ذَلِك فِي يَوْم الْجُمُعَة الثَّالِث وَالْعِشْرين من شعْبَان
قَالَ وَعند انْقِضَاء هَذِه الْوَقْعَة وَسُكُون نائرتها أَمر السُّلْطَان بالثقل حَتَّى تراجع إِلَى مَوضِع يُقَال لَهُ الخروبة خشيَة على الْعَسْكَر من أراييح الْقَتْلَى وآثار الْوَقْعَة من الوخم وَهُوَ مَوضِع قريب من مَكَان الْوَقْعَة إِلَّا أَنه أبعد عَنْهَا من الْمَكَان الَّذِي كَانَ نازلا فِيهِ بِقَلِيل وَضربت لَهُ خيمة عِنْد الثّقل وَأمر اليزك أَن يكون مُقيما فِي الْمَكَان الَّذِي كَانَ نازلا فِيهِ واستحضر الْأُمَرَاء وأرباب المشورة فِي سلخ الشَّهْر ثمَّ أَمرهم بالاصغاء إِلَى كَلَامه وَكنت من جملَة الْحَاضِرين ثمَّ قَالَ بِسم الله وَالْحَمْد الله وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على رَسُول الله اعلموا أَن هَذَا عَدو الله وعدونا قد نزل فِي بلدنا وَقد وطئ أَرض الْإِسْلَام وَقد لاحت لوائح النُّصْرَة عَلَيْهِ إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَقد بَقِي فِي هَذَا الْجمع الْيَسِير وَلَا بُد من الاهتمام بقلعه وَالله قد أوجب علينا ذَلِك وَأَنْتُم تعلمُونَ أَن هَذِه
عساكرنا لَيْسَ وَرَاءَنَا نجدة ننتظرها سوى الْملك الْعَادِل وَهُوَ وَاصل وَهَذَا الْعَدو إِن بَقِي وَطَالَ أمره إِلَى أَن ينفتح الْبَحْر جَاءَهُ مدد عَظِيم والرأي كل الرَّأْي عِنْدِي مناجزته فليخبرنا كل مِنْكُم مَا عِنْده فِي ذَلِك
وَكَانَ ذَلِك فِي ثَالِث عشر تشرين - يَعْنِي الثَّانِي - من الشُّهُور الشمسية فانفصلت آراؤهم على أَن الْمصلحَة تَأَخّر الْعَسْكَر إِلَى الخروبة وَأَن يبْقى الْعَسْكَر أَيَّامًا حَتَّى يستجم من حمل السِّلَاح وَترجع نُفُوسهم إِلَيْهِم فقد أَخذ مِنْهُم التَّعَب وَاسْتولى على نُفُوسهم الضجر وتكليفهم أمرا على خلاف مَا تحمله القوى لَا تؤمن غائلته وَالنَّاس لَهُم خَمْسُونَ يَوْمًا تَحت السِّلَاح وَفَوق الْخَيل وَالْخَيْل قد ضجرت من عَرك اللجم وَعند أَخذ حَظّ من الرَّاحَة ترجع نفوسها إِلَيْهَا ويصل الْملك الْعَادِل ويشاركنا فِي الرَّأْي وَالْعَمَل ونستعيد من شَذَّ من العساكر ونجمع الرجالة ليقفوا فِي مُقَابلَة الرجالة وَكَانَ بالسلطان رحمه الله التياث مزاجي قد عراه من كَثْرَة مَا حمل على قلبه وَمَا عاناه من التَّعَب بِحمْل السِّلَاح والفكر فِي تِلْكَ الْأَيَّام فَوَقع لَهُ مَا قَالُوهُ وَرَآهُ مصلحَة فَأَقَامَ يصلح مزاجه وَيجمع العساكر إِلَى عَاشر رَمَضَان
قَالَ وَكَانَ لما بلغه خبر الْعَدو وقصده عكا جمع الْأُمَرَاء وَأَصْحَاب الرَّأْي بمرج عُيُون وشاورهم فِيمَا يصنع وَكَانَ رَأْيه -
رَحمَه الله - أَن قَالَ الْمصلحَة مناجزة الْقَوْم ومنعهم من النُّزُول على الْبَلَد وَإِلَّا إِن نزلُوا جعلُوا الرجالة سورا لَهُم وحفروا الْخَنَادِق وصعب علينا الْوُصُول إِلَيْهِم وَخيف على الْبَلَد مِنْهُم وَكَانَت إِشَارَة الْجَمَاعَة أَنهم إِذا نزلُوا وَاجْتمعت العساكر قلعناهم فِي يَوْم وَاحِد وَكَانَ الْأَمر كَمَا قَالَ وَالله لقد سَمِعت مِنْهُ هَذَا القَوْل وشاهدت الْفِعْل كَمَا قَالَ
وَقَالَ الْعِمَاد عبأ السُّلْطَان ميمنته وميسرته وَطلب من الله نصرته وَهُوَ يمر بالصفوف وَيَأْمُر بِالْوُقُوفِ ويحض على حَظّ الْأَبَد ويحث على الجلاد وَالْجَلد
قَالَ وَكنت فِي جمَاعَة من أهل الْفضل قد ركبنَا فِي ذَلِك الْيَوْم ووقفنا على التل نشاهد الْوَقْعَة وَنحن على بغال بِغَيْر أهبة قتال فَرَأَيْنَا الْعَسْكَر موليا والمنهزم عَمَّا تَركه من خيامه ورحله متخليا فوصلنا إِلَى طبرية فِيمَن وصل وَوجدنَا ساكنها قد أجفل فسقنا إِلَى جسر الصنبرة ونزلنا على شرقيه وكل منا ذاهل عَن شبعه وريه وَمن المنهزمين من بلغ عقبَة فيق وَهُوَ غير مُفِيق وَمِنْهُم من وصل إِلَى دمشق وَهُوَ غير معرج على طَرِيق
وَوصل جمَاعَة من الفرنج إِلَى خيمة السُّلْطَان وجالوا جَوْلَة ثمَّ رَأَوْا انْقِطَاع أشياعهم عَنْهُم فانحدروا عَن التل واستقبلهم أَصْحَابنَا فَرَكبُوا أكتافهم وحكموا فِي رقابهم أسيافهم وَكَانَ ميسرتنا
عَسْكَر سنجار والأسدية فَمَا زلوا وَلَا زَالُوا بل وصلوا وصالوا وحملت عَلَيْهِم ميمنة الفرنج فَكَأَنَّمَا مرت الرِّيَاح بالجبال وَعَاد من كَانَ من الميمنة مثل تَقِيّ الدّين وقايماز النجمي والحسام بن لاجين وَمن ثَبت من أبطال الْمُجَاهدين فَلم يفلت من الْأَعْدَاء إِلَّا أعداد وَلم ينج من آلافها إِلَّا آحَاد وَفرس مِنْهُم زهاء خَمْسَة آلَاف فَارس مِنْهُم مقدم الداوية الَّذِي كُنَّا أطلقناه وَذكر أَنهم فِي مئة ألف وَعشْرين ألف حِين سألناه ثمَّ ضربنا عُنُقه وقا فِي الْفَتْح وَعشرَة الآف
وَقَالَ الْعِمَاد وَمن الْعجب أَن الَّذين ثبتوا منا لم يبلغُوا ألفا فَردُّوا مئة ألف وآتاهم الله قُوَّة من بعد ضعف وَكَانَ الْوَاحِد يَقُول قتلت من المثلثين ثَلَاثِينَ وَأَرْبَعين وتركتهم مصرعين وَكَانَ السُّلْطَان من الثابتين فِي تِلْكَ الجولة الكابتين لأهل الصولة وَقد بَقِي وَحده عِنْد تولي الْمُسلمين وَلَا شكّ أَن الله أنزل مَلَائكَته المسومين
حكى بَعضهم قَالَ كنت مُنْهَزِمًا من فَارس مدجج قد لز بقربي حصانه وهز لصلبي سنانه فأيست من الْبَقَاء ثمَّ أَبْطَأت عَليّ طعنته فَالْتَفت فاذا هُوَ وحصانه كِلَاهُمَا ملقى وَمَا بِالْقربِ أحد فَعرفت أَنه نصر إلهي وصنع رباني
قَالَ وَعَاد السُّلْطَان إِلَى مضاربه وَأمر بموارة الشُّهَدَاء وَمن جُمْلَتهمْ الْفَقِيه أَبُو عَليّ بن رَوَاحه وَكَانَ غزير الْفضل قد أكمل الشجَاعَة والرجاحة وَهُوَ شَاعِر مفلق وفقيه مُحَقّق من ولد عبد الله بن رَوَاحَة الصَّحَابِيّ الْأنْصَارِيّ فِي الشَّهَادَة وَالشعر معرق فطرفه الْأَعْلَى يَوْم مُؤْتَة مَعَ جَعْفَر الطيار وطرفه الْأَقْرَب يَوْم عكا فِي لِقَاء الْكفَّار
قَالَ فِي الْبَرْق وَكَانَ السُّلْطَان قد أنعم عَلَيْهِ فِي حلب بمزرعة وكتبت توقيعه وَأَرَادَ الله تعويقه إِذْ قرب إِلَى الْآخِرَة طَرِيقه وحملت توقيعه إِلَى السُّلْطَان تِلْكَ اللَّيْلَة ليعلم فِيهِ فَمَا علم
وراجعته فِي مَعْنَاهُ فَسكت وَمَا تكلم وَكَانَ سَاعَة الْوَقْعَة رَاكِبًا مَعنا ثمَّ قَالَ وقوفنا يطول فَمضى إِلَى خيمته يتودع فَلَمَّا علم باندفاعنا سَاق وَرَاءَنَا فَقطع عمره قبل أَن يقطع الْوَادي وَكَانَ قَالَ لنا لما أصبح رَأَيْت كَأَن رجلا يحلق رَأْسِي فِي الْمَنَام فَقُلْنَا لَهُ هَذَا من أضغاث الأحلام فنقله الله بعد سَاعَة إِلَى دَار السَّلَام
قلت وَلَيْسَ هُوَ من أَوْلَاد ابْن رَوَاحَة الصَّحَابِيّ ذَاك لم يعقب وَإِنَّمَا فِي أجداده من اسْمه رَوَاحَة وَقد بَيناهُ فِي التَّارِيخ وَالله أعلم
قَالَ وَمِنْهُم إِسْمَاعِيل الصُّوفِي الْأمَوِي المكبس وَشَيخ من الْحَاشِيَة فِي بَيت الطشت وَغُلَام فِي الخزانة أَمِين على الْبَيْت وَآخَرُونَ صودفوا عِنْد التل فجاءتهم السَّعَادَة وفجأتهم الشَّهَادَة وَهَؤُلَاء سوى من وَقع فِي الْوَقْعَة وَذهب قبل الرّجْعَة
وَأجْمع السُّلْطَان وذوو الآراء على أَنه يصبح الْقَوْم فتفقدوا الْعَسْكَر فَإِذا هُوَ قد غَابَ لما نَاب من الْأَمر وراب وَذَلِكَ أَن غلْمَان العسكرية والأوباش ظنُّوا أَن تِلْكَ الفورة هزيمَة فنهبوا الاثقال وعدوها غنيمَة فَمن عَاد إِلَى رَحْله وجده منهوبا مسلوبا وَكَانَ فِي ظَنّه أَنه فرغ من لِقَاء خطب فلقي خطوبا وأصبحنا وَإِذا الْعَسْكَر مفترق
وَالثَّابِت قلق والآمن فرق والغني معدم والجريء متندم
فَهَذَا خلف مَا ذهب من مَاله ذَاهِب وَهَذَا لمن طلب الطَّرِيق بأثقاله طَالب فتفتر ذَلِك الْعَزْم وَتَأَخر ذَلِك الحكم وانتعش الفرنج فِي تِلْكَ الْمدَّة وانتشلوا من تِلْكَ الشدَّة وجاءتهم فِي البحرمراكب أخلفت من عدم وَبنت مَا هدم
وشكونا نَتن رَائِحَة تِلْكَ الْجِيَف فَحملت على الْعجل إِلَى النَّهر ليشْرب من صديدها أهل الْكفْر فَحمل أَكثر من خَمْسَة آلَاف جثة حملت إِلَى النَّار قبل يَوْم الْبعْثَة وأشير على السُّلْطَان بالانتقال إِلَى الخروبة عِنْد خيم الأثقال المضروبة فَسَار إِلَيْهَا رَابِع رَمَضَان وَأمر أهل عكا بإغلاق أَبْوَابهَا وإحكام أَسبَابهَا فَوجدَ الفرنج بذلك الْفرج وشرعوا فِي حفر خَنْدَق على معسكرهم حوالي عكا من الْبَحْر إِلَى الْبَحْر وأخرجوا مَا كَانَ فِي مراكبهم من آلَات الْحصْر وَفِي كل يَوْم يأتينا اليزكية بخبرهم وَبِمَا ظهر من أَثَرهم وَالْجد فِي تعميق الخَنْدَق وتتميم محتفرهم فَكَانَ من قَضَاء الله أَنا أغفلناهم وأمهلناهم بل أهملناهم حَتَّى عمقوا الحفور ووثقوا من ترابها السُّور فَكَانُوا يخندقون ويعمقون ويعملون من تُرَاب الحفرحولهم سورا فَعَاد مخيمهم بَلَدا مَسْتُورا معمورا فملؤوه بالستائر ومنعوه من الطير الطَّائِر وَبَنوهُ وأسسوه وستروه وترسوه ورتبوا عَلَيْهِ رجَالًا وَلم يتْركُوا إِلَيْهِ لواغل مجالا وَتركُوا فِيهِ ابوابا وفروجا ليظهروا مِنْهَا إِذا أَرَادوا خُرُوجًا
وَلما فرغوا من هَذَا الْأَمر اشتغلوا بالحصر وانقطعت الطَّرِيق
على الْمُسلمين إِلَى عكا وَبَان ضعف رَأْي الِانْتِقَال فَإِنَّهُ بَعْدَمَا أضْحك أبكى
وَجَاء كتاب من الْفَاضِل إِلَى الْعِمَاد جَوَابا عَن كِتَابه الْمخبر فِيهِ بوقعة مرج عكا يَقُول فِيهِ وَعرفت مَا جرى على قَضيته فسبحت الله تَعَالَى فَإِن من عجائب قدرته سَلامَة سيدنَا على ضعف حركته وَالْأَمر كَانَ عَظِيما والمدفع أعظم والسلامة كَانَت غَرِيبَة إِلَّا أَن نقُول وَلَكِن الله سلم وَالسُّلْطَان - أعزه الله - إِذا سلم فَكل النَّاس قد سلمُوا وَإِذا وجد وَقد عدم النَّاس كلهم فقد وجدوا وَمَا عدموا وكل جَوْهَر بالاضافة إِلَيْهِ عرض وَهُوَ جَوْهَر بِالْحَقِيقَةِ مَا عَنهُ من كل جَوْهَر عرض
وَمن كتاب لَهُ إِلَى السُّلْطَان أَوله {ثمَّ أنزل الله سكينته على رَسُوله وعَلى الْمُؤمنِينَ} الْآيَة {وَمَا رميت إِذْ رميت وَلَكِن الله رمى} ورد الْكتاب بِخَط مَوْلَانَا من معترك حربه وتوفيق جهاده قبل أَن تضع الْحَرْب أَوزَارهَا وهرع النَّاس إِلَى المجلسين العادلي والعزيزي يَسْتَمِعُون الْأَخْبَار ويستوضحون من وُجُوههمَا الْأَنْوَار ويسألون كَيفَ كَانَ عَاقِبَة أهل الْجنَّة وعاقبة أهل النَّار ويشكرون الله على سَلامَة أديانهم وَقُلُوبهمْ وأبدانهم وسلامة سلطانهم وَمَا أَدْرَاك