الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَالَ وَلَو حفظت لَكَانَ حفظهَا مُتَعَيّنا وصونها مُمكنا لَكِن وجد كلا لَهُ متجنبا متجبنا وَقد راعتهم نوبَة عكا وحفظها ثَلَاث سِنِين وعادت بعد ذَلِك بمضرة الْمُسلمين وَقَالَ من تعلل وَاعْتذر عَن دُخُولهَا تدْخلهَا أَنْت أَو أحد أولادك فندخلها اتبَاعا لمرادك فَحِينَئِذٍ لم يجد بدا من نقض أسوارها وفض سوارها وسكانها كَانُوا فِي رفاهية فانتقلوا عَنْهَا على كَرَاهِيَة وَبَاعُوا أنفس الأعلاق بأبخس الْأَثْمَان وفجعوا بالأوطار والأوطان
فصل فِيمَا جرى بعد خراب عسقلان
قَالَ الْعِمَاد فَارقهَا السُّلْطَان يَوْم الثُّلَاثَاء ثَانِي رَمَضَان وَنزل على يبْنى وَنزل بالرملة يَوْم الْأَرْبَعَاء وَأمر بتخريب حصنها وتخريب كَنِيسَة لد وَركب جَرِيدَة إِلَى الْقُدس فَأَتَاهُ يَوْم الْخَمِيس وَأعَاد إِلَيْهِ رسوم التأنيس وَخرج مِنْهُ يَوْم الِاثْنَيْنِ ثامن رَمَضَان وَبَات فِي بَيت نوبَة وَعَاد إِلَى المخيم يَوْم الثُّلَاثَاء
وَوصل معز الدّين قَيْصر شاه صَاحب ملطية ابْن قليج أرسلان وافدا عَلَيْهِ مستنصرا بِهِ على أَبِيه وَإِخْوَته فَإِنَّهُم كَانُوا يقصدون أَخذ بَلَده من يَده فَأَقَامَ فِي الْخدمَة السُّلْطَانِيَّة مُدَّة وَتزَوج بابنة الْعَادِل على صدَاق مئة ألف دِينَار وَسَار مستهل ذِي الْقعدَة
وَفِي ثامن الشَّهْر أَيْضا خرج الكمين على ملك الإنكلتير وَكَانَ خرج فِي فوارسه مخفرا للحطابة والحشاشة وَكَاد يُؤْخَذ الْملك لَكِن أحد خواصه فدَاه بِنَفسِهِ بِأَن أظهر حسن لِبَاسه فَظن أَنه الْملك فَأسر
وَقَالَ ابْن شَدَّاد حَال بَينهم وَبَينه فرنجي فَقتل الفرنجي وجرح هُوَ
وَفِي ثَانِي عشرَة جرت أَيْضا وقْعَة كَانَ النَّصْر فِيهَا للْمُسلمين وَقتل مقدم كَبِير من الْمُشْركين وَمَا زَالَ يَقع بَينهم وَبَين اليزك وقعات وتسرق الْعَرَب من خيولهم وبغالهم ورجالهم
وَمن كتاب إِلَى صَاحب سنجار قد تقدم الاعلام بِمَا جرى عِنْد رحيل الْعَدو على قصد عسقلان وَمَا تمّ عَلَيْهِ منا فِي طَرِيقه من النكاية والخذلان وَأَنه قطع فِي سَبْعَة عشر يَوْمًا مَسَافَة يَوْمَيْنِ لما لابسه وغامره من الْحِين وَمَا صدق كَيفَ وصل إِلَى يافا فأظهر بهَا الاستيطان وَأقَام يعمر الْمَكَان
وَهَذِه مَدِينَة يافا متوسطة بَين الْقُدس وعسقلان وَمِنْهَا إِلَى كل وَاحِدَة مِنْهُمَا مَسَافَة نصف نَهَار وكلتاهما من الْعَدو على خوف وحذار وكل وَاحِد من الْمَوْضِعَيْنِ يحْتَاج فِي تحصينه إِلَى ثَلَاثِينَ
ألف مقَاتل وَتعذر الْجمع بَين حفظ الثغرين وتحصين البلدين وتعينت فِي تخريب عسقلان عمَارَة الْقُدس وتحصينه وعصمته من الْعَدو وتأمينه
ثمَّ رَحل السُّلْطَان إِلَى النطرون وخيم على تل عَال والنطرون حصن حُصَيْن كَانَ للداوية لَكِن لما فتح تشعثت أسواره وانقض جِدَاره فَأمر بهدمه فهدم
ثمَّ بعث ملك الإنكلتير رَاغِبًا فِي الْمُصَالحَة والمسالمة إِلَى الْعَادِل وَزعم أَن لَهُ أُخْتا عزيزة عَلَيْهِ كَبِيرَة الْقدر وَأَنَّهَا كَانَت زَوْجَة ملك كَبِير من مُلُوكهمْ وَهُوَ صَاحب صقلية توفّي عَنْهَا وَرغب أَن يَتَزَوَّجهَا الْعَادِل وَيجْعَل لَهُ الحكم على جَمِيع بِلَاد السَّاحِل ينفذ فِيهَا أمره وَهُوَ يقطع الداوية والاسبتار مَا أَرَادَ من الْبِلَاد والقرى دون الْحُصُون وَتَكون أُخْته مُقِيمَة بالقدس وَمَعَهَا فِيهِ قسيسون وَرُهْبَان حافظة لَهَا من آفَات الزَّمَان
فَرَأى الْعَادِل فِي ذَلِك عين الصَّوَاب وشاور السُّلْطَان فوافقه فِيمَا أجَاب
فنفذ الرَّسُول إِلَى الإنكلتير بالاجابة فَدخل الفرنج على الْمَرْأَة وخوفوها واتهموها فِي دينهَا وعنفوها وَقَالُوا لَهَا مَا مَعْنَاهُ هَذِه فضيحة فظيعة وسبة شنيعة وَقطع على النَّصْرَانِيَّة وَقَطِيعَة وَأَنت عاصية للمسيح لَا مطيعة فَرَجَعت عَن ذَلِك وَمَا
أجابت فَاعْتَذر الإنكلتير بِعَدَمِ موافقتها إِلَّا أَن يدْخل الْعَادِل فِي دينهَا فَعرف أَنَّهَا خديعة كَانَت من الإنكلتير
قَالَ القَاضِي وَوصل رَسُول من المركيس يذكر أَنه يُصَالح الْإِسْلَام بِشَرْط أَن يعْطى صيدا وبيروت على أَن يُجَاهر الفرنج بالعداوة ويقصد عكا ويحاصرها ويأخذها مِنْهُم فَأُجِيب إِلَى ذَلِك على أَن يُطلق من بهَا وبصور من الْأُسَارَى وَلما سمع الإنكلتير بذلك رَجَعَ إِلَى عكا لفسخ هَذِه الْمُصَالحَة واسترجاع المركيس إِلَيْهِ
وَجَاء الْخَبَر أَن ملك الافرنسيس مَاتَ بأنطاكية
وَوصل كتاب من تَقِيّ الدّين يخبر فِيهِ أَن قزل صَاحب ديار الْعَجم ابْن الدكز قتل وَجرى بِسَبَب قَتله فِي بِلَاد الْعَجم خطب عَظِيم
قَالَ الْعِمَاد وَكَانَ محتقرا للعظائم مقترفا للمآثم وَاضِعا للشُّرْب والقصف المواسم وَقتل بأصفهان عشرَة من رُؤَسَاء الشَّافِعِيَّة المعروفين وكبرائهم الموصوفين
وَوصل من الدِّيوَان كتاب يُنكر فِيهِ قصد تَقِيّ الدّين خلاط
وَيظْهر فِيهِ الْعِنَايَة التَّامَّة ببكتمر ويشفع فِي حسن بن قفجاق ويتقدم باطلاقه وَكَانَ قد قبض عَلَيْهِ مظفر الدّين باربل ويتقدم بمسيرالقاضي الْفَاضِل إِلَى الدِّيوَان لبت حَال وَفصل أَمر
فَأجَاب السُّلْطَان بِأَنا لم نأمر تَقِيّ الدّين بِشَيْء من ذَلِك وَإِنَّمَا عبر ليجمع العساكر وَيعود إِلَى الْجِهَاد وَأما ابْن قفجاق فقد تقدم إِلَى مظفر الدّين حَتَّى يحضرهُ إِلَى الشَّام فنقطعه فِيهِ وَيكون ملازما للْجِهَاد وَأما الْفَاضِل فَاعْتَذر عَنهُ بِأَنَّهُ كثير الْأَمْرَاض وقوته تضعف عَن الْحَرَكَة إِلَى الْعرَاق
قلت بَلغنِي أَن الْفَاضِل رحمه الله كتب فِي الِاعْتِذَار بالحضور إِلَى الدِّيوَان وتمثل فِي كِتَابه بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ
(مَا كنت أول سَار غره قمر
…
ورائد خدعته خضرَة الدمن)
(مثل لنَفسك شخصي إِنَّنِي رجل
…
مثل المعيدي فاسمع بِي وَلَا ترني)
قَالَ القَاضِي وَأرْسل الإنكلتير إِلَى السُّلْطَان أَن الفرنج
وَالْمُسْلِمين قد هَلَكُوا وَخَربَتْ الْبِلَاد وَتَلفت الْأَمْوَال والأرواح وَقد أَخذ هَذَا الْأَمر حَقه وَلَيْسَ هُنَاكَ حَدِيث سوى الْقُدس والصليب والبلاد والقدس متعبدنا مَا ننزل عَنهُ وَلَو لم يبْق منا وَاحِد وَأما الْبِلَاد فيعاد إِلَيْنَا مَا هُوَ قَاطع الْأُرْدُن وَأما الصَّلِيب فَهُوَ خَشَبَة عنْدكُمْ لَا مِقْدَار لَهُ وَهُوَ عندنَا عَظِيم فِيمَن السُّلْطَان بِهِ علينا ونستريح من هَذَا العناء الدَّائِم
فَأرْسل السُّلْطَان فِي جَوَابه الْقُدس لنا كَمَا هُوَ لكم وَهُوَ عندنَا أعظم مِمَّا هُوَ عنْدكُمْ فانه مسرى نَبينَا صلى الله عليه وسلم ومجتمع الْمَلَائِكَة فَلَا يتَصَوَّر أَن ننزل عَنهُ وَلَا نقدر على أَن نتلفظ بذلك بَين الْمُسلمين وَأما الْبِلَاد فَهِيَ لنا أَيْضا فِي الأَصْل واستيلاؤكم كَانَ طارئا عَلَيْهَا لضعف من كَانَ بهَا من الْمُسلمين فِي ذَلِك الْوَقْت وَأما الصَّلِيب فهلاكه عندنَا قربَة عَظِيمَة لَا
يجوز أَن نفرط فِيهِ إِلَّا لمصْلحَة رَاجِعَة إِلَى الْإِسْلَام هِيَ أوفى مِنْهَا
وهرب شيركوه بن باخل الْكرْدِي من عكا وَكَانَ أَسِيرًا بهَا وَكَانَ ادخر حبلا فِي مخدته فَتَدَلَّى بِهِ من طَاقَة فِي بَيت الطَّهَارَة وَاشْتَدَّ هربا فِي قيوده إِلَى تل العياضية فكمن فِي الْجَبَل وَقد طلع عَلَيْهِ النَّهَار ثمَّ كسر قيوده وَسَار إِلَى الْمُسلمين
ثمَّ تَوَاتر الْخَبَر أَن الفرنج على عزم النهوض فَسَار السُّلْطَان من المخيم بالنطرون إِلَى الرملة سَابِع شَوَّال واقام بهَا عشْرين يَوْمًا فجرت وقعات وتمت دفعات مِنْهَا وقْعَة فِي نَاحيَة يازور وَكَانَ النَّصْر فِيهَا للْمُسلمين وفقد من الْمُسلمين ثَلَاثَة وَذَلِكَ ثامن شَوَّال
وَفِي سادس عشر شَوَّال وَقعت وقْعَة أُخْرَى عَظِيمَة قتل فِيهَا جمَاعَة من الْأُمَرَاء وَأسر فارسان من الْكَفَرَة معروفان بالبأس سوى غَيرهمَا وَقتل مِنْهُم زهاء سِتِّينَ نَفرا
وَفِي خَامِس شَوَّال وصل الْخَبَر أَن الأسطول الْمصْرِيّ استولى على مراكب الفرنج وفيهَا مركب يعرف بالمسطح قيل إِنَّه كَانَ فِيهِ خمس مئة نفر وزائد على ذَلِك وَأَنه قتل مِنْهُم خلق عَظِيم
واستبقي مِنْهُم أَرْبَعَة نفر مذكورون
وَفِي ثامن عشر شَوَّال اجْتمع الْعَادِل والانكلتير على طَعَام ومحادثة وانفصلا عَن توادد ومطايبة وَطلب مِنْهُ الِاجْتِمَاع بِخِدْمَة السُّلْطَان فَامْتنعَ رحمه الله وَقَالَ الْمُلُوك إِذا اجْتَمعُوا تقبح بَينهم الْمُخَاصمَة بعد ذَلِك وَإِذا انتظم أَمر حسن الِاجْتِمَاع
ورحل الفرنج ثَالِث ذِي الْقعدَة إِلَى الرملة وأظهروا قصد الْقُدس بِتِلْكَ الرحلة ودامت الوقعات بَينهم وَبَين الْمُسلمين ورحل السُّلْطَان إِلَى الْقُدس بنية الْمقَام فِي الثَّالِث وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة وَكَانَ الشتَاء قد دخل والغيث قد اتَّصل فوصل إِلَى الْقُدس وَقت الْعَصْر وَنزل بدار الأقساء مجاورة كَنِيسَة قمامة
وَفِي ثَالِث ذِي الْحجَّة وصل عَسْكَر من مصر بأموال وَرِجَال مَعَ أبي الهيجاء السمين وتحول الفرنج إِلَى النطرون فقوى السُّلْطَان اليزك فوقعوا على سَرِيَّة للفرنج فغنموها وسيق مِنْهُم إِلَى الْقُدس نَيف وَخَمْسُونَ أَسِيرًا سوى من قتل مِنْهُم وواقعهم سَابق الدّين عُثْمَان صَاحب شيزر يَوْم عيد الْأَضْحَى فَنحر مِنْهُم وضحى واحتوى على عشرَة من مقدميهم أسرا وقتلا وتسلق بَاقِي الفرنج فِي الْجبَال وَتركُوا خيلهم فغنمها الْمُسلمُونَ
وَلم يزل الْمُسلمُونَ عَلَيْهِم مستظهرين مُدَّة مقامهم بالنطرون وَجعل الْمُسلمُونَ يقطعون الطَّرِيق على تجارهم حَتَّى إِنَّهُم أخذُوا قافلة ثَقيلَة بِمَا فِيهَا وَلم يقدروا على تَخْلِيصهَا فرحلوا عائدين إِلَى الرملة فِي الثَّانِي وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة
وَفِي ذَلِك الْيَوْم وصل من الْموصل خَمْسُونَ رجل برسم قطع الصخور من الخَنْدَق فَإِن السُّلْطَان شرع فِي تحصين الْقُدس وَعمارَة أبراجه وأسواره وحفر خنادقه وَأرْسل إِلَى الْبِلَاد فِي جمع رجال هَذِه الْأَعْمَال وَتقبل الْأُمَرَاء فِيهِ الْعَمَل وَعمل فِيهِ السُّلْطَان بِنَفسِهِ بِنَقْل الْحِجَارَة هُوَ وَأَوْلَاده وأمراؤه وأجناده وَمَعَهُمْ الْقُضَاة وَالْعُلَمَاء والولاة والأمراء
قلت وَفِي قصد الفرنج للسُّلْطَان بالقدس يَقُول الرشيد ابْن النابلسي من جملَة قصيدة لَهُ
(وَيْح الفرنجة بل ويل امهم أَو مَا
…
فيهم لَبِيب على العلات يعْتَبر)
(فكم نثرتهم ضربا إِذا انتظموا
…
وَكم نظمتهم طَعنا إِذا انتشروا)
(كم قد سقيتهم ذلا فَلَا عجب
…
إِن عربدوا سفها فالقوم قد سَكِرُوا)